الكاتبة فاطمة مندي
الكاتبة فاطمة مندي


«قُبلة الندم».. قصة قصيرة للكاتبة فاطمة مندي

بوابة أخبار اليوم

السبت، 20 مايو 2023 - 04:56 م

في صباح يوم كئيب، زارنا ضيف ثقيل على قلبي، تودد إلى والدتي، لازمها فترة طويلة من الزمن، عانت الأمرين في معيته.

 ننفق من معاش أبي، نقطن شقة فخمة، مازلت في المرحلة الابتدائية.

كانت أمي ذلك الحضن الذى يحتويني، لا أدري أنها بحاجة الى ذلك الاحتواء أكثر مني،  ذلك الملاك الذى يحملني إلى آفاق من السعادة؛ لا يدركها غيري، لا أدرى أنها قد هبطت على الأرض بعد أن فقدت جناحيها؛ عندما تعبت من التحليق علينا وحيدة فى سماء العطاء، وعشق الأبناء، كنت أريدها وردة عطرة زاهية دوماً؛ لكن لم أدرك أنها حتماً ستذبل من قسوة الألم! تمنيتها دوماً نادية فارهةٍ حاضرة أمامي؛ لتنفيذ أوامري ورغباتي،  دوماً كنت أحلم أن يظل هذا الجسد جميلاً متماسكاً، تساقطت أوراقها، وذبل عودها، واقتلعت رياح المرض أوراقها، بل وجفت فروعها.

 

 أردتها هادئة ناعمة رقيقة، وماحولها صاخب خشن متدنٍ، أردتها وأردتها، وأردتها، ونسيت أنها  بشر.

 لقد غافلنا هذا الزائر الغدار وقضى علي والدتي، فارقت الحياة استسلمت لقدرها الصادم الصامت مع المرض.

 

كانت دوماً تذكرني وتشدد علي مسامعي أن اجتهدي؛ لكي تكوني طبيبة، وتذكرني أنها وصية والدي لها.

ها هي قد رحلت وتركتني التحف عتمة الليل بمفردي،  كانت سندي، ظهري الذي تعرى بفراقها.

  لي أخ وحيد متزوج، يسكن بعيداً، لم يكمل تعليمه، اكتفي بالدبلوم، امتهن مهنة بسيطة لا تكف لسد حاجته، بعد وفاة أمي، مكث معي في شقتنا، كي يكون بجواري ويوفر إيجار شقته، كما اعتمد على معاش والدي  في أمور حياته، ساقتني زوجته أمامها وكأنني بهيمة، وتجرعت كؤوساً من العذاب.

 

 مرّرت نفسيتي أنا الطفلة الصغيرة، لم أهتم أن أقص علي أخي ما تفعل، بل شغلت نفسي بما هو أهم، دراستي وحلم وأمنية أمي وأبي، كنت أتناول طعامي الذي يكاد لا يكف، لم أهتم، كنت أقوم بأعمال المنزل المختلفة ولا أبالي، كنت أتخطي كل هذه التفاهات، نعم هي كذلك بالنسبة لي هي تفاهات؛ لأنني أرنو إلى هدف أكبر هو أن أصبح طبيبة، نعم طبيبة، تقدمت الصفوف، والمراحل، ووصلت إلى الثانوية العامة، وعلى أعتابها، جاءني خنجر مسموم من زوجة أخي.

قالت له في حدة: لن تكمل تعليمها، تكتفي بالدبلوم مثلك، رفض أخي مطلبها.

لكنها هددته أما طلاقها أو الثانوية العامة، ومبررها أنهم يحتاجون إلى مصاريف كثيرة، وأولادها أهم  وأولى بتلك المصروفات.

حدثها: هذه أموالها، ونحن ننفق معها.

قالت: بل أموالنا.

 مع أنها زينت معصمها وأصابعها بالذهب، بعدما كانت تأتي لوالدتي شاكية ضيق ذات اليد، ووالدتي تكيل لها من مخزوننا، بل وتعطيها أموالا  كثيرة، لأن معاش والدي كبير جدأً، يكفينا ويزيد، وكانت والدتي تدخر لي من الجهاز  كل ما هو غالٍ وثمين، ووضعت لي وديعة باسمي لا تستحق الصرف إلا عند بلوغي السن القانونية.

للأسف أخذت زوجة أخي كل ما ادخرته أمي لي، بعيداً عن الوديعة، ولم أبالِ.

 والآن وضعت أخي في اختيارين، أكمل تعليمي كما أرادني أبي أو طلاقها، وهي أم لأربعة أولاد.

طأطأ أخي رأسه إلى الأرض وحدثني بمفردنا:

وترك لي الاختيار، إما أن أتعلم وأحرمه من صغاره، أو أترك له صغاره واكتفي بالدبلوم.

ولكنه اقترح علي اقتراحاً آخر؛ قال لي: سأدخلك المدرسة الفنية ثم تدرسين الثانوية كما تريدين منازل دون علمها؛ فزوجتي لا تعرف القراءة.

وافقتُ علي هذا الاقتراح، كنت أنهل من العلم كما الجوعان الذي لم يذق الطعام منذ عدة أيام، أهملت المدرسة الفنية، بل تكرر رسوبي بها، كانت غطاء لإكمال دراستي في الثانوية، ثم إلى الجامعة.

كثيراً كانت تتساءل في تهكم: (هي المدرسة دي مش هتخلص)

كنا نبرر لها كثرة خروجي بأنني من كثرة رسوبي أذهب إلي الدروس الخصوصية، وكانت تصمت لأن هذا كان اختيارها.

ذات يوم أخذ ابنها حقنة بنسلين طويل المفعول، كان يعاني من حساسية ضده، ازرق لونه بل وكاد أن يفقد حياته، كنت حينها في خمسة طب، نظر لي أخي بعين الرجاء والاستعطاف.

 كان يعلم أنني قادرة علي إنقاذه، وكانت هي تعشق هذا الابن تحديداً وأنا أعشقه جدا ؛ لأنه ذكي جداً، ولماح، ومرح، ومتحدث لبق.

ورغماً عن أخي قال في توتر وهو يحمل ابنه: اتصرفي يا دكتورة، وبدون أن أتردد لحظة أحضرت حقنة مضادة لحساسية البنسلين، أنقذت  ابن اخي.

فما كان من أمه إلا أنها مدت راحتيها وشدت قدمي رغماً عني وطبعت عليهما قبلة الندم.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة