حمدي البطران
حمدي البطران


«عمتي ناعسة» قصة قصيرة للكاتب حمدي البطران

بوابة أخبار اليوم

الإثنين، 29 مايو 2023 - 12:10 م

عند الربوة العالية، التي تظلها شجرة السنط الكبيرة، يستقر ضريح الشيخ العفيف، جاثما على الأرض، كتابوت فرعوني قديم، كان ضريحه مبنيا بالطوب اللبن، عبارة عن تابوت داخل غرفة مسقوفة بالبوص والجريد وجذوع النخيل.

كان الضريح وهضبته وشجرته، في منطقة بعيدة عن قريتنا، هناك في الحد الفاصل بين قريتنا وقرية اخري، وسط زراعات القمح الممتدة، والتي تشبه سجادة خضراء، يداعبها الهواء فتميل في موجات لامعة تحت الشمس، تغطي مساحة الأرض الشاسعة، والتي سرعان ما يتحول لونها إلى اللون الأصفر الذهبي مشهر مايو.

الربوة العالية تحمي الضريح من الفيضان، الذي كان يغمر المنطقة، في شهري أبريل ومايو. وكانت شجرة السنط، تحمي الضريح من صهد الشمس اللافح في الصيف الحراق عندنا، وتجعل المكان رطبا وباردا، في شهري يوليو وأغسطس.

وأنا صغير، كنت أشاهد النسوة، وهن ذاهبات جماعات، إلى ضريح الشيخ العفيف، كل جماعة من أسرة، أو عائلة، أو حتى جيران في المنازل فقط.

كل واحدة من النسوة، اللاتي كنت أراهن، تتأبط دجاجة، أو إوزة، أو أرنبا ممسوكا من أذنيه. بعضهن كن يأخذن كمية الغلال أقل قليلا من نصف الكيلة، وأكثر من ثلثها، أو قطعا من السكر، كان السكر على هيئة قمع كبير، وكانوا يكسرونه، ويأخذون أجزاء منه. أو كمية الشاي أو القهوة. وبعضهم كن يأخذن ورقة فيها دخان المعسل، خلسة من معسل أزواجهن من أجل النقيبة.

كانت النسوة تذهب في أعقاب انحسار الفيضان، وكنت أراهن وهن يصفقن بأيديهن ويغنين، وعندما يبتعدن عن بيوت القرية كن يرقصن ويتمايلن.

عندما يصبحن على بعد خطوات من الضريح، كانت النسوة تخلعن أحذيتهن، ويتخففن من أغطية رؤوسهن، ويجلسن ساكنات، وكانت نقيبة الضريح، وهي امرأة طاعنة في السن، لا أولاد لها ولا إخوة ولا أهل، كانت تنتظرهن ببشاشة، وتتناول منهن هداياهن الصغيرة، التي أحضرنها قربانا للشيخ الشهيد.

كان جلوس النسوة الغامض، في ساحة الضريح المكشوفة، يثير دهشتي!

وكنت أراهن, وهن يتطلعن إلى الضريح, بنوع من الخشوع الممزوج بالرهبة, غير أن تلك الرهبة, سرعان ما تزول منهن, عندما تقترب النقيبة من احدي السيدات الجالسات, وتضع يدها عند صدرها, ثم تدفعها للخلف, كانت النسوة تتبادلن النظرات, وتبتسمن, وكنت أرى المرأة وهي تنداح على ظهرها, بعد أن تدفعها النقيبة بيدها, وتبدو كالنائمة, ثم تدفعها النقيبة مرة أخري عند كتفها, فتتدحرج , ثم تفعل النقيبة ما فعلته مع المرأة, مع باقي السيدات, فتنداح على الأرض, ثم تدفعها النقيبة وتتدحرج خلف زميلتها, وهكذا, تطوف عليهن النقيبة, حتى تتدحرجن واحدة بعد أخري على الأرض الصلبة والنظيفة, حتى تصبح الهضبة كلها ممتلئة بأجساد النساء المتدحرجة, نحو الهضبة، حتى تصل أولى المتحرجات إلى نهاية الهضبة، في منطقة بعيدة عن الضريح، ثم تقترب من الزراعات.

ولم تبق سوى واحدة، لم تجعلها النقيبة تنداح على ظهرها وتتدحرج مثل رفيقاتها، فقد كانت تشعل النار في الحطب لتصنع نفس دخان في الجوزة للنقيبة، بعد أن تصنع لها الشاي. 

كانت ملابس النسوة، وهن يتدحرجن تطوي أسفلهن، وتظهر بياض سيقانهن ومؤخراتهن المترهلة، والمثلثات السوداء بين أوراكهن.

كانت النسوة تتدحرجن بقوة هائلة وغريبة، كأنهن مغيبات عن الوعي، وغير متحكمات في أجسادهن، التي تتحرك تلقائيا، وأرجلهن مفرودة، وكل واحدة منهن وضعت يديها حول رأسها لتحميها من الارتطام بالحصى الصلبة والأرض القاسية، كان تدحرجهن بقوة خارقة، وحركة منتظمة.

للوهلة الأولي كنت أتصور أن أجسادهن لن تتوقف أبدا، وأنهن سيتدحرجن هنا إلى الأبد، دون أن يتوقفن، وأن أحدا لن يقوى على إيقافهن.

كنت أراقبهن من بعيد، وبعد أن وصلن إلى أسفل نقطة، توقفن، ثم انعكست حركتهن صاعدات للهضبة، وهن تتدحرجن أيضا، عكس اتجاههن الأول، وعندما يصلن إلى شجرة الضريح، كانت حركتهن تنعكس، وتنزلن متدحرجات نحو الهضبة.

ظللن يتدحرجن عدة أشواط، رائحات غاديات، خيل إلى أنهن قد غبن عن الوعي. كانت حركتهن تتسارع شيئا فشيئا.

بعد فترة طويلة. خرجت النقيبة من عشتها، التي كانت بالقرب من الضريح، كانت تستعرض الهدايا التي جاءت بها النسوة للشيخ.

في اللحظة التي خرجت فيها النقيبة من حجرة الضريح، كانت أجساد المتدحرجات قد وصلت إلى الشجرة.

اعترضت النقيبة أجسادهن، عندما اقتربن من الضريح عائدات، وأوقفت أول واحدة منهن عن التدحرج. وبالتالي اعترض جسدها باقي أجساد السيدات المتدحرجات.

أوقفت حركتهن. ومع ذلك لم تنهض المتدحرجات، وظللن مستلقيات في أماكنهن، على الأرض الصلبة تحت ظلال الشجرة العتيقة، بعضهن أسدلن الملابس على أجسامهن لسترها، وبقيت الأخريات تستمعن بلمسات الهواء الباردة على أوراكهن.

 بعد فترة اعتدلت واحدة منهن، وبدأ عليها الإنهاك، ولم تفطن أن ملابسها الطويلة كانت عند رقبتها. وبدت عورتها واضحة، كانت باقي النسوة مثلها، غير منتبهات إلى ما ظهر من أجسادهن. كن مطمئنات أن أحدا من الرجال لن يراهن، لأنه كان اليوم المخصص للنساء، من مريدات الشيخ العفيف.

كنت أقف بعيدا عنهن، أرقب الفئران وهي تقرض النباتات الخضراء، على ضفة قناة صغيرة فيها قليل من المياه.

كانت فيهن عمتي ناعسة !

وفي الليل، كنا نستعد للعشاء، كان أعمامي وعماتي حاضرين، ننتظر أن تأتي أمي بالطبلية، ليتناول أبي وأعمامي العشاء، كنا نتعشى معا، الرجال لوحدهم على طبلية ونحن الأطفال الصغار وزوجة عمي وأمي، على طبلية أخرى أصغر.

جلست بجوار أبي، واندفعت تلقائيا، مدفوعا بقوة مغامرة الصباح، لأحكي، عما شاهدته عند ضريح الشيخ العفيف، وقلت لأبي وأعمامي، إنني شاهدت عمتي ناعسة معهن.

وقتها لم أفطن إلى إشارات التحذير، التي أطلقتها أمي، ولم أفطن أيضا إلى إشارات زوجات عمي لي، بالتوقف عن الكلام.

حاولت أمي تغيير مجرى الحديث، وقالت، إن والدها سيعود من الحجاز الأسبوع القادم، لعل والدي يتنبه إليها، ولا يستمع إلى حكاياتي عن الدحرجة، عند ضريح العفيف.

أبي كان منصتا لي باهتمامي، وسألني عن عمتي ناعسة، كما سألني عما إذا كنت متأكد، أنها كانت هناك، أم أنني رأيت واحدة تشبهها؟

أكدت لوالدي أنني كنت معها هناك، وهي أخذتني معها. 

تدخلت أمي، بعد أيقنت حجم الكارثة، وقالت، أنه ربما اختلط على الأمر، وأن جارتنا سميرة تشبهها. وأنني لم أميز بينهن.

وسألني أبي عما إذا كنت رأيت عمتي ناعسة وهي تتدحرج عند ضريح الشيخ.

أجبته بأنها فعلا كانت عمتي!

وأخبرته بأنني أوقن أنها هي. وأكدت لأبي كلامي، خشية أن يتهمني بالكذب، أنها بالفعل كانت عمتي ناعسة، وأنني رأيت شامة بجوار ركبتها. ولم أفطن إلى خطورة السؤال الذي سأله والدي، مما جعلني أجيبه بأنني فعلا رأيت الشامة التي فوق ركبتها.

كرر والدي السؤال عند ركبتها؟

وكررت أنا نفس الإجابة الواثقة.

بعدها بقليل، بدأ الانفجار العظيم، الذي اجتاح كل شئ في البيت، بدأ من الطبيلة التي أحضرتها أمي، لنأكل عليها، وانتهاء بأمي وزوجات أعمامي.

سمعت فيضانا من الشتائم، وصراخ وعويل، ثم أعقبها ركلات بالأيدي والأرجل، وصفعات على الوجوه، التي نالت الجميع، بما فيهن أنا.

لم أر أبي أبدا، في مثل تلك الثورة. ولا في تلك العصبية، كنت أراه دوما هادئا ووقورا.

وصدرت الأوامر بإحضار عمتي ناعسة من بيت زوجها، حاولت أمي، أن تؤجل الاستدعاء، وذهب إليها بدر ابن عمي الأكبر، واحضرها على الفور.

جاءت على الفور، لم تكن عمتي تدرك ما يدور حولها. لم يسألها أبي عن شئ، ولكنه أنهال عليها صفعا وركلا بكلتا يديه. وبعد أن أنهي أبي الضرب بصق على عمتي، ثم ترك الباحة، وبعدها غادر البيت.

لم أفطن في أول الأمر، أن هذا الذي حدث، كان بفعل حكايتي التي حكيتها، بحسن نية.

كانت عمتي تنتحب بقسوة، وكأن روحها قد اقتلعت، شعرت أنني السبب في بكاء عمتي، فقد تسبب برعونتي، ورغبتي في الحكي في إيذائها.

اتجهت الأنظار كلها إلىّ أنا.

وأنا واقف أرقب ما يحدث، كنت أقلب الأمر على كافة وجوهه، وأفكر في الخطأ الذي ارتكبته، التي لم أجد له تفسيرا مقنعا، يبرر غضب أبي وثورته.

بعد ساعة من خروج أبي، نسي الجميع أمر الضرب، وما حدث من أبي. ورأيت وأمي وزوجة عمي تضحكن، ويتندرن بما حدث فيما بينهن، وكانت أمي تفتخر بأنها استطاعت أن تتحاشى كثيرا من ضربات أبي وركلاته، وأن ما أصابها قليل، أما زوجة عمي، فقالت إنها لم تنل سوى صفعة واحدة، ثم بدأ ضحكهن يتصاعد شيئا فشيئا حتى صار ضجيجا ...

إلا عمتي ناعسة وحدها، كانت تنتحب، وكان بكائها مرا طويلا وخافتا، فطنت إليها زوجة عمي وأمي، واقتربن منها، حضنتها أمي، حاولن تهدئتها، إلا أنها لم تتوقف عن البكاء والنحيب، كان بكائها قاسيا وموجعا. ما جعلني أشعر بنوع غامض من التأنيب، وما راعني أكثر، أنني كنت سببا في نحيبها وبكاءها المر.

كنت أقف بالقرب منهن، وهن يحطن بعمتي، ويحاولن تهدئتها ومنعها من البكاء، وأحضرت لها أمي كوز الماء، وطلبت منها أن تشرب حتى تتوقف عن النحيب، ولكنها لم تتوقف.

من خلال كلامهن أيقنت أن الأمر، يتعلق بشيء غامض. فيما يخص عدم إنجابها، فقد تزوجت عمتي ناعسة من توحيد منذ أكثر من خمس سنوات. ومنذ زواجها لم تنجب، وأنها ذهبت إلى حفلات الزار، وذهبت إلى شيوخ، قرأوا لها في الكتب، وصنعوا لها أحجبة وتمائم، علقتها كلها، ولكنها أبدا لم تمتلئ بطنها، وفي المرة الأخيرة أشارت عليها إحدى جاراتها أن تتدحرج على هضبة الشيخ العفيف.

الغريب أن عمتي ناعسة بعد حفلة الضرب، بدأ بطنها ينتفخ شيئا فشيئا، بفعل بركات سيدي الشيخ العفيف.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة