محمود الوردانى
محمود الوردانى


كتابة

استغماية

أخبار الأدب

السبت، 03 يونيو 2023 - 01:41 م

‭ ‬في‭ ‬روايتها‭ ‬‮«‬استغماية‮»‬‭ ‬الصادرة‭ ‬أخيرا‭ ‬عن‭ ‬الدار‭ ‬المصرية‭ ‬اللبنانية،‭ ‬اختارت‭ ‬الكاتبة‭ ‬كاميليا‭ ‬حسين‭ ‬ألا‭ ‬تطلق‭ ‬أسماء‭ ‬على‭ ‬شخوصها‭ ‬جميعا،‭ ‬وهي‭ ‬ليست‭ ‬مصادفة،‭ ‬فلا‭ ‬أسماء‭ ‬مطلقا‭ ‬للكبار‭ ‬والصغار،‭ ‬ومن‭ ‬يبدون‭ ‬أساسيين،‭ ‬وكذلك‭ ‬من‭ ‬يبدون‭ ‬عابرين‭.‬

من‭ ‬جانب‭ ‬آخر،‭ ‬لايخرج‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬رسمته‭ ‬الكاتبة‭ ‬بدقة‭ ‬ورهافة‭ ‬عن‭ ‬الثنائيين‭ ‬الزوج‭ - ‬الأب‭ ‬و‭ ‬الأم‭ - ‬الراوية‭. ‬تماهى‭ ‬كل‭ ‬ثنائي‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬واختلطا‭ ‬وامتزجا‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬متعمد‭.‬

‭ ‬أكاد‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬الكاتبة‭ ‬حاصرت‭ ‬عملها‭ ‬وكبّلته‭ ‬ولجمّته‭ ‬متعمدة‭. ‬ليست‭ ‬هناك‭ ‬أحداث‭ ‬تجري،‭ ‬ليست‭ ‬هناك‭ ‬حكاية‭ ‬تُحكى‭. ‬ففي‭ ‬الفقرة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬تتساءل‭ ‬الراوية‮»‬‭ ‬ماذا‭ ‬لو‭ ‬دق‭ ‬الباب‭ ‬غريب‭ ‬يدّعي‭ ‬أنه‭ ‬زوجي؟‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬هل‭ ‬أسمح‭ ‬له‭ ‬بالعودة؟”وفي‭ ‬السطر‭ ‬الأخير‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يختلط‭ ‬علينا‭ ‬نحن‭ ‬القراء‭ ‬الأمر‭ ‬بشأنها‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬الراوية‭ ‬أم‭ ‬قرينتها‭ ‬التي‭ ‬تخايلها‭ ‬عبر‭ ‬النافذة‭ ‬التي‭ ‬تفصل‭ ‬بينهما‭ ‬طوال‭ ‬صفحات‭ ‬الرواية،‭ ‬وهي‭ ‬تصفع‭ ‬الباب‭ ‬وراءها‭ ‬وتتخذ‭ ‬قرارا‭ ‬مؤجلا‭ ‬بأن‭ ‬تترك‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬وراءها‭ ‬وتمضي‭.‬

‭ ‬علمتُ‭ ‬أن‭ ‬‮«‬‭ ‬استغماية‮»‬‭ ‬هي‭ ‬الرواية‭ ‬الأولى‭ ‬للكاتبة،‭ ‬ويهمني‭ ‬أن‭ ‬أؤكد‭ ‬هنا‭ ‬أنها‭ ‬رواية‭ ‬مكتوبة‭ ‬بمهارة‭ ‬ودقة‭. ‬تمضي‭ ‬هادئة‭ ‬بلا‭ ‬قلقلة‭ ‬أو‭ ‬ارتباك،‭ ‬فالكاتبة‭ ‬تملك‭ ‬أدواتها‭ ‬تماما،‭ ‬وتعرف‭ ‬جيدا‭ ‬دقائق‭ ‬الكتابة،‭ ‬وقادرة‭ ‬على‭ ‬الإحكام،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬تحاصر‭ ‬عملها‭ ‬وتحصره‭ ‬في‭ ‬فصول‭ ‬قصيرة‭ ‬وأشخاص‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعدهم‭ ‬على‭ ‬أصابع‭ ‬اليد‭ ‬الواحدة‭. ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬مشغولة‭ ‬بالحكاية‭ ‬نفسها،‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬حكاية‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬الأمر،‭ ‬وليس‭ ‬مؤكدا‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬وقائع‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تروى،‭ ‬أو‭ ‬تخيلت‭ ‬الراوية‭ ‬أنها‭ ‬وقعت‭.‬

أريد‭ ‬أن‭ ‬أشير‭ ‬أيضا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أعتبره‭ ‬تأكيدا‭ ‬لقدرة‭ ‬كاتبة‭ ‬تخلّصت‭ ‬تماما‭ ‬مما‭ ‬يسمّى‭ ‬بعيوب‭ ‬الكتابة‭ ‬الأولى،‭ ‬وعرفت‭ ‬كيف‭ ‬تنأى‭ ‬بروايتها‭ ‬عن‭ ‬النهنهة‭ ‬العاطفية،‭ ‬وأوهام‭ ‬النوستالجيا،‭ ‬والذكريات‭ ‬الناعمة،‭ ‬والبكاء‭ ‬على‭ ‬الأطلال،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬شراك‭ ‬خداعية‭ ‬تجتذب‭ ‬الكاتب‭ ‬عادة،‭ ‬لكنها‭ ‬نجت‭ ‬منها‭ ‬بنجاح،‭ ‬واختارت‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬نصا‭ ‬قاسيا‭ ‬صادما،‭ ‬وحصرته‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬قليلة‭ ‬وشخوصا‭ ‬أقل،‭ ‬يتبادلون‭ ‬مواقعهم‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬الزوج‭ ‬يتماهى‭ ‬مع‭ ‬الأب،‭ ‬ويشترك‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬ملامحه‭ ‬وسلوكه‭ ‬وممارساته،‭ ‬فإن‭ ‬الزوجة‭ (‬التي‭ ‬تروي‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬لسانها‭ ‬بضمير‭ ‬الأنا‭) ‬تتماهى‭ ‬مع‭ ‬الأم‭ ‬التي‭ ‬اعتاد‭ ‬الأب‭ ‬أن‭ ‬يضربها‭ ‬بحزام‭ ‬ينتهي‭ ‬بحلقة‭ ‬معدنية‭ ‬تفتح‭ ‬رأسها،‭ ‬وتنتهي‭ ‬حياتها‭ ‬والراوية‭ ‬لم‭ ‬تزل‭ ‬في‭ ‬الثامنة‭ ‬من‭ ‬عمرها،‭ ‬والأخيرةسيكون‭ ‬عليها‭ ‬بعد‭ ‬مرورعقود‭ ‬أن‭ ‬تتخذ‭ ‬القرار‭ ‬المؤجل‭ ‬برفض‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬ومغادرته‭.‬

يهمني‭ ‬أن‭ ‬أؤكد‭ ‬أيضا‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬جوانب‭ ‬قوة‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬عدم‭ ‬اللجوء‭ ‬للصوت‭ ‬العالي،‭ ‬وعلى‭ ‬الأخص‭ ‬عندما‭ ‬تحكي‭ ‬الراوية‭ ‬ما‭ ‬يستلزم‭ ‬الصراخ‭ ‬والضجيج،‭ ‬مثل‭ ‬مشاهد‭ ‬ضرب‭ ‬الأم‭ ‬أو‭ ‬تعذيب‭ ‬الزوجة‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬أبيها‭ ‬المريض‭ ‬المعلّق‭ ‬بمحاليله،‭ ‬أو‭ ‬تجاهل‭ ‬الزوج‭ ‬لزوجته‭ ‬وابنته،‭ ‬أو‭ ‬المعارك‭ ‬المكتومة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تندلع‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭.‬لاتكمن‭ ‬قوة‭ ‬مشاهد‭ ‬عنيفة‭ ‬كتلك‭ ‬في‭ ‬اعتمادها‭ ‬على‭ ‬الصوت‭ ‬العالي‭ ‬والصراخ،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تختصر‭ ‬وتختزل‭ ‬ويُشار‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬بعيد‭.‬

هذه‭ ‬كاتبة‭ ‬حريصة‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬التورط‭ ‬العاطفي،‭ ‬والكتابة‭ ‬وهي‭ ‬بمنأى‭ ‬عن‭ ‬الحلول‭ ‬الفنية‭ ‬سابقة‭ ‬التجهيز،‭ ‬والاستبعاد‭ ‬والحذف‭ ‬والمزيد‭ ‬من‭ ‬الحذف،‭ ‬وتبقى‭ ‬الحكاية‭ ‬جارحة‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬حد‭ ‬وغير‭ ‬مؤكدة‭ ‬أيضا،‭ ‬وليس‭ ‬المهم‭ ‬هو‭ ‬ماذا‭ ‬جرى‭ ‬تحديدا‭ ‬بل‭ ‬كيف‭ ‬جرى‭.‬

لكل‭ ‬هذا‭ ‬أشكر‭ ‬الأستاذة‭ ‬كاميليا‭ ‬حسين‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المتعة‭ ‬الفائقة‭.. ‬كتّر‭ ‬خيرك‭ ‬يا‭ ‬أستاذة‭.‬

[email protected]


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة