الدكتور طارق الزيات
الدكتور طارق الزيات


«ستون دقيقة» قصة قصيرة للكاتب الدكتور طارق الزيات

صفوت ناصف

الثلاثاء، 13 يونيو 2023 - 12:00 م


كانت أصوات الموسيقى الناعمة التي تملأ جنبات الفندق ذي الخمس نجوم وتتناغم مع وقع خطواتها الواثقة وهي تخطو على الأرض الرخامية بكعب حذائها المدبب الذي تمازج لونه الأورجواني  مع فستانها الحريري السكري، أظهر جمال قوامها الممشوق المعتدل، وتماشى مع بشرتها الخمرية الصافية .

دلفت مباشرة إلى إحدى قاعات الفندق حيث يقدمون القهوة والمأكولات الخفيفة وتوجهت إلى طاولة يجلس عليها رجل يبدو أنه في نهايات الأربعينات، و قف الرجل عندما رآها وألقت عليه التحية وصافحته فدعاها للجلوس.

جلست على الأريكة المواجهة لكرسيه، فاستدار قليلاً  كي يضع ساق على ساق، وارتكزت هيا بساعديها على الطاولة وهي تنظر إليه مبتسمة بهدوء وقالت:

-           أشكرك على وقتك وآسفة إن كنت قد ألححت عليك.

قال وهو يبتسم ابتسامة وقورة وينظر لها مباشرة في هدوء نظرة وديعة ومحايدة:

-           العفو ... الحقيقة لقد تأخرت عن تلبية طلبك لأنني كنت مشغولاً وما أن وجدت فرصة سانحة  للقاء اتصلت بك كما طلبتي ، فأرجو أن تقبلي اعتذاري عن التأخير يا سيدتي.

-           آنسة من فضلك .

-           اغفري لي.

-           العفو ... الحقيقة أنا لدي موضوع لا يمكن لأحد أن يحله سواك، فهل لديك متسع من الوقت.

-           نعم أمامي ساعة .... تفضلي.

-           تعلم منذ تقابلنا في منزل صديقتي وزوجها وحديثنا الذي لم يكتمل بسبب كثرة المدعوين وأيضاً لكونهم جميعاً يرغبون في الحديث معك، لقد انسحبت بهدوء حتى لا أحرمهم من حقهم  وحقك في التواصل.

-           أنا آسف .. لم يكن الأمر بيدي.

-           أعلم بالطبع... سوف أدخل في الموضوع مباشرة.

-           أرجوكي... ولكن قبل هذا ماذا تشربين؟

-           أي شئ .. اطلب لي أنت.

أشار إلى النادلة التي كانت تقف ترقبهما على أهبة الاستعداد فجاءت مسرعة وهي تمسك بيدها قائمة المشروبات والأطعمة وقالت لهما :

-           هل تحبون أن تطلبوا الآن أم أعود بعد قليل؟

قال :

-           لا .. سوف أطلب الآن .. قهوة سادة لي وعصير برتقال للآنسة.

-           حسناً .. أي شئ آخر.

-           لاحقاً سنطلب .. شكراً.

انصرفت النادلة بسرعة والتفت هو إليها وقال:

-           آسف .. تفضلي.

-           لقد عرفت اسمي طبعاً ولكن اسم سلمى ليس اسمي الحقيقي ولكنهم ينادونني به لأن اسمي الحقيقة هو سالمة، لا أعرف لم  اختاروه ولكنهم أسموني هكذا، لك الخيار أن تناديني كيفما شئت.

-           الاثنان جميلان.

-           من لطفك يا أستاذ ...

قاطعها قائلاً:

-           ناديني هاني ولا داعي للتكليف.

-           حسناً يا هاني .. كل ما أريد أن أقوله لك إنني كما تعلم طبيبة وسوف أطلعك على عمري، أنا في الثلاثين من عمري .. والدي متوفٍ منذ كنت في العاشرة وليس لي إخوة أشقاء والدتي تزوجت منذ عشر سنوات و لي أخ غير شقيق عمره ثماني سنوات وأنا أعيش وحيدة ودخلي جيد ولا توجد مشكلة  في حياتي سوى واحدة فقط  تؤرقني،  لذا رأيت أنك الشخص الذي أستطيع أن أبوح له بمشكلتي ويستطيع أن يحفظ سري ويساعدني في حلها.

-           حسناً يا سالمة .. أشكرك على ثقتك وتأكدي أنني سوف أبذل قصارى جهدي لمساعدتك.

اعتدلت سالمة في جلستها وعادت بظهرها إلى ظهر الأريكة ووضعت ساقاً فوق ساق وقالت بثبات:

-           مشكلتي يا هاني أنني أحبك.

-           عفواً .. هل سمعتك بشكل صحيح؟

رفعت سالمة صوتها قليلاً وقالت بذات الثبات:

-           نعم أحبك .. منذ رأيتك من شهرين وأنت لا تفارق عقلي ولا خيالي .. أصحو وأنام على صوتك وعلى صورتك .. أحبك ومتأكدة أنه حب وليس مجرد إعجاب  بشاعر استثنائي.

تحرك هاني بهدوء وأنزل رجله ووضع يده اليمنى على الطاولة وبدأ ينقر عليها بهدوء وهو ينظر إلى الأسفل ثم توقف فجأة ونظر إلى سالمة وقال لها بتؤدة وتأني وهو ينظر إلى عينيها المتوسلتين مباشرة :

-           سالمة ... دعيني أقول أن وصفك بالجمال هو ظلم كبير لك، أنت فاتنة بالمقاييس المطلقة لا النسبية، تصريحك مغري لأي رجل في سني أو أصغر أو أكبر، من المفترض أن  أشعر بالإطراء الشديد .. لا أخفيك سراً إنني أشعر بالإطراء، لكن هل تعرفين عمري حقا؟

-           لن تزيد عن خمسين عاماً، وإن زدت فهذا أمر لا أهمية له ، هل أنا لا أعرف أن هناك فارق كبير في السن؟!!!

-           بكل تأكيد تعرفين ولكني تجاوزت الخمسين بعدة أعوام.

ردت بصوت ممزوج بالضعف والخوف والقلق ويكاد يكون همساً وهي تقلب كفيها:

-           أحبك .. ماذا أفعل، حاولت أن أكف ولم أفلح.

-           لقد فاجئتني بتصريحك، ولو تركت نفسي لهواها لقلت لك إنني أحبك أيضاً .. من يستطيع أن يقول أنه لا يحبك، دعيني أقول لك، لقد أدركت من الحياة شيئاً مهماً وهو أنني لا يجب أن أشارك أحد في ارتكاب جريمة في حق نفسه مكتفياً بوضع اللوم عليه مع كل التبريرات السخيف الأنانية مثل هذا اختيارها وهي كبيرة كفاية ولم يضربها أحد على يدها.

-           الجريمة البشعة هي أن ترفض حبي.

-           أرفض حبك .. هل قلت هذا؟

-           إذاً ما معنى كلامك.

-           لا يوجد على وجه الأرض من لديه فطرة سليمة يرفض الحب عندما يقدم له، ولكن أعني أن ترجمة هذا الحب إلى واقع ينتهي بارتباط هو ظلم لك، في عمرك تحتاجين شاباً يحبك ويريد أن يعيش معك عمره كله، تتشاركان بناء مستقبلكما وتسعدان سوياً، لن تحتاجي إلى جانبك رجل ارتشف الحياة رشفة رشفة بحلوها ومرها واطلع على حقيقتها فلم تعد تساوي لديه الكثير، ولا يسعده في حياته إلا حب الناس وثقتهم فيه، رجل كل طاقته موجهة للناس وليس لنفسه، فكيف يوفر لك هذا الرجل سعادة وحياة ممتدة تستحقينها بينما يشاركك فيه كثر .. إن مسئوليتي الأخلاقية والإنسانية تمنعني من مجاراتك فيما سيسعدني بالتأكيد ويشقيكي.

-           أنا لست قاصر يا هاني وأدرك تماماً ما أفعل .. لو لم تتجاوب معي فإن هذا لن يغير من الأمر شئ، سوف أظل أحبك كما أحبك الآن، الحقيقة إنني الآن أحبك أكثر مما كنت عليه قبل أن أبوح لك، لم تخيب ظني فيك، أنت هو أنت، ما تقوله هو ما تفعله وما تفعله هو ما تقوله، أنت لا تتحدث بكلمات من طرف لسانك وتفعل عكسها، دونك سأظل بلا رفيق طوال حياتي، أليست هذه جريمة، أليس هذا قتلاً، أليس هذا إعداماً لي و لقلبي؟

عاد هاني مرة أخرى ينقر الطولة بأصبعه تارة ويعبس بالمناديل الورقية تارة أخرى وهو ينظر إلى الأرض ثم  نظر إلي سالمة  صامتاً لا يتحدث فقالت له:

-           لا تتحدث .. أرجوك لا تقل كلمة واحدة، دعني أنظر إلى عيناك .. إلى ملامحك، كل نظرة و كل تعبير على وجهك يقول أنك تحبني، لا تكذب شعوري أرجوك ، لا تتحدث أبداً إلا بكلمة واحدة.

أمالت رأسها قليلاً للأمام  واستندت ثانية بمرفقيها على الطاولة وتحدثت هامسة وهي تنظر إليه :

-           قلها ولا تقتلني بالكذب.

تناهت همسات سالمة إلى الطاولة المجاورة وعليها تجلس سيدة أربعينية وصديقتها فالتفتتا ناحية سالمة وهاني ونظرتا إليهما فلفت الأمر نظر هاني فقال:

-           أرجوكي يا سالمة الناس تنظر إلينا

قالت:

-           لينظروا .. دعهم ينظروا، أنا لا أشعر بوجودهم، لا أشعر بأحد سواك، أرجوك مد يدك واعطني كفيك.

مد هاني يده بهدوء وهو مستسلم خجل ينظر إليها في توسل، فألقت بعينيها في عينيه وشبكت كفيها بكفيه فاهتز قلبه وشعر بنبضها في أطراف أصابعها ، وقالت وهي حالمة بصوت رخيم متهدج مسموع للجميع:

هل رأيت يوم  اعتقلت روحي في عينيك

هل رأيت  اشتياق  يدي إلى لمسة يديك

هل رأيت

هل رأيت الوجد ساكنٌ قسمات وجهي

هل رأيت العشق يمضي  في جنبات قلبي

هل رأيت

هل  سمعت النبض يصرخ في عروقي

هل سمعت النظم يشدو بين ضلوعي

هل سمعت

هل سمعت الحب يشكو يوماً من أنيني

هل سمعت العمر يخبر يوماً عن حنيني

هل سمعت.

هل لمست يوماً جرحي  النازف من  فؤادي

هل لمست يوماً جفني الذي أسبله سهادي

هل لمست.

فإن ترفقت بي ورويتني  بهمسة من شفتيك

فاكمل طيب صنيعك و دعني أسيرة لديك

 

كانت دموع سالمة تسيل في خشوع بعد أن أنهت القصيدة وقالت بصوت متهدج:

-           هذا أنت كما أراه وهذه أنا كما أرى نفسي، هذه ليست كلمات منظومة يا هاني، هذه روحي متجسدة في تلك الكلمات... هل تعرف ، لقد ظننت أنني لم أكتبها، لقد كان قلبي يملي علي كل كلمة، كانت نفسي هي المداد الذي طبعت به حروفي  .. لا تدع نقاء قلبك يقتل براءة حبي فكم من جرائم قتلت أنفس بداع النقاء و الحكمة و التعقل.

قال هاني وهو مرتبك الشعور مشفق عليها وهو  لا يدري ما الذي يحدث :

-           هل أنت من كتبت القصيدة؟

-           نعم .. يوم عدت من لقائنا.

-           هل تكتبين الشعر.

-           لا .. هذه أول مرة ... أنت الذي دعوت كلماتي فجاءت مبتهجة تتراص شعراً كي تعجبك.

-           أرجوك يا سالمة كفى .. ألا تعرفين أن قلوبنا هشة لا تحتمل.

-           لن أكف .. لن أكف أبدا .. لو كففت عن حبك لكففت عن الحياة .. انظر حولك .. انظر كيف ينظر الناس إليك.

سحب هاني كفيه من كفي سالمة ونظر حوله، كانت السيدتان من الطاولة  قد استدارتا تماماً يسمعون كلمات سالمة والنادلة  واقفة تحمل الطلبات وهي لا تستطيع أن تقاطع هذا المشهد وبعض الهمسات والهمهمات تترامى إلى مسامعه:

" هاني رٌحيم .. هاني رٌحيم "

اسند هاني ظهره مرة ثانية إلى ظهر المقعد وأطرق برأسه والهمهمات تتزايد وصوت الملاعق والشوك والسكاكين التي تصدر رنيناً على الأطباق الخزفية تشوش تفكيره وبقى برهة حتى استعاد ثباته وهدوءه  فرفع رأسه ناحية سالمة وعندما هم أن يضع يده على الطاولة كاد يطيح بفنجان القهوة فقال:

-           هل أحضرت النادلة القهوة؟!!

قالت سالمة:

-           نعم وحدثتك ولم ترد عليها .

-           سالمة، لقد بدأنا حديثنا منذ ثلاثين دقيقة فقط .. أنا مشوش ولا أعرف ماذا أقول.

-           لا تقل شيئا.. لا تقل شيئاً، حتى صمتك يرضيني، لست مضطراً أن تقول أي شئ، فقط لا تقول أنك لا تحبني، ليس من الضروري أن تقول أنك تحبني الآن ..هاني أرجوك يا هاني دعني أخرج من هذا المكان ببعض الأمل.

بدت الحيرة على وجه هاني، لقد طرقت سالمة أبواب قلبه بقوة، لم يدر إن كان يشفق عليها من فرط حبها أم يشفق على نفسه من  تجاذبات عقله وقلبه، كم من معجبات لاحقنه وكم منهم تقربوا منه، كان دوماً قادراً على صدهم برقة ولياقة وتهذيب، الآن يجلس قبالة سالمة بعد دقائق من الحديث، دقائق قليلة جداً استطاعت خلالها أن تخترق روحه، يعرف كيف يكون الحب الصادق، كيف يكون الشعور النبيل، ولكن أي عقل وأي منطق يسمح له بالتمادي معها، كان غارقاً في أفكاره ولم يقطعها إلا صوت سالمة وهي تقول:

-           هاني ...

التفت إليها كالعائد من رحلة طويلة يحمل في قلبه اشتياقاً للنظر إليها وقال :

-           نعم .

-           لا تشغل بال بأحكام العقل، ألست أنت القائل:

الحب متمرد على أحكام الزمان

الحب هائم راحل لا يحده مكان

الحب خاطرة حائرة تستوطن النفس

الحب سهم طائش يقر في الوجدان

الحب لا عقل له ولو كان له ما كان

الحب أثم و فضل وفضيلة  وإحسان.

-           نعم قلت.

-           إذاً دع عنك الإثم وداوني بالفضل والإحسان.

-           تقولين إني أقتلك وأنت تطعنيني بكلماتي .

-           أنا أسيرة لا أملك قتلا.

-           فكيف ملكت الأسيرة قلب الآسر.

-           يا ليت .. يا ليت يا هاني.

-           هل تمهليني بعض الوقت.

-           لا .. لن أمهلك، أنت لي.

-           هكذا.

-           هكذا... كل ما عليك أن تفعله هو أن تقبل.

-           أنا خائف .. هل تفهمين.

-           أنت خائف من أن تظلمني .. لا تشغل بالك بي فقد حسمت أمري، هذه رسالتي إليك، كنت سوف أسلمها لك وأرحل في حال رفضت والآن لا حاجة لها -------------- ثم أمسكت بالرسالة و مزقتها.

-           ألا تفصحين عن فحواها.

-           أنت أذكى من أن لا تعرف فحواها------- ثم أمسكت كوب البرتقال وارتشفت منه رشفة صغيرة.

-           هل أطلب لك كوب آخر، اعتقد أن العصير لم يعد باردا.

-           لا .. لا أحب البرتقال.

-           حقاً .. لم لم تطلبي شيئاً آخر.

-           أنت لا تفهم .. لقد طلبته لي فكيف أرفضه.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة