محمد كمال سالم
محمد كمال سالم


«الكرنك».. قصة قصيرة للكاتب محمد كمال سالم

بوابة أخبار اليوم

الأحد، 25 يونيو 2023 - 02:56 م

صور تتواتر، نغم يتردد في أذني، أينما ارتحلت، مهما استطالت بيّ الأرض، وبعدت المسافات، تلك النافذة الواسعة المطلة على المنور بين بيتنا وبيت الجيران، وصوت آلة الفلاوت الساحرة للموسيقي الشهير جارنا، تأسرني، تجعلني أتجمد علي هذا الشباك لساعات.

 

ذلك الأمان العجيب بين دورنا وأبوابنا المواربة، وطائرات ورقية عملاقة, يُطيرها أخوالي، أو من هم في منزلتهم, بعد أن ينكسر حر الظهيرة، ومع أول نسمات الأصيل الجاف، كادت إحداها أن تخطف أحد أقراني كنسر جارح، لولا السياج الخشبي العتيق للسطوح، منعه أن يرتفع للسماء، مُمسكا بحبل الطائرة المشدود.

 

بيضتان طازجتان، أقتنصهما من تحت أفراخ أمي المشاغبة، أقارن بين قطريهما، وبين تلك الكرة الأرضية البرونزية العملاقة، التي يحملها رجال عمالقة، فوق بناية خديوية عتيقة، تقبض علي ناصية الشارع كالطود العظيم، وكأنها وكلت لحراسة هذا الحي.

اسأل أمي: لم أتينا إلى بيت جدتي، وتركنا بيتنا؟!

قالت : بيتنا طيب يا صغيري، صان عشرتنا وتنفس، أمهلنا وسمح لنا أن نُغادره.

 

بعُدَت المسافة بين حانوت أبي المجاور لبيتنا القديم، وبيت جدتي، وطال مشواري المعتاد في إجازتي المدرسية، كي أسبق أبي وأفتح المحل، حتى يستيقظ ويلحق بي.

 

وفي هذا اليوم، بعد أن فتحت المحل بقليل وإذا بصخب وهرج من أهل الشارع, يهرولون في فزع, يحيطون بيتنا بالحواجز يمنعون الناس من المرور، ووقفوا يراقبون البيت من بعيد وهو يدير وجهه للشارع وأنا بينهم.

أصدر صوتا كالرعد ثم بدأ يسقط في مكانه ينبعث منه غبار كثيف جدا وكأنه سحاب ثقيل, كأنه بركان تفجر.

 الناس تجري في هلع أسلمت ساقي للريح وكذلك قلبي الذي أحسست أنه ينقبض تحت الركام.

لم يمنع باب المحل الزجاجي، الذي أغلقته على روحي من أن يكسوني الغبار وكأني خرجت الآن من قبري من بين التُراب.

تصُب أمي علي رأسي الماء الساخن والصابون تزيل عن بدني غبار بيتنا المتهدم, بينما كانت تئن في صمت عميق أسمع نشيجها المكتوم إلي الآن بينما عيناها الجميلتان غاصت في غياهب الحيرة والمجهول.

راح عقلي يسترجع صورتها, تقف أمام موقدها الغازي المحلي, تعالج صينية الكنافة تسويها أنا وإخوتي نجلس تحت قدميها في لهف بعد صيام يوم قائظ بينما يصدر من الراديو الخشبي موسيقى شهرزاد تعلن عن بدء حلقة جديدة من ألف ليلة وليلة أُسائل نفسي هل نعود للذهاب مساء كل أحد لسينما الكرنك الصيفي، وأم كلثوم تصدح قبل العرض بأغنيتها الجديدة "أنت عمري"؟

واللعب مع أقراني من عيال البيت مرة أخرى في حديقة الأزبكية.

كلما زرتها في قبرها أسلم عليها أسألها: لم يا أمي لا يزيل حماميّ الساخن غبار بيتنا القديم؟!


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة