أم كلثوم مصدر إلهامه و«الجرامفون» يصدح بصوتها ليل نهار
أم كلثوم مصدر إلهامه و«الجرامفون» يصدح بصوتها ليل نهار


عندما قال لملهمته: «أطاوع في هواك قلبي وأنسى الكل علشانك»

الأخبار

الأربعاء، 28 يونيو 2023 - 09:06 م

فى الخامس من يونيو 1967 ذقنا مرارة الهزيمة التى أزاحها من صدورنا أبطال قواتنا المسلحة فى يوم النصر «السادس من أكتوبر 1973»، وبعد 14 سنة من تاريخ الهزيمة، وفى ذات اليوم 5 يونيو 1981 استيقظنا على خبر أليم بثته كل الإذاعات ونشرته كل الصحف عن رحيل شاعر الشباب أحمد رامي الذى أبهجنا وأسعدنا وعلمنا بكلماته وقصائده وأشعاره حلاوة «الرومانسية» التى سمعناها منغمة على لسان المعجزة الإلهية سيدة الغناء أم كلثوم التى هام بها وكتب لها أروع أغانيها.

كنت أحلم أن ألتقيه، أجلس إليه، أتأمل تقاطيع وجهه التى نحت عليها الزمن أسراره، طرحت رغبتى على عم عبد الله أحمد عبد الله الشهير بميكى ماوس ونحن فى «كافيه ريش»، وبعد أقل من 24 ساعة أخبرنى أننا سنلتقى فى «ريش» لنذهب لمقابلة شاعرى وشاعره المفضل، كان اللقاء الأول والأخير، فبعد فترة قصيرة ازداد عليه المرض والاكتئاب الذى تمكن منه بعد رحيل ملهمته ورحيل أصدقائه الواحد تلو الآخر! 

عندما جلست أمامه قلت له وأنا أتأمله: «جئتك بالواسطة.. بدون الأستاذ عبد الله أحمد عبد الله ما كانت الظروف سنحت بمقابلتك»، رمقنى بنظرات من عينيه الضيقتين وارتسمت على وجهه ابتسامة اتبعها بقوله: «أنت مكبر الموضوع قوى، أنت يعنى مفكر نفسك جاى تقابل ملك ولا أمير، وعموما أهلا بكما فى منزلكما».

تدخل كاتبنا الساخر عبد الله أحمد عبد الله قائلا: «أصله ما يعرفش بساطتك وتواضعك يا أستاذنا، لم يشاهد كتاب الأغانى الذين كانوا يأتون لك لتوجههم وتكتب لهم مقدمات دواوينهم»، مال برأسه وهو يقول بصوتٍ خافتٍ: «ده واجب علينا، تواصل الأجيال مطلوب، صحتى لم تعد مثل الأول.. أجبرتنى على تقليل مقابلاتى وأرجو إن محدش يزعل منى».

قبل أن نصل إلى بيته اتفق معى عم عبد الله ألا نطيل الزيارة لكى لا نرهقه، لهذا لم تستغرق المقابلة أكثر من 25 دقيقة سألته خلالها عن الوقت الذى تعود أن يكتب فيه فقال: «صدقنى.. كنت أكتب عندما أجد نفسى ميالاً للبكاء!»، 

قرأ الدهشة فى وجههى واستكمل «أليس فى هذا ما يثير العجب؟»!. 

تذكرت ما قرأته عندما سئل عن الشيطان الذى يلهمه إبداعاته فقال: «أنا لا أسميه شيطانا، بل ملاكا يهبط علىّ عندما أكون فى وحدة»، وقال فى حوارنا القصير إنه كان يكتب أغانيه فى الليالى القمرية، كانت تأتيه الأشعار فى أى مكان يتواجد فيه، ومتعته تكون عندما يأتيه الإلهام وهو على كرسى يهتز به داخل الترام، وقال إنه كان يلحن ما يستوحيه ويترنم به داخل الترام غير عابئ بالركاب، وتعود أن يغنى كلماته بصوته بعد أن يصنع لها اللحن المناسب، وعندما تكتمل الأغنية كان يدونها بالقلم الرصاص على ورق من الفلوسكاب، وضحك وهو يقول: 
- «كنت كاتبا صيفيا، أقصد أننى كنت غزير الإنتاج فى الصيف أكثر من الشتاء، وأحب أن أكتب فى الهواء الطلق، أستمد من ضوء النجوم أجمل تعبيرات النسيم الذى يحمل لى رائحة الأزهار، وأحبها لقلبى الفل والياسمين، وقال إنه مثل سيد درويش، كان يسير وراء الباعة، لكى يستمع لما ينادون عليه، ويحفظ كلمات المنغمة بترديداتٍ لحنيةٍ متنوعة.

هذا هو شاعر الشباب، شاعر الحب، شاعر أم كلثوم، شاعر الأمة التى ترنمت بكلماته وأغانيه، وكنت أظن - كما قرأت - أن أم كلثوم هى التى أطلقت عليه لقب «شاعر الشباب» لكنه قال إنه نال اللقب عندما كان ينشر قصائده فى مجلة «الشباب» فأطلق عليه صاحبها عبد العزيز الصيد لقب «شاعر الشباب» نسبة لاسم المجلة.

عندما سألته عن المواقف الطريفة التى قابلها عقب تخرجه فى مدرسة المعلمين العليا، قال إنه لا ينسى عندما عمل مدرساً أن بعض التلاميذ كانوا أكبر سناً من المدرسين، وذات يومٍ وجد ناظر المدرسة مجموعة من التلاميذ يتشاجرون فى فناء المدرسة فانهال عليهم ضرباً بعصا غليظة، فنالت عصاه بعض المدرسين الواقفين بين التلاميذ فصاحوا قائلين: 
- «إحنا مدرسين يا حضرة الناظر، مش تلامذة» لكن الناظر كان يواصل الضرب وهو يقول: «وأنا أعرف منين، التلاميذ يقفون فى ناحية والمدرسين فى الناحية الأخرى!».

لم يسترح أحمد رامى فى العمل بالتدريس الذى أنقذته منه البعثة التى جاءته لفرنسا وعاد منها بثلاث دبلومات عليا، وتم تعيينه موظفا ًبدار الكتب بقسم الفهارس الأجنبية، واكتشف أن رئيسه فى العمل لا يحمل سوى شهادة الابتدائية، وظل رامى فى الدرجة الخامسة 19 عاماً لم يتحرك منها حتى أطلق عليه أصدقاؤه لقب «شهيد الوظيفة الحكومية»، ومع ذلك رفض كل المساعى التى بُذلت لنقله إلى وظيفة كبيرة بوزارة الشئون الاجتماعية، وشغل منصب مدير عام دار الكتب عندما خلت الوظيفة بقرار غير رسمى، وفوجئ بعدها بتعيين توفيق الحكيم فى المنصب! وعندما بلغ سن الستين عام 1952 طلب مد خدمته عامين فاستجابت له الدولة، وفى عام 1954 عُين مستشارا للإذاعة وعضواً بلجنة النصوص بمكافأة لم يستطع صرفها إلى جانب معاشه الضئيل إلى أن أصدر الرئيس عبد الناصر قراراً يسمح له بالجمع بين المعاش والمكافأة.

كثيرة هى الحكايات الدرامية التى عاشها العاشق الولهان مع ملهمته أم كلثوم، برغم الخلاف الوحيد الذى حدث بينهما وأدى إلى قطيعةٍ لمدة ثمانية شهور، وكشف «رامى» للناقد الكبير محمد السيد شوشة سبب الخلاف الذى بدأ بحديث صحفى كشف فيه عن قصة قصيدة «ليلة البدر فى رأس البر» التى استوحاها من ليلة أمضاها مع أم كلثوم فى زورق تحت ضوء القمر، وأكدت القصة د. نعمات أحمد فؤاد فى كتابها «أم كلثوم وعصر من الفن» الذى أشارت فيه إلى أن سيدة الغناء غضبت من مؤلفها الملاكى عندما ذكرت مجلة «روزاليوسف» أنه أنشد لأم كلثوم قصيدة اكتشفت أنه سبق أن أنشدها لمحمد عبد الوهاب، فلما التقت به قالت له: «أنا متأسفة أنى عرفتك!!»، ولم يمنعه حبه لها من أن يثور لكرامته، وآل على نفسه ألا يسعى إليها ولا يجدد لها عهداً، وحرم على نفسه سماع صوتها، ونظم قصيدة يدافع فيها عن كرامته بعنوان: «من أنتِ حتى تستبيحى عزتى»!!

ومع ذلك فكل ما كتبه رامى يؤكد أنه كان متيماً بأم كلثوم لدرجه الوله.
رحمك الله يا من زرعت فى نفوسنا وقلوبنا الرومانسية وأقولها لك كما قلتها أنت لملهمتك:
«أطاوع فى هواك قلبى وأنسى الكل علشانك». 
« ع. أ »


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة