الدكتور طارق الزيات
الدكتور طارق الزيات


«على ضفاف الميكونج 1» قصة قصيرة للكاتب الدكتور طارق الزيات

صفوت ناصف

الإثنين، 03 يوليه 2023 - 09:50 ص

حواديت في كمبوديا - الحدوتة الأولى - كراتشي- بانكوك

خطوات واسعة تخطوها هذه المجموعة الشابة من الضباط وهم يحملون حقائبهم الممتلئة بالمهمات والأغراض الشخصية حتى أن بعضهم كان يحمل معه بعض معلبات الطعام وبعض الخضروات المجففة وهم يتوجهون إلى هذه الدولة التي لم يسمعوا عنها أبدا إلا عندما تلقوا الإخطار بفتح باب التسابق للابتعاث للعمل ضمن قوات الأمم المتحدة في دولة كمبوديا.

 

لم يغب هذا اليوم عن ذاكرتي أبدا، 23 أغسطس 1992، في هذا اليوم عرفت معنى التخلص من الجاذبية والتحليق عالياً، ليست جاذبية الأرض ولا التحليق بالطائرة، كلا إنه التخلص من جاذبية القيود التي تكبلك في كل مكان، عملك منزلك، منطقة الأمان الرتيبة المحبطة التي تتنازل فيها عن طموحك مقابل الإبقاء على أوضاعك المستقرة مهما كانت متباعدة عن أحلامك.

 

ودعني أهلي وكان البكاء والخوف يربكهما ولم يعرفا ماذا يفعلا بعد أن فشلا في منعي من الرحلة التي أصبحت مهمة قومية لا أملك التراجع عنها، كان اهتمام الدولة بهذه المهمة كبيراً جداً، فقد كانت أخطر مهام الأمم المتحدة في حينها وهي المهمة الوحيدة التي حكمت فيها الأمم المتحدة دولة عضو، وهو أمر لم يتكرر بعد ذلك.

 

أقلعنا مساءً على متن رحلة الخطوط الجوية الباكستانية المتوجهة إلى كراتشي حيث تقرر أن نقضي ليلة ويوم ترانزيت، كان الجو رطباً في كراتشي، والمطار عجيب يصل فيه المتسولون إلى صالة المطار ذاتها بينما مظاهر انفلات السلاح تراها في كل مكان، رجال يرتدون الملابس الباكستانية التقليدية يتجولون في كل مكان حاملون أسلحة الكلاشينكوف، بينما مظهرنا بالملابس الرسمية يثير فضول الجميع، كانت الإجراءات معنا مشددة من قبل السلطات الباكستانية وبقينا فترة في المطار حتى تم ختم وثائق السفر الخاصة بنا وتحركنا في صحبة مندوبي الأمم المتحدة إلى الفندق الذي سنقضي فيه الليل.

 

لم نتبين شئ في الطريق القصير فقد كان هذا الفندق تابعا للخطوط الجوية الباكستانية، كانت الحركة في الفندق ساكنة تماماً حيث وصلنا فجراً وتم تجهيز الغرف وبعدها دعونا للطعام فدخلت البوفيه وكان كل شئ فيه غريبا، حتى ارتطمت بجسد مسجي على أرض القاعة في زاوية من الزوايا وتبين لي أنه رجل أربعيني بملابس الخدمة الخاصة بالفندق وهو ينزف من فمه.

ناديت زملائي الذين كانوا يحيطون بي وكان الرجل لا يتحرك ولم يستجب حتى بعدما قمنا بهز جسده، وحينها دخل أحد العاملين يحمل بعض أواني الطعام فاستنجدنا به فنظر إلينا ضاحكاً ثم قام بركله مرات ومرات حتى أفاق وخرج يجري من القاعة.

 

لقد كان العامل يخزن القات- نبات أخضر يمضغ ويمص ويخرج منه سائل أحمر يشبه الدم ويصيب الإنسان بالخدر- كان الأمر مقرفاً إلى أقصى درجة .

في اليوم التالي كانت رحلة سياحية نظمناها مع الفندق، الحقيقة بعض أحياء كراتشي في منتهى الرقي والفخامة خاصة تلك الأحياء المخصصة لضباط الجيش وهي عبارة عن مجمعات فيلات ذات لون أبيض نظيف محاطة بمساحات خضراء جميل.

 

شوارع كراتشي كرنفال ملون ومبهج وإن كان شديد الازدحام، سيارات نقل الركاب الكبيرة ملونة وعليها رسومات تقليدية بديعة وهي ممتلئة عن آخرها وكثير من الركاب يجلسون على أسطحها.

باعة البطيخ كانوا يقسمون البطيخ إلى شقق- تقطع البطيخة إلى قطع كل قطعة تسمى شقة وترص على طاولة دون إزالة قشرتها السفلية- وتستطيع أن تشتري شقة بطيخ لتأكلها في الطريق، كانت هذه العادة موجودة في مصر حتى أواسط السبعينات من القرن الماضي.

 

كان من الجميل أن نزور معارض الأثاث هناك، الحقيقة أن لديهم فن رفيع في الأثاث وخاصة المنتجات المصنوعة من خشب الورد المنتشر في مناطق الغابات الجبلية في باكستان، لقد أعجبتني غرف طعام رائعة منحوتة يدوياً بنقوش بديعة ولكن صدمت من سعرها وبالطبع ماذا كنت سأفعل بها وأنا في رحلة عابرة.

 

على شاطئ المحيط الهندي وفي البقعة التي يشار إليها ببحر العرب، كان فندق بولمان الرائع يقف بواجهته التي تشبه الوتر كما لو كانت تحتضن أمواج المحيط المهاجرة نحوه والتي لا يفصلها عنه سوى الرمال الناعمة، كان الفندق مهجوراً بعد أن أغلقه الجينرال ضياء الحق عقب الإنقلاب العسكري الذي قام به وبعدما أعدم ظلماً وعدوانا رئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو والد الرئيسة الراحلة بنظير بوتو، وقد كان إعدامه محل تنديد دولي عالمي حينها، ويرجع لذو الفقار علي بوتو الفضل في وضع باكستان على الخارطة النووية بعد تمكنه من الحصول بأعجوبة على مفاعل نووي فرنسي.

 

كانت الجماعات الإسلامية في منتهى الجرأة في كراتشي، دخلنا لصلاة المغرب في أحد المساجد، ملامحنا الغريبة والمتباينة جعلت الإمام يستوقفنا بعد الصلاة وأدار حديثاً معنا بإنجليزية جيدة جدا، وعلة عن رحلتنا ، ولم يكن يخطر ببالنا أن هناك من يغامر بمحاولة تجنيدنا للانضمام لجماعته، نعم حاولوا تجنيدنا فهم لا يضيعون فرصة، وكانت هذه فرصة ثمينة خاصة في ظل حماقة دولة ألقت بأبنائها في الحرب في أفغانستان وكانت باكستان هي نقطة تجمع المصريين الذاهبين للحرب الأفغانية.

 

لم تكن من الحكمة أن نظهر مقاومة أو رفضا، لقد شعر الرجل أنه تورط من ردة فعلنا الفاترة فاستحلفنا بالله أن لا نخبر أحداً بمصر عن هذا اللقاء و عزا ذلك إلى الخوف علينا مما قد يحل بنا.

 

لم يكن هناك شئ نخبر به أحد في مصر فقد كانت الدولة قد استفاقت وكان العمل المصري الرسمي في باكستان قد أصبح واضحاً ودون دخول في تفاصيل، وإن كنت أشير هنا إلى تفجير السفارة المصرية في إسلام آباد في 19 نوفمبر 1995 على يد الجماعات الإسلامية المدعومة من الجماعات الباكستانية.

 

انقضت الرحلة و سافرنا مساء يوم 24 أغسطس إلى بانكوك حيث تستغرق الرحلة قرابة ست ساعات، وصلنا فجر يوم 25 أغسطس إلى بانكوك، كانت الإجراءات في بانكوك أقل صرامة وودية إلى حد كبير، كان المخطط أن نبقى في الفندق ولا نخرج منه لأننا سوف نغادر في اليوم التالي إلى كمبوديا حيث تقلع رحلتنا في حوالي الخامسة مساء، وتحتاج على الأقل ما بين ساعة ونصف إلى ساعتين كي تصل إلى المطار مخترقاً العاصمة المخنوقة مرورياً، أي أننا يجب أن نغادر الفندق في أحسن الأحوال في الواحدة ظهرا.

 

دخلنا الغرف بالكارت الذكي، عام 1992 لم نكن نعرف الكارت الذكي الذي تفتح به باب الغرفة، وبعد أقل من دقيقة خرج الجميع من الغرف وهم يتسائلون هل الكهرباء مقطوعة أم ماذا .. حضر أحد العاملين وأدخل الكارت في تجويف قطعة بلاستيكية على الباب فأضاء النور ودار التكييف .. مرحباً بك لعالم لم تعهده من قبل.

 

في الصباح وعند مغادرتنا الفندق تبين لنا جمال العاصمة بانكوك وروعة المباني الحديثة فيها وجمال المطار الذي كان يعد من أجمل مطارات العالم حينها، جلست أتأمل المطار والواجهات الزجاجية في المطار الذي تهبط فيه طائرة كل دقيقة وتقلع منه طائرة كل دقيقة واختزنت المشهد في داخلي وساءلت نفسي .. هل أنا حقاً هنا؟


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة