الدكتور طارق الزيات
الدكتور طارق الزيات


«على ضفاف الميكونج 2» حواديت في كمبوديا للكاتب الدكتور طارق الزيات

صفوت ناصف

الثلاثاء، 04 يوليه 2023 - 12:23 م


 

الحدوتة الثانية

بوشونتومب

 

أقلعت بنا طائرة الخطوط الجوية التايلاندية مساء الثلاثاء 25 أغسطس – من الصدف أنه يوم ميلادي-، لم يكن هناك ركاب سوانا وتستغرق الرحلة من مطار بانكوك إلى مطار بوشونتومب في بنوم بنه عاصمة كامبوديا حوالي أربعين دقيقة منذ لحظة الإقلاع حتى الهبوط، كانت بنوم بنه تبدو من الطائرة كتلة خضراء زاهية، كان هناك معبد بوذي على خط الهبوط بدا لنا عند التفاف الطيار أنه سوف يصطدم به، لا حقاً أدركنا أن كل خطوط الطيران تقوم بذات الالتفافة الخطرة.

 كانت صدمتنا كبيرة من وضع المطار، فهو عبارة عن ممر فقط للإقلاع والهبوط مفتوح من جانبه على منطقة زراعية و مبنى المطار بدى متواضعاً و مهجورا و في جميع الأحوال لا تتخطى مساحته مائتي متر و لكن بلا موظفين أو خدمات.

 

هبطنا في لحظات ما قبل الإظلام في البلد الاستوائي الذي يظلم ويشرق في السادسة دوماً دون أي تغيير، كانت هناك بقرة تجري إلى جوار الطائرة و بدا كما لو كانت مذعورة من صوت الطائرة، استقرت الطائرة و بدأنا النزول فوجدنا أصدقائنا و زملائنا الذين سبقونا في السفر من قبل ينتظروننا و وسط الترحيب و الأحضان و الدهشة التي ارتسمت على وجهنا و التي لم تحتاج منهم إلى شرح فضحك أحدهم و قال:

-           لا .. إجمدوا، نحن في البدايات.

 

البدايات كاشفة و لا تحتاج إلى مزيد من الشرح، و لكنها تكشفت أكثر عندما أنزل بعض العمال الحقائب على الأرض أمام الطائرة، و بدأوا يحملوها على سيارات البيك أب الخاصة بالأمم المتحدة و التي يقودها الزملاء، ورائحة الأجواء الغريبة و التي كانت أقرب ماتكون إلى رائحة زفارة تعبئ الأجواء و رطوبة لم نشهد مثلها في حياتنا لم تفرق كثيراً عما إذا كنت تغوص وسط الماء من فرط كثافتها، التي جعلت ملابسنا تبتل في دقائق معدودة.

 

صعدنا السيارات وتوجهنا إلى مقر إقامتنا، في الطريق كانت الحدائق الكبيرة هي أكثر ما لفت نظري، كان تنسيقها راقياً بالنسبة لدولة محطمة وهذا هو مطارها، أما الشوارع فإنها سيرك كبير فالجميع يستقل الدراجات النارية الصغيرة التي لا تتجاوز سرعتها عشرة كيلومترات في الساعة.

كان الزحام شديداً والدراجات متلاصقة وتشكل كتلة ذات طول وعرض حتى أنها عندما تتحرك تظن أنها تتحرك ككتلة مترابطة، دراجة نارية تقع هنا وأخرى تقع هناك وركابها ينهضون بنشاط كأن شيئاً لم يحدث ويعاودون التحرك مرة أخرى، لقد كان الأمر مصدر سخرية لنا، لاحقاً سرى علينا ذات الأمر فالدراجات هي وسيلة التنقل من مكان لمكان وكنا في تحركاتنا في العاصمة فيما بعد نتنقل عن طريق استقلال هذه الدراجات....  ووقعنا مرات.

في منتصف الطريق تقريباً غرقت المدينة في ظلام دامس ولم يعد هناك أي إضاءة، جذبت إضاءة كشافات السيارة الحشرات من كل نوع وأصبحت تصطدم بزجاج السيارة تاركة بقعاً كادت تعتم الزجاج.

تكييف السيارة يرسل هواءاً بارداً و زميلنا لا يكف عن الحديث عن تفاصيل الحياة و الإجراءات الإدارية المعقدة التي سنمر بها في الأيام القادمة، وصلنا إلى فندق آماري الذي يقع في شارع مكتظ و دخلنا الفندق الذي كانت كل غرفه محجوزة لأعضاء الأمم المتحدة... وضعنا الحقائب ثم خرجنا نقف في الطريق من فرط الحرارة و الرطوبة المكتومة بين جنبات الفندق و و جدت حينها صديقي هيثم أبو العنين- استشهد لا حقاً بعد عودته من المهمة عندما كان في مأمورية لضبط تجار المخدرات- الذي انتحى بي و بأثنين من زملائي و كانت تجمعنا سوياً صداقة طويلة في عملنا السابق ، و رحب بنا و أخرج ثلاثة أظرف أعطاها لكل منا ففتحنا الأظرف ليجد كل منا ألف دولار فسألناه :

-           ما هذا يا هيثم؟

-           الأمم المتحدة أوقفت صرف الدفعة المقدمة و لن تستلموا أية نقود قبل شهر وهذا المبلغ كي تستطيعوا أن تنفقوا منه خلال هذه الفترة.

قلت له:

-           و لكن ماذا عنك؟

-           الأمر بسيط أنا لم أحول راتبي و معي ما يكفيني لا تعتلوا هم.

-           و لكن عندما نغادر بنوم بنه كيف نرسل لك المال.

-           يا سيدي .. أكيد سوف نلتقي خلال هذه السنة.

رحمك الله يا هيثم، يا ليتك لم تفعل، فما من مرة نتذكر هذه المهمة حتى نتذكرك و تتجدد الجراح، فالموت يحسن الانتقاء و كان رحيلك جرحاً غائراً في قلوبنا.

عادت الكهرباء بعد ساعتين، فدخلنا إلى الفندق نلوذ بالمكيفات طلباً للهواء البارد وتوقياً للرطوبة التي جعلتنا نعرق عرقاً غزيراً و زادت ملابسنا العسكرية ابتلالا، كان كل أملنا أن نصل إلى غرفنا كي نأخذ دشاً نزيل به آثار العرق.

جلسنا في انتظار التسكين وهنا عرفنا مدام تونا، تونا كمبودية أربعينية تتقن الإنجليزية والفرنسية وهي بالطبع تتحدث بلكنة أسيوية أقرب ما تكون إلى لكنة التايلانديين وتتميز ببنية جسدية ضئيلة بالمقارنة بالكمبوديين الذين يتميزون بصفة عامة بضئالة الجسم.

كانت السيدة محترفة في اقتناص الفرص، فتحت لكل منا حسابا، ولم تأخذ الإيجار بل تركته كي ندفعه مجمدا فيما بعد، كما أن كافة الوجبات كانت على الحساب، لقد قضينا معها شهراً وتجاوز دين كل منا الألف دولار.

كان العاملون لدى مدام تونا من الشباب اللطاف القريبون منا في السن، فتاة وحوالي أربع من الذكور أعمارهم ما بين الخامسة والعشرين والثلاثين، سيكون لي معهم موقف إنساني فيما بعد يلخص كل معاني سمو النفس من جانبهم.

قدموا لنا الطعام ولا زلت أذكره، جمبري بانيه وبطاطس محمرة، لم يعرفوا الجمبري البانية من قبل حتى علمهم المصريون كيف يصنعوه وبعد هذا أصبح طبقاً معتبراً لدى مدام تونا تتناوله جميع الجنسيات.

سيظل غذاؤنا لمدة شهر عبارة عن بيض مقلي في الصباح مع البطاطس المحمرة، والاختيار بين الجمبري الذي يطهى بطرق متنوعة أو السمك المقلي والبطاطس المحمرة وأحيانا الأرز الكمبودي المميز... ليس هناك أي بدائل أخرى.

قد تجد هذه القائمة ممتازة، وشهية وهي كذلك بالفعل، ولكن الاستمرار لمدة شهر في تناول هذه الأطعمة الطازجة المليئة بالفسفور كاد أن يتسبب لنا في تسمم فسفوري، ولم نستطع أن نتناول الدجاج أو البط بعدما رأيناه معلقاً في المحلات ورقبته سليمة بلا جرح، كما لم نكن نعرف مصدر اللحوم ... على أية حال هذه معاناة بسيطة ولكنها تسببت في بعض الأذى الصحي الذي تجاوزناه بسرعة بسبب أعمارنا ولياقتنا البدنية والصحية... عجيب أن يشكو المرء من كثرة تناول المأكولات البحرية!!!!!

لم ننم أول يوم، كنا ننازل البعوض الذي يمرح في غرفنا رغم التكييف الذي يرسل دفقات من الهواء البارد ولكنها ليست كافية لتبريد الغرفة، بينما يتعين علينا أن نحكم إغلاق الناموسية على أسرتنا حتى لا يدخل الناموس ولكنه وبحق مدرب ومحترف فقد كان يخترقها ويصبح وجوده داخل الناموسية أشد إزعاجا، وقضى الجميع الليلة الأولى في حربهم التي خسروها جميعاً وانتصر فيها البعوض ولم يأب إلا أن يترك علامات على جسدهم ليوثق انتصاره.

 

 

 

الطريق إلى شوك

 

قضينا فترة طويلة في فندق آماري بلا عمل سوى اتخاذ إجراءات استخراج بطاقات هوية الأمم المتحدة، واستخراج رخص القيادة وفتح الحساب البنكي لتلقي الراتب، وكذلك تلقي المحاضرات التوعوية عن كيفية التعامل مع حقول الألغام المنتشرة في جميع أنحاء كمبوديا، وكيفية الوقاية من الملاريا المنتشرة بكثافة و الإيدز الذي كان شائعاً بسبب الجنسيات المختلفة التي وصلت إلى خمسة و ثلاثون جنسية من جميع بقاع الأرض.

كانت الأفلام الوثائقية عن الألغام مزعجة جداً، والصور التي يعرضونها عن الإصابات مخيفة بحق، لازلت أتذكر أهم نصيحة من وجهة نظرهم وهي إنك إذا رأيت وجه اللوحة المرسومة عليها علامة حقل الألغام فأنت في أمان، أما إذا رأيت ظهرها فلا تتحرك أبداً مهما طال انتظارك لمن ينقذك، بعض السذج يعتقد أنه يمكن أن يقفز بسرعة من مكانه فينجو، ولكن هؤلاء هم من فقدوا أطرافهم.

بعد قرابة الشهر تم توزيعنا على المناطق وكان نصيبي أن أذهب أنا ومجموعة من الأصدقاء إلى محافظة كامبوت، ولكن في كامبوت عينت في مدينة شوك أنا وثلاثة زملاء آخرين.

 

شوك أسم مرعب للجميع، بما في ذلك أهالي كمبوديا فهي قريبة للغابات الجبلية التي يحتلها الخمير الحمر، وهم مجاميع متمردة خاضت الحرب الأهلية في كمبوديا وقتلت بوحشية مليونان من الأهالي من أصل ستة ملايين نسمة هم كل الشعب الكمبودي، وهكذا يمكننا أن نتبين مدى الخطورة التي تتميز بها هذه المنطقة.

الأمر الذي يزيد من خطورة المكان هو سياسة الأمم المتحدة ذاتها التي لا تسمح لرجال الشرطة الدولية بحمل أية أسلحة، كل ما تملكه هو الزي الرسمي، ولديهم اعتبارات وجيهة وهي أن المتمردون لن يروا فيك مصدر خطورة وبالتالي لن يستخدموا القوة المسلحة في مواجهتك.

مضينا في طريقنا مستقلين السيارات تاركين بنوم بنه التي كنا نعتبرها مدينة لا يطيب العيش فيها و متوجهين إلى كامبوت، كان الطريق صدمة كبيرة، الطريق قصف بالطائرات الحربية، لا يمكنك أن تتحدث عن المطبات بل الأمر أكثر صعوبة من هذا بكثير، عليك أن تنزل بالسيارة في حفرة مهولة عمقها لا يقل عن ستة أمتار و محيطها يسع سيارتان لتختفي السيارات تماماً في هذه الحفر ثم تصعد مرة أخرى إلى الطريق بعد أن تسير فيها حوالي مائة متر أما باقي الطريق فهو ملئ بالحفر الصغيرة التي تجعلك غير قادر على القيادة بسرعة أو تفادي هذه الحفر مهما حاولت.

كانت سيارات الدفع الرباعي اليابانية قد أثبتت كفاءتها في هذه المناطق الوعرة والخطرة، وبعدما تتجاوز بعض هذه المناطق وتمضي في طريقك لتجد خمس كيلومترات بلا حفر فأنت تستمع بجمال لا يضاهيه جمال، فسفوح الجبال الخضراء تلتقي بجوانب الطريق وأشجار التمر هندي والمانجو حولك من كل مكان، لقد كان شيئاً لا يصدقه عقل.

لم يخل الأمر في الطريق من الاستيقاف في كمائن المتمردين، لا يأخذك عقلك بعيدا فتتصور رجلاً ضخماً قوي البني يحمل سلاحاً متعددا، لا لقد كانوا مراهقين ما بين الثانية عشر والسادسة عشر من العمر يحملون مضاد دبابات يسمي بي 40 وكان الشائع أن يصيبوا به السيارات وأحياناً الأفراد.

احطنا علماً من الزملاء بضرورة أن نحمل معنا بعض علب السجائر المحلية الرخيصة وتسمى ليبراسيون وبعض النقود وكانت مبالغ ضئيلة جداً فالدولار كان يعادل ألفي ريال ويكفي أن تعطيهم خمسمائة ريال ما يعادل ربع دولار.

كانت الحكومة الكمبودية تعلن أنها لن تتسامح مع أي اعتداء على الشرطة الدولية ولكن في الاعتداءات التي حدثت بعد ذلك لبعض الجنسيات ونجم عنها إصابات خطرة تعجيزية فإن الحكومة الكمبودية قدمت اعتذارا فقط ولم تلاحق أحد ... أين ومتى وكيف ستلاحقهم؟

وصلنا كامبوت وبدأنا جولة أخرى مع فندق آخر قضينا فيه قرابة خمسة عشر يوماً ولكن مع مباشرتنا العمل وكنا نقوم بأعمال الدورية والتحقيق في الانتهاكات التي تحدث من قبل المتمردين والموظفين الحكوميين وبعض أعمال التأمين.

في هذا الفندق كانت هناك عاملة تنظف الغرف، وعندما غابت فترة وعادت تعمل وهي باكية فسألتها أنا وصديقي وزميلي في العمل عن سبب بكائها فعرفنا منها أن ابنها أصيب في حادث دراجة بخارية، لقد فهمنا خطئا بسبب عدم فهمنا للغة الكمبودية، وعندما قررنا زيارتها في المستشفى علمنا من العاملين في الفندق أن المصاب زوجها.

سألنا عما يجب أن نفعله فأخبرونا أن نأخذ بعض الفاكهة وأن نمنحها ما يعادل دولارين، فذهبنا ووجدنها تجلس مع الزوج الذي بدا محطما وقدمنا لها الواجب كعادتهم ففرحت كثيرا وكان أكثر شيء أسعدها أن يزورها أفراد من القوة الدولية ... ستكون هذه السيدة محركة لموقف كبير فيما بعد.

كان لابد أن نجد منزلاً، وأخيراً وجدنا منزلاً في شوك المرعبة وهو مكان عملنا، كان المنزل فسيحاً متعدد الغرف يطل من الخلف على حقول الأرز على امتداد البصر.. خضار بلا نهاية، وإن كانت مشاكل الحشرات القادمة من الحقل لا تنتهي.. وعلى أية حال هذا هو ما وجدناه، ولم يكن هناك منزل مبني بالحجر والأسمنت سواه وباقي ما حوله هو أكواخ خشبية.... لقد كان منزلنا هو مقر بنك المدينة، وكانت الحواجز الحديدية التي تفصل ما بين عملاء البنك والموظفين لازالت موجودة.. كان مدير البنك كريماً للدرجة التي جعلته يؤجر لنا البنك بألف دولار شهرياً فقط.

بدأنا العمل وتعمقنا داخل المجتمع الكمبودي المسالم الذي أنهكته الحرب والقتل والدماء التي سالت بلا ذنب ولا جريرة، أصعب الأوضاع أن يرى في هؤلاء البؤساء أنك المخلص لهم والمنقذ من المصير المحتوم، تشعر بعبء المسئولية ولا تعرف ماذا يمكن أن تفعل وأنت لا تملك من الأمر شيئاً سوى أن تسجل وتسجل وتسجل وترسل التقارير التي تأخذ دورتها حتى تصل إلى نيويورك.

في هذا المنزل كانت فتحية... فتحية ربة المنزل هي كمبودية من أسرة كريمة والدها كان قائداً كبيراً في الجيش الكمبودي وقتل في الحرب، وزوجها مدير البنك واسمها باللغة الكمبودية كان صعباً علينا فناداها أحدنا فتحية وهي أحبت الاسم والتصق بها.

كان أمراً مؤلماً أن ترى ماذا فعلت الحرب بالناس وكسرت أعناقهم وأرواحهم، تركت المكان هي وزوجها وأبنائها واجتمعوا في غرفة صغيرة في فضاء الحديقة المحيطة بالمبنى حتى يؤجروا المكان ويجدوا ما يقتاتون به، قالت لي أنهم امتلكوا منزلاً جميلاً و كانوا يعيشون في سلام قبل الحرب و عندما تهدم المنزل سكنوا البنك الذي توقفت أنشطته، و الآن أجروا لنا المكان و كانوا سعداء بالدخل الذي يدره عليهم علهم يستطيعون أن يجدوا لهم منزلاً بعدما تستقر الأمور.

هكذا كرهت الحرب ومن يدعوا لها ومن يخربون أوطانهم بأيديهم، الحرب لا تخلف إلا الدمار والمذلة والهوان.

كان لنا أحاديث طويلة معها ومع أبنائها المراهقين، شرحت لنا قدر ما تستطيع عن الحياة في كمبوديا وشرحنا لها وللأبناء الكثير عن مصر، وشاع في المدينة أن الشرطة المصرية " بوليئ إيذيبت" كما كانوا ينطقونها هم أشخاص متواضعون بخلاف الأوربيين المتعجرفين وبدأت تتكون الصداقات مع المجتمع المحلي.

يتبع


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة