طارق الزيات
طارق الزيات


الآنسة «مات» والدار الجديدة

صفوت ناصف

الخميس، 06 يوليه 2023 - 11:23 ص

بعد شهر من الإقامة الجماعية تبين لنا صعوبة أن تعيش في منزل يقيم فيه عشرة أشخاص ولا يوجد به سوى حمام واحد، والجميع يعمل في ذات الوقت، فقررت أنا وزميلي أن نبحث عن منزل، وهو أمر صعب حتى قادتنا المهام لدخول شارع جانبي فوجدنا به منزلاً جميلاً مبني على الطراز الأسباني واجهته بيضاء له شبابيك زرقاء وساحة مسورة تستوعب سياراتنا.

استكملنا مرورنا وفي الليل توجهنا إلى المنزل، قابلنا رب المنزل، الرجل الوحيد الذي عرفناه يحكم منزله في كمبوديا، يترك الرجال في كمبوديا كل شئونهم لزوجاتهم، فإن لم تكن الزوجة موجودة فابنته، هذا ليس بسبب الخضوع أو ضعف الشخصية، لكن الرجل شبه مقدس لا يكلف بالأعمال ولا يشغل باله بمسائل الأسرة.

من حسن حظنا أن كانت هناك جارة للأسرة سيدة شابة تستطيع أن تترجم لهم طلبنا لاستئجار الدور العلوي، وكانت عبارة عن غرفتين وصالة وبلكون جميل يطل على الواجهة وبلكون خلفي يطل على الحقول الممتدة إلى ما لا نهاية.

بدى من الحديث الذي دار ما بين الشابة ورب المنزل أنه غير مرتاح لفكرة إيجار الدور العلوي، لكن الفتاة تجادل معه وهو يجادل معها واستغرق الأمر عشر دقائق حتى اقتنع الرجل.

لم يكن لدينا ما ننقله من المنزل القديم سوى ملابسنا بينما تكفلت الأسرة بتقديم سريرين، واشترينا فراشين ودولابين من الدواليب البلاستيكية الخفيفة وكان هذا كل شئ.

كان لابد أن نجد من يراعي شئوننا وقدمت لنا الأسرة الآنسة "مات" العشرينية اللطيفة التي لها جذور فيتنامية من جهة الأم، كانت مات فتاة جميلة بالمقاييس الكمبودية ومهذبة ومطيعة، وكان أهم ما تتميز به هو الأمانة المطلقة.

تفرغنا للعمل، زميلي ورفيق رحلتي يحاسب مات يومياً لتشتري الطعام من السوق وتطهو لنا الطعام طازجاً كل يوم – الكهرباء تأتي ثلاثة ساعات فقط في اليوم من السادسة مساء حتى التاسعة فقط ولذا لا يمكن حفظ الطعام - ومن يشاهدهما وهما يتفاوضان حول نفقة الطعام يعتقد أنهما زوجان مصريان يتجادلان حول كفاية المبلغ المالي .

في هذا المنزل كانت لنا ذكريات جميلة، في الصباح نذهب للعمل في نقاط تسجيل الناخبين، تكبد الكمبوديون جهداً جهيداً للتسجيل وتجاوزت نسبة التسجيل 102% وسبب زيادة النسبة هي الأسماء التي تسقط عادة من كشوف المواليد.

عشرات الآلاف يتوافدون كل يوم على مراكز التسجيل من جميع الأعمار، رجال ونساء طاعنون في السن، شباب صغير يتحملون الوقوف في الشمس الحارقة والرطوبة طوال النهار حتى يستطيعوا أن يدلوا بأصواتهم، كانت الحرب والدمار قد لقناهما درساً لن ينسوه عن أهمية المشاركة في صنع سياسة بلدهم.

في مركز التسجيل كانت تقف كل يوم فتاة لا تتجاوز الخامسة عشر من العمر، لا تفعل شيئاً سوى أنها تحملق فىّ ولا تتحدث، بعد يومين من الحملقة أرسلت المترجم المصاحب لنا فدعاها وسألها لم تحملق هكذا وتقف كل يوم في ذات المكان؟ رفعت قميصها العلوي وهي تشير إلى صرتها ففوجئت أن الصرة غير مربوطة منذ الولادة.

لم تفعل الفتاة غير هذا ولم تتحدث، طلبت من المترجم أن يخبرها بدعوة أمها للحضور، حضرت الأم بعد دقائق وطلبت منهما أن ينتظرا حتى الثانية عشر حيث تبدأ الراحة لمدة ساعتين.

كانت علاقتي بالجيش الفرنسي مميزة بسبب اتقاني للغة الفرنسية التي درستها كي أطلع على  القانون الفرنسي عند تحضير الدكتوراة، استقللت السيارة أنا وصديقي والمرأة وابنتها تجلسان في الخلف، وانطلقنا للمستشفى الميداني للجيش الفرنسي وكانت تبعد حوالي نصف ساعة من مركز التسجيل.

تحدثت مع الجراح حول حالة الفتاة فأبدى ترحيباً كبيراً، في الحقيقة شكرنا أننا أحضرنا الحالة، طلب منا الانتظار في الخارج واصطحب الفتاة إلى غرفة العمليات- خيمة بلاستيكية قوية وتسدل منها سواتر بلاستيكية حول سرير العمليات – واستغرقت العملية حوالي ثلاثون دقيقة خرجت بعدها الفتاة  وقد انتهت مشكلتها واصطحبناها إلى منزلها.

في اليوم التالي جاءت الفتاة ومعها هدية ضخمة، كانت الهدية عبارة عن كمية كبيرة من ثمار جوز الهند الطازجة وقدمتها لنا، من أفضل جبر الخواطر ألا ترد هدايا الناس البسطاء وأن تحتفي بها، جمعنا القوة كلها وأعلمناها سبب الهدية، كان شيئاً جميلاً أن ترى نظرة السعادة في عيون فتاة بريئة، كانت سعادة القوة المكونة من جنسيات عديدة مبهجة وهم يهنئونها ويشربون ماء جوز الهند الجميل من الثمرة مباشرة ويرفعون الثمار لأعلى احتفالاً بشفائها، كانت هذه السعادة مصدر سعادة للفتاة التي كادت لمعة الفرح في عينيها تطغى على سطوع الشمس.

لم تكن كل الأمور تمر بهذا اليسر، أبلغنا من قبل العمليات بمهمة استعادة سيارة قطع أخشاب مملوكة لأحد المواطنين، كانت السيارة محتجزة من المتمردين في غابة جبلية، تحركنا مع قوة الجيش الفرنسي إلى الغابة واستمرينا في الصعود حتى بلغ ارتفاع الغابة قرابة الألف متر.

الغابة الجبلية تتميز بجمال لا يضاهى، أطوال الأشجار لا يمكن تحديدها وأنواع النباتات والزهور البرية المتنوعة بألوانها الزاهية تجعل منها جنة على الأرض، لكن الغابة أيضاً مكان خطر جداً، مساقط المياه يصل عمقها إلى مائتي متر- هي حفر متسعة وعميقة جداً ويمكن أن تبتلع سيارتي نقل إن لم يكن أكثر وهي منحوتة بسبب مسار المياه الغزيرة التي خلقت لنفسها طريقاً للتصريف من المنحدرات – هذه المنحدرات تمثل خطورة شديدة إذ يمكن أن تسقط فيها السيارات، كان الجيش الفرنسي لديه خرائط مفصلة منذ فترة احتلاله لكمبوديا جعلت المهمة سهلة.

وصلنا إلى مقر المتمردين وبدأنا التفاوض وطلب قائد المتمردين الذي لا يزيد عمره عن عشرينا عاماً مبلغ عشرة آلاف دولار لتسليمنا السيارة، رفضنا العرض ففاجأنا بتهديده للضابط الفرنسي وقال له أنه يجب أن يدفع ألف دولار شهرياً لأنهم يملكون برج اتصالات أعلى الجبل.

لم يرد القائد الفرنسي والتف عائداً للمدرعة التي يستقلها مع جنوده وقدنا سياراتنا وتبعنا سيارة الجيش حتى وصلت إلى منطقة منبسطة قريبة من حيث كنا مع المتمرد، وجدنا السيارة التي نبحث عنها ونزلنا لنعاينها فجاء صوت المتمرد من نقطة مرتفعة قائلاً:

-  احترسوا فالسيارة محاطة بالألغام من كل جانب.

تسمرنا في أماكننا.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة