الكاتب الدكتور طارق الزيات
الكاتب الدكتور طارق الزيات


«أيام الأستاذ عادي» قصة قصيرة للكاتب الدكتور طارق الزيات

صفوت ناصف

السبت، 29 يوليه 2023 - 07:12 م

الحلقة الأولى

 

مر بخفة بجسده النحيل وبنيته الضعيفة من بين الوقوف على محطة الأتوبيس وقفز قفزة رشيقة ليتعلق بعتبته ثم انزلق بين الركاب حتى وصل إلى موضع يستطيع فيه أن يمسك إحدى المقابض المعدنية كي يثبت نفسه ويتفادى الوقوع أثناء حركة الأتوبيس، لا مجال للجلوس فجميع المقاعد مشغولة والركاب متربصين ومتحفزين لاختطاف أي مقعد يخلو في الحافلة، لا بأس فقد اعتاد على زمن الرحلة التي تستغرق ساعة كاملة حتى يصل إلى المصلحة الحكومية التي يعمل فيها.

 

كاتب حسابات ... معين منذ سنتين في المصلحة بعد أن حصل على دبلوم تجارة، استطاع الالتحاق بالمصلحة بعد أن تدخلت واسطة كبيرة لها علاقة بوالده، الحقيقة أن من توسط له كان رجل اعتاد أن يستعين بوالده كي يجري له بعض الإصلاحات البسيطة في منزله، والده سباك في إحدى المصالح الحكومية أيضاً وبعد انتهاء العمل يخرج للعمل حسب الظروف.

 

لم يستمع لنصيحة والده للعمل سباكاً مثله، رغم أن والده بين له أن مستقبله سيكون أفضل حالاً منه لأنه على حد قوله شاب وقوي ويستطيع أن يعمل ساعات أكثر ويمكن أن يفتح محلاً ليكون مركزاً له كي تأتي إليه الزبائن، لم يقتنع هو بما يقوله والده خاصة أنه رأى بأم عينه حال أسرته البائسة، الجميع يظن أن الصناع يكسبون كثيراً، لكن الحقيقة أن بعضهم يعمل يوماً وينام يوما، كما أن الذين يقومون بالمقاولات الصغيرة لديهم عمال يعملون معهم ويلتزمون بيومياتهم فمن أين له بهذه النفقات.

 

وصل إلى المصلحة في الثامنة والنصف، انحشر بين أكثر من مكتب حتى وصل إلى ركن صغير في المكتب الضيق الذي يضم ست مكاتب معدنية لا يخلو سنتيمتر واحد منها من خدش حتى استحالت إلى لوحة سيريالية قبيحة، تناول قطعة خشبية صغيرة من على مكتبه ووضعها تحت إحدى سيقان مقعده كي يضبطه حتى لا يتأرجح به أثناء جلوسه عليه... لقد وقع مرتين من قبل بسبب عدم اتزان هذا المقعد.

 

أخرج من حقيبته الصغيرة لفة مضغوطة ملفوفة بورق الجرائد و أخرج منها ساندوتش جبنة بيضاء وصب لنفسه كوب ماء من زجاجة بلاستيكية موجودة على المكتب ، تناول الساندوتش بسرعة و شرب كوب الماء ، ثم فتح دفتر ذي غلاف كرتوني متآكل و بدأ يقيد فيه بعض القيود، هكذا علموه و هذه هي وظيفته.

 

كانت الأصوات في المكتب المختنق الذي تنعدم فيه التهوية والإضاءة الطبيعية تصم أذنه، يشعر دائماً بالخمول والصداع والرغبة في النوم، الأتربة التي تعلو الملفات والأوراق تثير صدره، حوائطه المليئة بالبقع القاتمة من طبعات الأيدي و ما تتركه من آثار تشعره بكآبة شديدة، بلاط الأرضيات المتآكل الذي فقد طبقته السطحية أصبح السير عليه كالسير فوق الحصى، حذاءه الخفيف الرديء لا يمنحه أية حماية فنعله خفيف رقيق كما لو كان يسير حافياً.

انقضى اليوم في الواحدة والنصف، غادر المكتب ونزل الدرج وسط جحافل الموظفين، لا يعرف منهم سوى زملائه وزميلاته بالمكتب، لم يلتفت لأحد و لم يلتفت أحد إليه، استقبل حرارة الجو المتصاعدة من أسفلت الطريق و أشعة الشمس التي انكسرت زاويتها قليلاً و لكن حرقتها لم تنكسر بعد، قفز في أول أتوبيس بخفته المعهودة و توارى منضغطاً بين الركاب، رائحة العرق لا تطاق و الحافلة تسير ببطء بسبب الزحام الشديد في الطريق و الهواء قليل، لا بأس كلها ساعة و يكون في المنزل.

لم يكن النزول أسهل من الصعود، أفلت بصعوبة من الركاب الذين يسدون باب النزول، توقف أمام المحطة قليلاً يرتب هندامه، قميصه المبلل بالعرق و الذي أصبح خارج بنطاله، أحكم الحزام المهترئ حول خصره، حاول أن يمسح وجه حذائه من طبعات الأحذية التي مرت علي قدمه داخل الحافلة و لكنه فشل فسلم أمره إلى الله و سار قرابة العشر دقائق مخترقاً الشوارع الجانبية مستظلاً بظل البلكونات حيناً و الغسيل المنشور حيناً آخر حتى وصل إلى المنزل العتيق و صعد إلى الشقة التي يعيش فيها مع والده بعد أن توفت والدته و تزوجت شقيقتاه، و دلف إلى الحمام مباشرة كي يأخذ دشاً استغرق فيه وقتاً طويلاً و هو يقف تحت المياه الشحيحة التي تتساقط بصعوبة حتى استطاع أن يتخلص من رائحة العرق ثم خرج فأدار مروحة السقف و ارتمى على الكنبة البلدية الموجودة في الصالة بجوار الشباك الوحيد الموجود فيها و ذهب في غفوة عميقة.

يتبع


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة