علاء عبد الهادى
علاء عبد الهادى


علاء عبد الهادى يكتب : أوبنهايمر.. وزيارة إلى جهنم!

أخبار الأدب

الإثنين، 14 أغسطس 2023 - 02:04 م

ليس من سمع كمن رأى.
وأنا رأيت قاع جهنم رأى العين، بل وأحتفظ فى أرشيفى بعدة صور تؤرِّخ للزيارة.
نعم قاع جهنم.. أو لنقل الحقيقة إنه باب فُتح على جهنم لثوانٍ معدودات كانت كفيلة بأن يفقد 140 ألف إنسان حياتهم، وهؤلاء كان القدر بهم رحيمًا، فهناك من فقدوا حياتهم معذَّبين أياماً وليالى وأسابيع وشهوراً، وربما سنواتٍ من جرَّاء صهد جهنم الذى ترك أثره على جلود ووجوه اهترأت وذابت، وجراء تلوث نووى، كان الموت لهم أرحم.

أنا هنا أكتب إليكم من ناجازاكى، الاسم نعرفه، ولكنه يأتى دائماً مقروناً باسم شقيقتها هيروشيما، مدينتان يابانيتان، كان حظهما أنهما تلقتا أول قنبلتين نوويتين فى التاريخ، ومن يومها والإنسانية تخشى تكرار الجريمة، لأنها قد تقود إلى فناء الإنسانية.

هناك فى كل عام أيام لا تمر علىَّ مرورالكرام، أقف أمامها وأراجع الكثير من الأمور، منها يوم 6 أكتوبر، ويوم 5 يونيو، ويوم رحيل أمى، وأخى، وأضفت إلى تلك الأيام يوم 9 أغسطس، منذ أن زرت ناجازاكى، ورأيت فى المتحف الذى أُنشئ فى نفس مكان سقوط القنبلة، ماذا فعل الإنسان بأخيه الإنسان، فقبل أيام حلت الذكرى المشئومة،78 عامًا مرت على تلك الجريمة التى يبقى القاموس اللغوى عاجزًا عن وصفها بما يليق، متزامنة مع لغط كبير فى العالم مع طرح فيلم «أوبنهايمر» الذى يلقب بـ«أبو القنبلة النووية». هذا اللغط لم يكن من نصيب هذا الفيلم فقط بل مع فيلم آخر مثير لـ«باربى»، حتى أُطلق على هذه الظاهرة التى تفجَّرت عبر وسائل التواصل اسم ظاهرة «باربيهايمر»، ولكن الظاهرة أفادت الفيلمين فى أرباح كبيرة صبَّت فى خزينة منتجيهما.

الفيلم الذى أخرجه المخرج العالمى كريستوفر نولان مأخوذ عن قصة «انتصار ومأساة ج. روبرت أوبنهايمر» التى تعدُّ سيرة ذاتية تؤرخ لحياة ج. روبرت أوبنهايمر وصدر الكتاب عام 2005، وكتبه كاى بيرد ومارتن ج. شيروين، وفاز بالعديد من الجوائز، كان أهمها: جائزة بوليتزر عن فئة السيرة الذاتية لعام 2006. 

تحكى القصة كيف نجح الجنرال ليزلى جروفز فى تجنيد أوبنهايمر لقيادة مشروع مانهاتن لتطوير قنبلة نووية تكون قادرة على كسر أنف ألمانيا النازية، ثم اليابان التى استعصت على الركوع وأبت الاستسلام فى الحرب العالمية الثانية، ويحكى قصة عبقرية أوبنهايمر فى الفيزياء، وكيف أنه حاول الانتحار وهو لا يزال طالباً فى الجامعة، والأهم ندمه فيما بعد على مشروعه التدميرى الذى أخرج به المارد من القمقم، واستعصى عليه إعادته مرة أخرى. 

فى متحف ناجازاكى رأيت شواهد الجريمة باقية، شاهدة على ما كان.. شاهدت ساعة الحائط وقد توقفت عقاربها عن الحركة مؤرخة للحظة الجريمة: الساعة 11:02:35 صباحًا بتوقيت ناجازاكى، بقايا الجريمة كثيرة ومتناثرة، حجر وبشر وملابس وخشب وحديد لم يتحمل الحرارة، لانَ وساحَ، فما بالك ببشر من لحم ودم؟! كل الأدلة باقية كما هى فى مسرح الجريمة التى كان فيها الضحايا بعشرات الآلاف، فى هذا المتحف ترى كل شىء: ترى مجسم «الرجل البدين» وهو الاسم الحركى الذى أطلق على القنبلة النووية التى حملتها القاذفة الأمريكية الإستراتيجية «بى 29» لكى تلقيها على ناجازاكى بعد ثلاثة أيام من إلقاء قنبلة «الولد الصغير» على هيروشيما، حتى ترضخ اليابان وتعلن استسلامها بعد ذلك بستة أيام فقط، وقبولها غير المشروط بإنهاء الحرب، بعد أن كانت قد رفضت إعلان بوتسدام الذى دعاها لوقف الحرب والاستسلام. 

ترى مجسم القنبلة، مع رسوماتٍ، وعرضٍ «ديورامى» يبيِّن كيف تعمل، وقصة ومراحل انفجار «عش الغراب» الذى فتح أبواب الجحيم فى سماء المدينتين، ترى صورًا تؤرخ للجريمة، بقايا درج ذاب من شدة الحرارة الناجمة عن التفجير، فى المتحف سوف ترى كذلك ظاهرة فريدة لن تراها إلا هناك، سوف ترى الظل عندما يتجمد ويسجل اللحظة، نعم الظل، احترت فى فهم الظاهرة وفى تفسير ما رأيت، وعندما بحثت لم أجد إجابة إلا مؤخرًا ووفقاً لتحليل علمى منشور للعالم مايكل هارتشورن، من المتحف الوطنى للعلوم النووية فى نيو مكسيكو، تفسير للظاهرة يقول فيه: إذا اعترض جسم مصدر الضوء والحرارة الشديدتين الناجمتين عن التفجير النووى، فإن ظله يتكون أمامه، ولكن الحرارة الشديدة الناجمة أثرت على الأسطح والجدران والأرصفة، مما تسبب فى تغيير لونها، لكن أجسام البشر الذى وقعوا في طريقها، امتصت الضوء والطاقة، مما تسبب فى إنارة الضوء المحيط الخرسانة أو الحجر حول «الظل»، الذى يتكون بفعل الضوء، ما سمح له، بأن يبقى على حاله إلى اليوم. 

بعد هذه السنين، أتيح لى أن أجلس فى حديقة السلام، مقر سقوط القنبلة، وألتقطُ الكثير من الصور التذكارية، بعضها مع سيدات يابانيات ترتدين الزى التقليدى. 

زرت ناجازاكى مرافقاً لمعرض للآثار المصرية يتضمن نتائج حفائرجامعة وسيدا اليابانية.كان ذلك قبل سنوات، وعلى كثرة أسفارى لأوروبا والأمريكتين، بل وحتى جنوب شرق آسيا، تبقى زيارة اليابان لمرتين: مرة طوكيو وأخرى ناجازاكى، استثناء فى كل شىء، وأهم تلك الأشياء تتركز فى سلوكيات وثقافة الإنسان اليابانى، لم أقف كثيرًا أمام التقدم التكنولوجى الكبير، بقدر وقوفى ورصدى لتركيبة الإنسان اليابانى.

اهتمام العالم هذا العام بذكرى هيروشيما وناجازاكى، مضاعف بسبب طرح الفيلم، واللغط الذى سبَّبه، والحديث عن وجود مغالطات تاريخية فيه، وأيضاً بسبب المخاوف المتصاعدة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، والحديث عن خيارات نووية مطروحة لحسم الصراع فى مواجهة الغرب.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة