أحمد فؤاد الهادي
أحمد فؤاد الهادي


«سلف ودين» قصة قصيرة للكاتب أحمد فؤاد الهادي

صفوت ناصف

الجمعة، 18 أغسطس 2023 - 04:16 م

 كان دكانه صغيرا ضيقا يسع بالكاد ماكينة الحياكة العتيقة، وتلك الطاولة المتهالكة التي يفصل عليها القمصان بدقة واحتراف، نظارته الطبية تتدلى مستندة على أنفه وقد عالج ذراعيها المكسورين ببعض من الخيط، هو كفنان في مرسمه، لا يلهيه شيء عما يبدعه بين يديه.                                                                                                    

غاب عن دكانه بعد زواج ولديه وابنته ورحيل رفيقة العمر، وإحجام الرجال عن تفصيل القمصان إلا ما ندر.                                                                                             

كان للأسطى فوزي عادة لم يغادرها لسنين طويلة: مائدته البسيطة التي يزدان بها دكانه طوال شهر رمضان، منضدة وأربعة كراسي يستعيرها من المقهى المجاور، يضع عليها ما يتيسر له من طعام وشراب ويدعو إليها ثلاثة من العابرين ويكون هو رابعهم لتناول الإفطار.

 لم أره لشهور طويلة، حتى أدركنا الشهر الكريم ولم تظهر مائدته الطيبة، ولكنني لمحته أمام دكانه المغلق وقد استعار كرسيا واحدا من المقهى.

 بدا الرجل وكأنه عائد من كهف، أقبلت عليه متهللا، حاول القيام لاستقبالي ولكنه كان يتمايل يمينا ويسارا، فلما أدركت مجلسه أسرعت أساعده فانتصب واقفا، كان مهتزا مستندا على عصاه، لمحت دموعه خلف زجاج نظارته السميك، حاول أن يبتسم فبكى .. وأبكاني، خارت قواه فهوى على الكرسي، رَبَتً على كتفه محاولا أن أخفف عنه، أدركت ما يعانيه الرجل في تلك الدقائق التي تسبق مدفع الإفطار، دعوته للإفطار معي فأبى، عرضت عليه أن أحضر طعاما ونفطر سويا في هذا المكان العزيز فهز رأسه رافضا، أشار بيده المرتعشة إلى مقهى المعلم جلال، بالكاد فهمت أنه يفطر على مائدتهم، قال وهو يمسح دموعه بيده: "لا تحزن يا ولدي، أنا لست حزينا، الحمد لله، كله سلف ودين"

سنوات مرت على كلمات الأسطى فوزى، ولكن صداها مازال يتردد في مسامعي، وفي أول أيام الشهر الكريم استيقظت الصورة كاملة التفاصيل، وكأن الرجل أمامي يعيدها كما كانت أول مرة، فقد امتدت مائدة المقهى حتى بلغت باب دكانه المغلق يزينها ضيوف الرحمن، تخيلته سعيدا بينهم، ارتفع صوتي في الشارع:

 "الحمد لله .... كله سلف ودين .... الله يرحمك يا عم فوزي" 

 

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة