قصة قصيرة للكاتب حسن عبد الرحمن
قصة قصيرة للكاتب حسن عبد الرحمن


«العملاق» قصة قصيرة للكاتب حسن عبد الرحمن

صفوت ناصف

الأربعاء، 13 سبتمبر 2023 - 12:47 ص

كان يسير في انكسار كعادته دائماَ وسط شارعهم.. الشارع الذي تسكن فيه حبيبته.. (حب من طرف واحد..) كان طاهر لا يتعدى طوله المتر وعشرون سنتيمتر تقريباَ وكان يعي هذا جيداَ، فراح يحب الفتاة دون أمل.. نظراَ لتقزمه، وأيضا لأنه ليس وسيماَ ولا يملك المال حتى..

فكان عدّ في قرارة نفسه لا شيء يذكر.. أما الأولاد الصغار في العطفة التي يقطن بها، كانت تزفه كل يوم من الشارع الرئيس إلى عطفته وكثيراَ منهم كان يكيل لها الأحجار من الخلف وهو يجري أمامهم حتى باب منزله.. على الرغْم أن طاهر كان يمتلك داخله إنسان أخر غير الذي عليه من الخارج كان طيباَ وعطوفاَ ولكنه كان يستسلم دائماً بإحساسه بالدونية.

كان يمر كعادته كل ليلة من أسفل الشرفة التي تسكن فيها الفتاة وكان يكتفى بالنظر إلى ظلها في الغرفة عندما تروح وتغدو على ضوء القمر من الخارج وضوء خفيض في غرفتها.. يتنهد بصوت ويعود إلى حجرته فوق بناية ليست عالية.. يطعم قطه البري من نصف الطعام الذي حصل عليه من عمله..

خرج في الصباح قاصدًا رزقه ككل يوم.. وككل يوم يقف عند عم عبده ليلتهم طبق الفول بالبصل.. ولكي يطول العربة يقف على قفص خشبي أعده له عم عبده خصيصا..إلا أن هذا اليوم كان يوم غير عادي وعلى غير عادته بعد أن التهم طبق الفول طلب اثنان من السندوتشات زيادة ولا يدري لماذا.. لكنه أدرك لماذا عندما مر عليه رجل مسكين فأعطاه ما معه من طعام..

ذهب في طريقه إلى العمل وعندما وصل إلى أول الشارع كان شارعهم له بوابة خشبية كبيرة فهو يسكن في حي من أحياء القلعة التي تتميز بالقبب والقبوات وأيضاً بالبوابات الخشبية الشاهقة البنيان.. لكنه لاحظ وهو مقبل على البوابة أنها أكبر من ذي قبل ولأول مرة تكون موصدة ولا يعرف لماذا.. دلف إلى البوابة وأمسك بحلقة مستديرة مدلاة من الباب واستطاع أن يحرك الباب ليدخل منه إلى الممر الذي اعتاد عليه كل يوم لكنه لم يجد الممر ولكنه وجد صحراء كبيرة وعلى بعد ناظريه وجد بئرا يجلس عليه رجل عجوز ذو لحية كثة بيضاء ووجه منير ولا تفارقه الابتسامة ويرتدي عباءة ملونة جميلة بألوان تضفي وقار على صاحبها..

اقترب طاهر من الرجل ثم نظر خلفه ليجد أن البوابة قد اختفت ولم يبق إلا هو والبئر والرجل المسن..أشار إليه الرجل ليأتي إليه ..

فقد كان يجلس في ظل شجرة وارفة..تقدم إليه وهو في ذهول تام فغر فاه حتى اللحظة ولم يستطع أن يلقى عليه السلام من شدة جفاف حلقه..استجمع قواه وجلس أمام الرجل ولم يتكلم ببنت شفاه ..ابتسم الرجل له.. وقال له في صوت حنون.. كيف حالك يابني أنا أعرفك منذ مدة وأراقبك دون أن تشعر بي وأرى كيف تطعم القطط وتحنو عليهم.. وأعرف أيضا ما تتمناه كل ليلة.. وقبل أن يتكلم طاهر.. وضع الرجل يده على الجرح وقال له أعرف أن قصر قامتك يسبب لك المعاناة.. ولكن كل شئ له حل..

هنا تكلم طاهر أخيراَ وما هو الحل في نظرك يا سيدي..

أشار العجوز في الهواء وكأنه يرسم إطار معين بمقاسات معينة فأصبحت في لمح البصر مرآة.. وطلب منه أن ينظر إليها ويقول له ماذا يرى..

قام من مكانه مسرعاَ إلى المرآة التي أمامه فوجد شاب مفتول العضلات يافع وبه مَسْحَة من الوسامة.. ثم استدار مرة أخرى إلى الرجل العجوز وعيناه يملأها ألف سؤال.. ثم قال بصوت يعلوه الاندهاش.. من ؟ من هذا الذي أراه في المرآة يا سيدي.. من؟

قال العجوز إنه أنت وستظل هكذا طوال عمرك.. هذه أمنيتك التي كنت دائمًا تطلبها من الله قبل أن تغمض عينك كل يوم.. وأنا كنت سبب في تحقيقها لك.. وسوف أجعل من يراك ينسى مظهرك الأول ولا يتذكر غير طاهر الجديد..

لنفسه قال.. ياله من شاب مفتول العضلات وسيم أحمد الله يا سي.... دي..

التفت طاهر إلى الرجل العجوز فلم يجده أمامه.. التف حول البئر مراراَ فلم يجده ونظر إلى داخل البئر وخلف الشجرة فلم يجده.. ولكنه لم يعرف حتى طريق الرجوع.. فسمع صوت قطه يقف أمام البوابة الكبيرة التي ظهرت فجأة.. جري نحو القط وأخذه في يده بسرعة فشعر أن وزنه أصبح أخف من السابق فهو الأن أصبح رجل قوي كالعملاق.. جرب أن يفتح البوابة الكبيرة ففتحها بسهولة.. دخل إلى البوابة فرجع مرة أخرى إلى عالمه.. ذهب إلى عمله ولم يجد أية ردود فعل من زملاء العمل حتي أن أحدهم طلب منه المساعدة في حمل شيء ثقيل للماكينة التي يعمل عليها..

وفي الشارع طلب منه آخر أن يدفع معه سيارته المعطلة.. كان يقبل على تلك الأفعال وهو في غاية السعادة لأنه أخيراَ نسي قصر قامته وعاش وتداخل مع المجتمع واندمج معهم بكل سعادة..

ولكنه في خضم سعادته لم ينس حب عمره.. فله الشجاعة الآن أن يطلب يدها من والدها ولم يخشى أن ترفض طلبه لا هي ولا عائلتها فهو الآن رجل آخر.. واثق من نفسه على درجة من الوسامة وجمالاَ في الجسم..

استجمع قواه وذهب إلى منزل الفتاة التي طالمَا حلم بأن تكون له وتمنى ذلك من الله مراراَ وتكراراَ..أخذ معه رجل يثق به من العطفة التي يسكن فيها وصعد إلى والد الفتاة..الذي قال بدوره إنه ليس عنده مانع ولكنه أراد أن يسأل ابنته أولاَ..وعلي الفور وافقت الفتاة وكانت أسعد مخلوقة في الحي..

أتم طاهر الزواج وكان سعيد سعادة لا مثيل لها فلم يطلب من الله أكثر من ذلك.. فتلك الفتاة التي كان يحبها من طرف واحد اعترفت له أنها كانت تحبه كثيراَ منذ اللحظة الأولى الذي كانت تراه فيها وهو يمر من أسفل شرفتها كل ليلة وأنها كانت تحب قلبه الذي طالما كان يعطف على القطط والكلاب المسكينة في الحي وكان له قلب كبير وعطوف مختلف عن باقي أقرانه في الحي..

كانت تستغرب من حلمه ورحمته مع الصغار خصوصا عندما كان أحدهم يضربه كان يعامله معاملة مختلفة حتى أصبح الصغار يحبونه ويكنون له كل الاحترام والتقدير..لأنه كان يصنع لهم الأرجوحة على باب منازلهم بأقل الإمكانيات.. كانت تحب اتساع قلبه.. فقد كانت تنتظر اليوم الذي يطلب فيه يدها وهو لم تواتيه الجرأة إلا اليوم..فأضاع عليها حلاوة معشره....

دارت الأيام وسمع رنين الهاتف.. كان صوت أم زوجته تبشره أن زوجته في المشفى وعلى وشك أن تضع له أول مولود لهم..

وضع طاهر الهاتف من يده على المنضدة أمام المرآة..ثم رتب ملابسه وعندما هم بأن يصفف شعره ذهب ووقف أمام المرآة فوجد طاهر القديم الذي نسي شكله منذ عام تقريباَ فاستغرب كثيراً مما يراه ففرك عيناه.. ولم يعر الأمر اهتمامًا فرجح ما فيه إلى فرحته بالمولود الجديد..

دخل إلى غرفة زوجته في المشفى بسرعة ليلقي نظرة على مولوده الجديد ف جده نسخة طبق الأصل من طاهر القديم.. وزاده اندهاش عندما أعطته له زوجته وهي في منتهى الفرح لأنها أنجبت طفل يشبهه تماماَ كما تمنت من الله دائماً..وزاده الاندهاش لأن زوجته كانت تراه دائمًا على هيئته القديمة وكان التحول في عينه هو فقط.. عندما شعر بما داخله وأخرجه للناس أخرج العملاق الجميل الذي بداخله وثقته في نفسه ولم يغلق على نفسه فكان داخله وخارجه شفاف لا يشوبه أية شئ..

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة