محمود السعدنى وغلاف «مسافر على الرصيف»
محمود السعدنى وغلاف «مسافر على الرصيف»


كنوز| متعة رحلات «الولد الشقى» على رصيف قهوة عبد الله !

عاطف النمر

الأربعاء، 13 سبتمبر 2023 - 08:27 م

عندما يقع فى يدك كتاب للساخر الشعبى العظيم محمود السعدنى الذى اختص لنفسه لقب «الولد الشقى» تأكد أن عقلك سيعمل، وفكرك سيحلق مع صواريخه ودبابيسه لعنان السماء، وقلبك سيرقص طرباً، وترتسم الابتسامة على شفتيك، وتنطلق داخلك ضحكة مجلجلة، ستعرف ما لا تعرفه، فالرجل لف الدنيا شرقها وغربها، ولطمته الأيام فى مواقف يشيب لها الغراب، ومن أمتع كتبه التى يكشف فيها عن نفسه وشخصياتٍ مؤثرة فى عقل مصر، كتاب «مسافر على الرصيف» الذى يقول فى مقدمته : 

أخوكم الحقير لله محمود بن عثمان بن محمد بن على بن السعدنى، الذى ينحدر من أصول يمنية ومن قبيلة على حدود صنعاء، والذى رحل جده الأول مع الفتح الإسلامى، ثمَّ راقت له الحياة فى مصر فأقام فى الشرقية، ثمَّ خلال سنوات القحط والجوع والاضطهاد هاجر السعادنة من الشرقية إلى كل مكان، ولذلك ولهذا - ولماذا أيضًا - ستجد السعدنى فى المنوفية والغربية والإسكندرية والجيزة، وستجد قبيلة السعدنى المصرية مذكورة فى كتاب «وصف مصر» الذى وضعه علماء الحملة الفرنسية منذ قرنين من الزمان !

ويستطرد قائلاً : لكنى لا أظن أنَّ أحدًا من قبيلة السعدنى المصرية أو أصولها اليمنية قد داخ السبع دوخات كما داخ العبد لله، ولا أعتقد أنَّ سعدنيًّا آخر قد حصل له ما حصل للعبد لله، فأنا وحدى الذى داخ فى البلاد وجالس العباد، وصادفه حوادث وكوارث يشيب لهولها الغراب ! أنا وحدى من دون السعادنة الذى قطع رحلة حياته فى بلاد تحط وبلاد تشيل، قطعت بلاد العرب قرية قرية، من طنجة إلى مأرب، وعلى بلاد الهند أنا مريت، وفى بلاد السند أنا أقمت وتمشيت، وفى اليابان أنا عشت تحت الشمس المشرقة، وإلى جوار أفران المصانع المحرقة، وفى بلاد الأمريكان لفيت من بافالو إلى سكرامنتو، أحببت الأمريكان وتمنيت أن أعيش معهم، فهم عرب أغنياء، أو هم عرب تصببوا عرقًا ودمًا حتَّى صاروا أغنياء، وتمنيت أن نلف لفهم، وأن نمشى على دربهم، وأن نُحقِّق فى خمسة قرون ما حققوه فى قرنٍ واحد من الزمان ! 

ويواصل قائلاً : فى القارة المحظوظة أوروبا أنا مسحتها من مجريط بالعربى التى هى مدريد باللاتينى إلى برلين بالألماني، ومن دبلن فى إيرلندا إلى لاهاى فى هولندا، وحكمة الله أنَّ أهل إيرلندا هم عرب أيضًا من بيروت ممكن، من الجزائر يجوز، من مصر لا مانع، ولكنَّهم وجدوا أنفسهم فجأة فى أوروبا، ولكن ماذا يُفيد الجليد فى الدم الحار الذى يغلى فى العروق ؟! 

وفى أفريقيا أنا نمت فى الغابات وسرحت فى البرارى، وعشت فى الجبال، ودخلت بيوت الأفارقة، وصليت فى جوامع مسلمين، وخالطت جماعة من أكَلة لحوم البشر، ولكن ما أطيب الجميع، وما أرق قلب الكل وما أقربهم إلينا، وما أشدهم عداوة على أعدائنا، وما أحرانا أن نلتفت إليهم، وأن نمد أيدينا لهم، وأن نمضى معهم، فلهم نفس الغاية ويسلكون نفس الطريق، ولكنى أموت وفى نفسى شيء من حتى، لو ذهبت إلى قبرى قبل أن تكتحل عيناى برؤية بلاد الحب والموسيقى والثورة فى أمريكا اللاتينية، وأموت ناقص عمر لو انتهى الأجل قبل زيارة نيوزيلندا وأستراليا، فهذا الكوكب الذى نحيا عليه ما أصغره وما أجمله، وحرام أن نمر عليه دون أن نراه، وحرام أيضًا أن نمضى عنه دون أن نستكمل فرجتنا عليه !

ويصل بنا السعدنى من المهم إلى الأهم فيقول : على طول ما لفيت و نطيت فى بلاد الله، أصارحكم بأنَّ أعظم رحلاتى فى الحياة كانت بلا سفرٍ، رحلة ساكنة ومستقرة وهادئة، أو خاملة فى نظر البعض، رحلة قطعتها عبر سنواتٍ طوالٍ على مقعد فى مقهى بلدى فى الجيزة، هى قهوة عبد الله، وعبد الله هذا رجل بلا شأن ولا ذكر، ولكنَّه مُثاب رغم أنفه، فقد دخل التاريخ من أوسع الأبواب، وفى هذا المقهى الذى كانت أنواره باهتة ومقاعده مهشمة ورصيفه أعرض من حظه وشهرته أوسع من مساحة الميدان الذى كان يطل عليه، التقيت بعشرات الأدباء والشعراء والفنانين، بعضهم تتلمذت على يديه، وبعضهم زاملته، وبعضهم تأَسْتَذت عليه، نماذج قلَّ أن يجود الزمان بمثلهم، نادرًا ما يجتمعون فى زمانٍ واحد، ولكن جاد الحظ بهم فى وقتٍ واحد، اجتمعوا طويلًا، ثمَّ انفضوا جميعًا، بعضهم اختطفه الموت، والبعض هرسه الزمن الغادر، وبعضهم طرده الجحود والنكران، ولكنَّهم جميعًا من زبدة مصر، وجزء من سحرها، وقبس من روحها، وحفنة من ترابها، وهم فى النهاية مصر نفسها، أسماء لمعت وأسماء انطفأت، وحظوظ طقطقت وحظوظ اندثرت، وبهم نشبت معارك ولا معركة البَسُوس، وبسببهم تحقَّق الخلود لأيام ولا يوم داحس والغبراء، وبفضلهم خرج من هذا المقهى الصغير الحقير شعاع من النور، هو نفسه جزء من النور العام الذى يشع فى مصر كلها، وحكمة الله أنَّ رواد المقهى من الأدباء سلكوا طُرقًا مختلفة ولكن إلى غايةٍ واحدة، وأغرب شيء أنَّهم جميعًا هاموا حُبًّا بمصر، ولكن أحدًا منهم لم يفُز بها، مجانين جميعًا ومصر ليلاهم، وعناترة كلهم ومصر عبلاهم، أسماء لها فى مصر تاريخ، ولها فى التاريخ مكان سيظل محجوزًا لهم، نماذج لن تتكرَّر وشخصيات كان يكفى أن تأتى واحدة منها فى كل عصر لتُزيِّنه وتُبهجه وتنشر النور والضياء والبهاء : أنور المعداوي، زكريا الحجاوي، محمود حسن إسماعيل، عبد القادر القط، عبد الرحمن الخميسى، زهدى الرسام، نزار قبانى، عبد الحميد قطامش، نعمان عاشور، محمود يوسف، محمود شعبان، الشيخ كامل أبو العينين، عبد العليم عيسى، أنور فتح الله، عبد الرحمن العيسوي، الدكتور محمد كامل حسين، شفيق الكمالى، الشيخ محمد الفيومى، عدنان الراوى، أديب نحوى، هاشم السمان، كان هذا جيلًا ومن بعده جاء جيل آخر، جاءوا تلاميذ فى البداية ثمَّ دخلوا فى القافلة وأصبحوا أساتذة : يوسف إدريس، صلاح عبد الصبور، أحمد حجازي، صلاح جاهين، الفنان حسن فؤاد، أحمد عباس صالح، على الغندور، رجاء النقَّاش، يوسف الحطَّاب، فوزى درویش، وكانت سياحتى فى قهوة عبد الله أهم سياحة فى العمر، كانت رحلتى خلالها أطول رحلاتى، عشر سنوات كاملة تنقلت فيها خلال هذه الجزر الخصبة والصحراوات المجدبة، لكنَّها بخيرها وشرها كانت حياة حافلة وجامعات كبرى للفلسفة والتاريخ والمنطق والفن والأدب والشعر والموسيقى، وفن النكتة، وعلم الحديث والكلام !

ويقول ساخرنا العظيم محمود السعدنى فى نهاية مقدمة الكتاب: أنه سيجرد الذاكرة لاستجلاب آخر نقطة فيها عن فرسان ذلك الزمان، لأنهم كانوا ملح الأرض وزبد الحياة، وجزءًا من روح مصر وقطعة من عقلها، أشاعوا المرح والحب، وعلَّموا الأجيال فنون الصياعة الرفيعة والأدب العظيم، وشقوا طريقهم فى الحياة وكل منهم يحمل فى يده شمعة، بعضها له ضوء باهر، وبعضها انكسر ضوؤه فأصبح يشع دخانًا أكثر مِمَّا يشع نورًا ! وبعضها انطفأت شُعلته بفعل العواصف والرياح، ولكن الذى لا شكَّ فيه أنَّ كُلًّا منهم اعتصر نفسه حتى النخاع !

ويقول مؤكدا: إنَّ البعض منهم لقى جزاء سنمار، والبعض الآخر تأبَّطَ شرًّا، والبعض الآخر ضاع فى زحام السوق الذى استولى عليه الأرزقية والأغوات، وبعضهم استطاع رغم المحن أن ينتزع مكانه تحت الشمس، وأن يدخل التاريخ بالرغم من الأسوار العالية والأقفال المحكمة!  للسعدنى مع كل من وردت أسماؤهم فى تلك المقدمة الممتعة حكاية، بل حكايات، وحكايات الحكاء «الولد الشقى» ما أروعها وأمتعها وأسلسها عند من يطالع بقية فصول «مسافر على الرصيف» فما أروعه سفر فى مقعد لا يتحرك بقهوة عبد الله التى كانت لها شهرتها فى الجيزة ! 

من مقدمة «مسافر على الرصيف»

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة