الملائكة الصغار الأبرياء غتالتهم يد الغدر الإسرائيلي
الملائكة الصغار الأبرياء غتالتهم يد الغدر الإسرائيلي


«خنساء» العصر تبكي أطفالها الأربعة في غزة.. آلاء «أم الشهداء» تودع ملائكتها بقصائد تقطر ألماً

سيد علي

الأحد، 21 أبريل 2024 - 09:11 م

يمتلئ التاريخ بالعديد من القصص والحكايات عن مآسى تدمى القلوب، وتثير فى أنفسنا الحزن العميق، وبمرور الأيام والسنوات يلف الكثير منها ستائر النسيان فلا نعد نتذكرها، لكن بعضها يظل عالقًا فى الذاكرة، مهما مرت الأعوام، ويبقى معنا، يعصى ويقاوم المصير الذى تصل إليه أحداث كثيرة، وكم جلسنا إلى آبائنا وأجدادنا نستمع إليهم، وهم يقصون علينا بعضًا من هذه الحكايات، القادمة إلينا من عمق التاريخ، ومنها حكاية «الخنساء»، هل تتذكرونها؟.

سأذكركم بها، هى «تماضر بنت عمرو بن الشريد السلمية»، و«الخنساء» هو لقبها، قدمت إلى النبى مع قومها من بنى سليم، فأسلمت معهم، وكانت «الخنساء» شاعرة موهوبة مبدعة، قلما نجد فى النساء شاعرة مثلها، وذكروا أن الرسول  كان يحب سماع أشعارها، وفى الجاهلية، كانت «الخنساء» تقول فى أول أمرها البيتين، أو الثلاثة فقط من الشعر حتى قتل شقيقها معاوية بن عمرو، وقتل أخوها لأبيها صخر، بعدها أكثرت من الشعر، وبعدما أسلمت «الخنساء» وأصيبت بما هو أشد من ذلك، فقد استشهد أبناؤها الأربعة بمعركة «القادسية»، فى عصر عمر بن الخطاب، بعد أن حثتهم «الخنساء» على القتال قائلة لهم: «إن الدار الباقية خير من الدار الفانية»، فخرج بنوها وتقدموا وقاتلوا وأبلوا بلاءً حسنًا، واستشهدوا جميعًا، فلما بلغها الخبر قالت: «الحمد لله الذى شرفنى بقتلهم، وأرجو من ربى أن يجمعنى بهم فى مستقر رحمته».

وكنت أظن أن قصة «الخنساء»، ستظل متفردة، عصية على النسيان، وأيضًا، على التكرار، لم أكن أتخيل أنه بعد مرور أكثر من 1400 عام ستطل علينا قصة «خنساء» جديدة.. «خنساء» العصر، فبعد اندلاع الحرب الصهيونية على قطاع غزة فى السابع من أكتوبر الماضى تواصلت مع الشاعرة الفلسطينية د.«آلاء القطراوى»، الحاصلة على عدة جوائز محلية ودولية فى الشعر والقصة، لمعرفة حقيقة ما يتعرض له أهالى قطاع غزة من حرب إبادة على يد جيش الاحتلال الإسرائيلى الذى مارس كل أنواع القتل والتدمير مستخدمًا أكثر أنواع الأسلحة فتكًا ضد شعب أعزل لم يفرق بين كبير وصغير، رجال ونساء، أطفال وشيوخ، أخبرتنى «آلاء» بصعوبة الأوضاع، وعدم القدرة على التواصل معى لانقطاع كل أنواع الاتصال فى غزة، ومرت الأيام والشهور، كنت خلالها أرسل بعض الرسائل إليها للاطمئنان، أحيانا يصلنى رد، وأحيانا كثيرة لا ترد، حتى كانت الفاجعة، استطاعت «آلاء» أن تتواصل معى وتحكى لى قصتها من البداية، وحتى اللحظة التى سبقت كتابة ما حدث، بدأت الشاعرة الفلسطينية، آلاء القطراوى، تحكى قائلة: لقد أنجبت ثلاث مرات، لم أجرب كيف تلد النساء بشكل طبيعى، كان الطبيب فى كل مرة يجرى لى عمليةً قيصرية، كل النساء يتعجبن حين يعلمن ذلك، غالباً يقلن لا يظهر عليك هذا، ولا يبدو أنك أنجبت، أخبرتنى أخريات بأننى سأعانى من تقلصات عضلية فى الشتاء بسبب البرد، أو أعانى من وخز ذلك الخيط فى الصيف بسبب الحر، وقد أشعر بألم بالغ فى مكان ذلك الخيط التجميلى الرفيع، لكن لم يحدث، كنت أنساه غالباً، لكننى الآن أحسه وأراه كثيراً، أستطيع تأمّله جيداً، وقد بدأ يؤثر عليّ، يؤلم قلبى وكبدى وروحى، وحتى يؤلمنى حين أتنفس بين الشهيق والزفير، لم تخبرنى النساء بذلك مسبقاً، إن هذا الخيط الرفيع فى جسدى يذكرنى فى كل دقيقة: «لقد أنجبتِ ولداً وبنتاً وتوأماً» رائعين، ثم بقيتِ وحدك.

بداية المأساة

وقد بدأت المأساة عند اجتياح الاحتلال الإسرائيلى لمدينة «خان يونس» فى الأول من ديسمبر 2023، إذ يقع منزل أطفالى، «يامن 8 سنوات، التوأم-كنان وأوركيد 6 سنوات، كرمل 3 سنوات»، وكانوا يعيشون مع والدهم بعد انفصالى عنه، فى منطقة السطر الشرقى فى مدينة «خان يونس»، حاصر مئة جندى المنزل، ثم دخلوا عليهم البيت فاعتقلوا من كان موجودًا من الرجال، وسرقوا نقود النساء وذهبهن، ثم أمروا بتفتيش الموجودين، وسحب جميع أجهزة الهواتف المحمولة منهم، وحتى قوابس الشحن الخاصة بها، بقى هاتف واحد كان مخفياً لم يلحظه جنود الاحتلال، طلبوا منهم أن يسمحوا لهم بالخروج، لكن الاحتلال رفض، وأبقاهم محاصرين، استطاع «يامن» ابنى محادثتى عبر ذلك الهاتف المتبقى، وشرح لى ما حدث معهم من تخويف وتعذيب وإجرام، إذ قام الجنود بتفجير جميع جرار الغاز الموجودة فى المنزل، وقاموا بتفجير خزانات المياه، وتكسير كل محتوياته، بعد ذلك انتشرت الجرافات والدبابات حولهم، وهدمت سور المنزل وأجزاءً منه، كانت «كنان» ترسل لى رسائل تقول: «نحن نموت، إنهم يدفنوننا أحياء، ويقومون بتجريف المنزل فوقنا»، تخيل أن تعيش أم هذه اللحظات المرعبة المأساوية، وهى تعرف أن أطفالها الأربعة داخل ذلك البيت المحاصر، وتأكد خبر استشهاد أبنائى الأربعة قرّة عينى، ومهجة روحى، تتوقف «آلاء» ودموعها تسبق كلماتها.

القصاص بالكتابة

وأسئلها، هل تقتصين لأبنائك بالكلمة؟، وتؤكد «آلاء»: نعم، ربّما أنا الآن أفعل ذلك، والحقيقة أننى لا أملك غير ذلك، ولست قوية حين أكتب، إننى أبكى فى كل مرة، أكتب فيها، وأبكى كلما أعدت قراءة ما كتبته عن أطفالى، ولهم، لكنه الشىء الوحيد الذى أستطيع أن أفعله، فأنا لن أسمح أن يتحول «يامن، وكنان، وأوركيدا، وكرمل» إلى مجرّد أرقام فى حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، سأحاول بكل، وسعى وحتى آخر نفس فى حياتى أن أذكّر العالم بوحشية هذا الاحتلال الوحشى المجرم الذى يشهر أعتى الأسلحة العسكرية فى العالم أمام أجساد الأطفال الغضّة، يستطيع الشعراء والأدباء أن يحتفظوا بمن يحبون أحياءً بين أوراق قصائدهم، ومذكّراتهم، استطاع «نزار قبانى» أن يحيى ذكرى زوجته بلقيس بعد اغتيالها، وكذلك «غسان كنفانى»، وهو يكتب لناجى العلى بعد اغتياله، وجعل «محمود درويش» «إدوارد سعيد» أقرب إلى ذاكرة الفلسطينى، وقلبه حين كتب عنه والكثيرون..

التقت من حديثها خيطاً أحاول منه أن أهدئ قليلاً من تدفق مشاعرها، وذكرياتها المؤلمة، أمنحها وقتاً لتجفف دموعها المنهمرة على وجنتيها، أذهب بها بعيداً، وأقول لها، هل قرأت ديوان الشعر العربى، وأمام من توقفت من رموز الشعر العربى؟، تنظر بعينيها بعيداً، وتقول: قرأت للكثيرين من شعراء الوطن العربى، توقفت عند الملهمين منهم والذين لهم امتداد روحى وثقافى كبير، مثل «محمود درويش» و«سميح القاسم» و«مريد البرغوثى» و«أحمد دبور»، و«معين بسيسو»، وأحببت تجربة أمل «دنقل»، و«مهدى الجواهرى»، و«مظفر النوّاب»، وكذلك «نزار قبانى».

خارطة البلاد المسلوبة

وأطرح عليها سؤالا آخر، هل يختلف دور المثقف فى مقاومة المحتل الغاصب، وقت الحرب عن وقت اللا حرب، وما تصورك عن دوره فى الحالتين؟ على الفور تلاحقنى بالإجابة، وتؤكد: إذا كان فلسطينياً لن يختلف لأننا نعيش طيلة الوقت تحت نيران الاحتلال، لكن الحرب تُفتّحُ مساماتكَ كلها على الجرح الفلسطينى، وتجعل قلبك عابقاً بالأرض، وعيونك هائمةً أكثر بخارطة البلاد المسلوبة، وأجسادنا أكثر توحّداً مع الأرض والهويّة، وحلم العودة، وحقيقة هذه المأساة التى يغمض العالم عيناه عنها منذ عام 1948م، ليكشف نفاقه وإنسانيته الكاذبة، وبالنسبة لى حملت فلسطين على ظهرى أينما ذهبت، وحين كنت أعتلى كل منصة عربية للشعر كنت أقدّم فلسطين وغزّة على اسمى، وأخجل دائماً إذا قرأت الشعر ألّا أقرأ لوطنى، أشعر بمسئولية عظيمة تجاه هذه القضية، وأن الله عز وجل منحنى هذه الموهبة، وقدّرَ أن أكون من هذه الأرض لأنه مقدرٌ عليّ أن أشترك فى «كرنفال» القصيدة المقاومة، والتى يموتُ شعراؤها لكنّها تحيا مع الأجيال المتعاقبة، فقصائد درويش مازالت تحيا فى قلوبنا رغم رحيله عنا عام 2006 م، إننّا نُعيد قراءة قصائده ونشرها الآن تحت أزيز الطائرات الحربية وبين سُعار الدبابات.

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة