الكاتب علاء عبد العظيم
الكاتب علاء عبد العظيم


«الصامتة..» قصة قصيرة للكاتب علاء عبد العظيم

صفوت ناصف

الأربعاء، 20 سبتمبر 2023 - 09:22 م

كانت "عيوشة" بين نهاية الطفولة وبدء النضوج، ولم يظن من يراها من فتيان القرية أنها جاوزت الحادية عشر، وان كانت هي في الواقع قد بدأت دون أن تدري عامها الرابع عشر.

 

عادت "عيوشة" إلى البيت وجدت أمها تصب القهوة لزائرة عجوز، ورأت أباها يجلس قرب باب الحجرة على الأرض العارية إمعانا في تكريم الزائرة وتوفير لمساحة الحصير المتهتك الذي جلستا عليه.

 

أحست عيوشة من الصمت الذي لف الحجرة، ومن نظرات العجوز الغامضة اليها، وأن أمامها شيء لا تعرف ما هو ولكن لم يكن ليسر قلبها على كل حال.

 

نظرت الزائرة العجوز إلى أم عيوشة انفرجت بعدها أسارير الام، إذ عرفت أن ابنتها جازت العقبة الأولى، وأشارت إلى الأب طالبة القهوة مرة أخرى، ولم ترفض الزائرة العجوز إظهارا للرضى عن عيوشة، وبعد أن فرغت من شرابها قامت متثاقلة إلى بيتها.

 

أدركت عيوشة بغريزتها المتفتحة بعضا مما كان يدور حولها، وأن هناك عريسا يتقدم إليها، لكن امها طلبت منها أن تخرج من الفرن كسرات الذرة المجفف حتى يخلو لها الحال مع الأب يتحدثا دون إصغاء من الصغيرة مما يقولان.

 

أحست عيوشة أن هناك تغيرا في معاملة أهل البيت لها، فالأم تعتني بها عناية فائقة، ولم تعد تشترك في أعمال البيت المرهقة.

 

وأصدر الأب أمرا مشددا بألا تخرج إلى الجسر وعلى الأخص ألا تلتقي بحسن ذلك الفتى الذي يكبرها بعام واحد حيث كانت ترتاح إليه نفسها أكثر مما ترتاح إلى أي إنسان آخر في القرية.

 

ولما كان موعد عقد قرانها لم يكن هناك حفلة ولا زينات ولم تأبه هي كثيرا لذلك، وجاءت العجوز ومعها امرأتان لففنها في براقع كثيرة أهداها إليها العريس وخرجن بها في موكب يتقدمه الأب حتى ابتلعهم بيت الحاج بخيت الثري وتاجر المسلي، والذي حرص على أن يرسل زوجتيه الأخريين إلى أهلهما محافظة منه على شعورهما.

 

كان كل شيء غريب على عيوشة ثم ما لبثت بأن جميع الأصوات بدأت تهدأ واحدا بعد الآخر تاركين الرجل الذي يبلغ من العمر ٤٨ عاما أشيب الشعر حتى شاربه الكثيف، وتنطلق رائحة الدهن من ملابسه الجديدة يهرع إلى كنزه الجديد إلى الفتاة الغضة التي كانت البارحة تلعب وتمرح مع أترابها.

 

تملكت عيوشة الخيبة والحسرة، بينما أخذ يلاطفها ويداعبها كطفلة إلا أن عواصف الغضب والحنق على الزوجين الأخريين كانت تجتاحها كل يوم، وزادها عصفا وسخرتا بها لأنها لم تضع مولودا بعد مرور ٣ أعوام وهي تحاول ذلك لكن دون جدوى.

 

ألحت على زوجها للذهاب إلى الطبيب الذي أبدى اسفه وتململه قائلا: زواج سابق الأوان، زهرة قطفت قبل نضجها.

 

عادت عيوشة إلى القرية والأوجاع تكاد تملأ فراغ نفسها إذ أحست بآلام أسفل البطن تكاد تشبه غرز المسامير، فحملوها إلى المستشفى وكانت رغم أنينها تمنت لو كانت تلك الآلام مقدما لميلاد أول اطفالها.

 

ظلت داخل المستشفى لمدة شهر، جاءها زوجها أثناءه مرات يسألها عن حالها بلطف وحنان، لكن لم يقل لها أن زوجته الرابعة في الطريق، وأنها أرمل في الثلاثين من عمرها، ولم يكن يستطيع أن يبرر فعله هذا ولو بسبب واحد.

 

وفي المستشفى بدأ انقلاب عيوشة العجيب، انقلاب في النفس يوازي ما طرأ عليها من انقلاب في الجسد، في السنوات الثلاث الأخيرة، زادت طولا، وزاد صدرها بروزا، وازدادت عيناها تعبيرات عن الأنوثة المتفجرة في عالمها غير المنظور، ومع هذه الزيادة في كل شيء نبتت فيها ثورة على ما هي فيه، ثورة على أنها زوجة ثالثة، وعلى استبداد أبويها هكذا على مستقبلها، وعلى كبر سن زوجها الكهل.

 

وخرجت من المستشفى، سافرت إلى طنطا لتتعلم التمريض، حتى ذات يوم جاء حسن ولم تسأله لم جاء، وكل ما رأته هو وجهه، وعيناه وعلى الأخص بذلته العسكرية فقد كان يقضي مدة الخدمة في الجيش.

 

ووقفا كثيرا في الدهليز المظلم بين غرف الطابق الأول، وحكى لها كثيرا مما رأى في السنوات التي تلت زواجها.

 

ورأت نفسها تسأله ماذا سوف يفعل بعد أن يعود إلى القرية، ولم يجبها الإجابة التي كانت تتمناها منه.

 

وظل حريصا على زيارتها كلما ظفر بإجازة من رؤسائه حتى ظنت زميلاتها أن زواجها مسألة وقت ليس إلا.

 

وما إن قاربت خدمته العسكرية على الانتهاء، كان حبه قد تملكها، وملك عقلها وقلبها، وغرائزها، وأصبحت مقابلتها له في مكان العيادة الخارجية أمرا صعبا عليها. فما كانت تستطيع كبح جماح عينيها ويديها من إفشاء حبه، وامتلأ رأسها بالحب وبأحلام الزواج كل ليلة.

 

وفي أحد الأيام أقبل عليها بواب المستشفى يبلغها بقدوم زائرة، ولم تظن أن في الأمر شيئا غير عادي، فقد اعتادت أن يجيئها نسوة من قريتها طالبات المعونة والتوصية على مرضاهن.

 

وكانت المفاجأة التي وقعت على رأسها كالصاعقة، حيث هذه الزائرة لم تكن كالبقية فهي مستديرة الوجه، مطفأة العينين، وقالت لها:

 

انتي ست عيوشة؟

ايوة.. انتي مين؟

 

انا مرات حسن، وده ولدي فاضل، دارت بها الدنيا وكادت أن تقع مغشيا عليها من هول ما تسمعه، ولم يطل الحديث، ولم يسمعه أحد، ولم تسمعه أذنها بل سمعه قلبها.

 

واختفت عيوشة، ولم يعرف أحد أين هي، ولو أن أحدا من أهل قريتها سأل عنها أترابها لما يزدن على أنها كثيرة الصمت، مستقيمة في عملها، وإذا سالوا عن ماضي حياتها، قالوا إن حسن كان متزوجا وله من زوجته ولد، ورفضت أن تكون ضرة مرة أخرى، واحبته لدرجة الجنون واكتفت بأن تغلق قلبها دون طيفه، ونسيت زوجها الأول الذي كان تفوح منه رائحة الدهن، ونسيت كل من قابلها من الرجال، لكنها لم تنساه.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة