الكاتب الدكتور طارق الزيات
الكاتب الدكتور طارق الزيات


«آدم» قصة قصيرة للكاتب الدكتور طارق الزيات

صفوت ناصف

الأربعاء، 20 سبتمبر 2023 - 11:34 م

دخل صالة الانتظار الصغيرة في جناح العيادات الخارجية بالمستشفى، كانت خطواته مضمومة ضيقة بطيئة، ظهره المحني قليلاً لا يساعد على اتزان خطواته، وصل إلى مقعد خال في العيادة المزدحمة، مد يده اليمنى واستند بها على ظهر المقعد، التف قليلاً وجلس بهدوء وهو يتكئ على يده.

 

تلاحقت أنفاسه الخفيفة المتسارعة وهو يحاول أن يتنفس بعمق حتى يهدئ وتيرة التنفس، ولكن هيهات، استغرق ثلاث دقائق كاملة حتى شعر ببعض الارتياح، لازال أمامه سبعة مرضى ينتظرون الدخول للطبيب، لم يكن معنياً بالوقت بقدر ما كان معنياً بالألم الذي يسري في كل جسده بعد سيره من مدخل المستشفى حتى وصل إلى العيادة، سرح قليلاً ثم حمد الله أن عمله السابق قد وفر للموظفين تأميناً صحياً بعد خروجهم للمعاش، لولا هذا لما استطاع أن يوفر مصاريف العلاج، في الحقيقة لم يكن يطلب العلاج رغبة في امتداد العمر و لكن لتجنب العجز، الموت أفضل بكثير من العجز و المهانة و الانكشاف.

 

تململ في مقعده واستند بظهره إلى ظهر المقعد وهو ماداً ساعديه حتى ركبتيه قابضاً على ملف الأشعة والتحاليل، لازالت الهمهمات والهمسات في الصالة تشعره بالقلق، ماذا يقولون لبعضهم البعض هنا، حكايات لا تنتهي عن الأدوية والعلاج الطبيعي والمكملات الغذائية والآمال والأوهام والأوجاع وكثير من الحسرة.

 

لم يعرف الحسرة أبدا، كان راضياً على الدوام، حتى إنه وجد مزيداً من الرضا في وحدته، لقد خلق لنفسه عالم خاص بين جدران منزله، ماذا يريد من هو في عمره من هذه الدنيا إلا السلام، طعامه قليل ونومه قليل وطلباته أقل، السلام فقط هو ما يسعده.

لكن السلام لا يسود دائماً، عقله الذي لا يكف عن التفكير، ما أقصر الرحلة وما أصعبها، لا تنقضي إلا وقد صاحبتها المنغصات، لم ينغص عليه حياته أحد سوى آدم، نعم آدم الذي رافقه طوال عمره، لا يعرف كيف سيطر عليه، كان جباراً معه يفرض عليه كل اختياراته، لم يكن يصرخ أو يعنف أو حتى يحتد، كان آدم هادئاً دوماً ولا يتحدث معه إلا بمنتهى الهدوء حتى أنك لا تكاد تسمع صوته، كان مقنعاً وقادراً على توجيهه لاتخاذ قرارت مصيرية في حياته، تكفي دقائق معدودة معه حتى يقنعه باتخاذ خطوة ما.

 

لقد كرس جل حياته للآخرين، قدم كل ما يستطيع أن يقدمه من أجل احبائه، في كل مرة كان يفكر فيها أن يخص نفسه ببعض السعادة والراحة، كان آدم يقنعه أن سعادته لن تكتمل إلا بسعادة من حوله، أقنعه كثيراً أن اختصاص نفسه ببعض الرفاهية أو الترويح هو نوع من أنواع الأنانية، فكر كثيراً أن يستريح من العمل المضني ويكتفي بساعات عمل معقولة وألا يخوض حرباً من أجل المال، المال الذي يناله منه الجزء اليسير، لكن آدم كان يهرع إليه كلما شعر أنه ينتوي أن يفسح بعض الوقت لنفسه ولراحته، كانت حجته قوية، الراحة شعور مؤقت ولا راحة إلا بعد الجهد، يتذكر كلامه عن حماقة تضييع الوقت في الراحة وأن هذا من فعل عديمي المسئولية الذين لا يدركون جوهر الحياة.

الغريب أن آدم بعدما كان ناصحاً طوال الوقت إلا إنه فشل في نصحه بعدما جحده الجميع، لم يستطع أن يساعده عندما هاجمه المرض نتيجة للمجهود المضني الذي استهلك فيه صحته وعافيته وسلامه النفسي، لم يستطع آدم أن يحدد أسباب انفضاض من كرس حياته لهم من حوله بعدما أصبح في حاجة لوجودهم، فقط وجودهم حوله من حين لآخر، كان يسائل آدم ولكنه لا يرد، فقط يصمت وهو خجل مما فعله معه.

والآن، حتى آدم لم يعد يزوره ولا يتحدث معه، لقد انضم لكل هؤلاء الغائبون، تركه آدم لنفسه، صحيح إنه تحرر من سيطرة آدم عليه، صحيح أنه يحاول قدر ما يستطيع أن يسعد نفسه ولو قليلاً، ولكنها سعادة ناقصة غير مكتملة، على أية حال هي سعادة والسلام ويكفي أنه لا يريد شيئاً من أحد، يكفي أن قدماه تحملاه ولو بصعوبة وجهد جهيد، ولكنه لا يحتاج مساعدة ولا يتولى أمره أحد .. هذه نعمة كبيرة.

طال الوقت، عظامه تؤلمه، أطال النظر إلى الممرضة ففهمت ما يريد وأخبرته أنه سيدخل للطبيب بعد المريض الذي بالداخل، أرجع رأسه إلى الوراء حتى أسندها إلى الحائط، أغمض عينيه قليلاً، كاد أن يغفو لولا سمع الممرضة تنادي ... الأستاذ آدم مظلوم ... تفضل بالدخول.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة