أحمد فؤاد الهادي
أحمد فؤاد الهادي


«البيت الكبير».. قصة قصيرة للكاتب أحمد فؤاد الهادي

صفوت ناصف

الأحد، 01 أكتوبر 2023 - 03:10 م

ذهب البهاء العائلي منذ أن تفرق أهل البيت وسار كل في طريقه بعيدا عن الآخرين، كان واحدا ضمن ستة إخوة وأخت واحدة، البيت الكبير كان كبيرا بالفعل، يحتضن الأب والأم والأبناء ومن ينزل عليهم ضيفا من الأقارب القادمين من بلدتهم في الشرقية، أو من هؤلاء الذين تفرعوا بأسرهم في السويس، يقيمون في ضيافة البيت الكبير أياما وليال يقضونها في حب غامر وسمر في ليال الصيف، والطبلية لا تكاد ترفع، فالطعام بالتناوب لكثرة العدد في معظم الأيام.

تذكر كيف كان متعلقا وإخوته بالأخوال بالخالات والأعمام والعمات وأبنائهم وأنه وأخوته كانوا يخفون أحذية الأقارب عندما يستشعرون منهم نية المغادرة حتى يبقونهم معهم.

عندما غادر البيت الكبير لزواجه منذ أكثر من خمسين عاما، كانت ملامح الدنيا آخذة في التغيير، كبر من كان صغيرا، مات من مات، ارتفعت تكاليف الحياة وشغل كل بنفسه وحياته الخاصة، وذهب من كان يلتف حولهم الجميع.

حاول أن يجعل من بيته صورة للبيت الكبير، فحرص على التواصل مع أفراد عائلته حتى من أضيقوا إليها على مر السنين من أزواج وزوجات، الحماس للود كان يراه شديدا، أو خيل إليه ذلك، فالاستجابة غير موجودة.

أولى اهتمامه بولديه وابنته، ليجعل منهم نواة لبيت كبير، تخيل أنه قد نجح عندما كان يصحبهم في رحلات ونزهات ويشاركهم كل اهتماماتهم ويوفر لهم ما يستطيع مما كانوا يحلمون به، حتى أخذتهم حياتهم الخاصة وأسرهم وأعمالهم أو سفرهم، فعز الاجتماع أو كاد أن ينعدم وتعاظمت الوحدة تحيط به وبرفيقة عمره التي ما لبثت أن راحت ضحية وباء كورونا اللعين منذ عامين.

الفراغ يشيع البؤس في كل جنبات حياته، فقد قابليته لممارسة أي من هواياته المتعددة، لزم مكان بجوار المذياع، فقد الصبر حتى على سماع الأغاني التي طالما أسعدته، والتي كان يرددها أحيانا، في كل صباح يفتح باب شقته ويلتقط الجريدة في شوق وكله أمل في أن تسعده مطالعتها ولو لدقائق، ولكن حتى الجريدة يمر عليها سريعا ثم يطرحها أمامه على أمل أن يعود إليها لاحقا.

شعر بشيء من الفضول ليتجول بين إعلانات رحلات شرم الشيخ والعين السخنة وراس سدر التي احتلت صفحتين متقابلتين من جريدة هذا الصباح، منافسة قوية بين الشركات.. بدأ يقارن العروض والأسعار والبرامج المذهلة التي شملت كل شيء: انتقالات.. مزارات.. تلات وجبات.. رحلات سفاري.. غواصة.. منطاد ...مشروبات ... وأشياء كثيرة كان يحلم بها طوال عمره ولم يمنعه إلا انشغاله بعمله وبيته وأحيانا قدرته المالية، معظم الأسعار كانت للفرد في غرفة مزدوجة.. منها أسعار مناسبة جدا ومعقولة.. كانت مشكلته في أنها مزدوجة.. وليس لديه من يجعلها مزدوجة.

ولماذا لا أذهب منفردا؟ تساءل وهو يدفع نفسه للخروج من تلك الوحدة القاتلة، راح يتخيل تلك الرحلة، هاجمته تساؤلات محيرة قابلتها إجابات تحمل طعم الواقع المر: كيف سأجلس في الحافلة؟ من سيجلس إلى جواري؟ سوف يجلسونني بجوار طفل جاء مع أهله وعلى أن أبقى صامتا وأن أتحمل كثرة حركته. وفي أوقات تناول الوجبات سأنفرد أيضا بمائدة بلا رفاق، وعندما أخرج للتنزه والاستمتاع بما يحتويه برنامج الرحلة: عرض الدلافين، ركوب المنطاد، رحلة الغواصة ورحلة السفاري، سأكون وحدي، من سيلتقط لي صورا، ومن سيشاركني تلك الصور، ولماذا الصور وليس لدي من أطلعه عليها وأستعيد معه ذكريات الرحلة؟

ماذا سأفعل حين يقيمون الحفلات الترفيهية في المساء؟ سأظل سجينا في غرفتي راجيا النوم، منتظرا صياحا لا أجد فيه إلا أفراد خدمة الغرف وهم يقومون بأعمالهم، لعل أحدهم يقول لي: صباح الخير.

كان تائها بين تساؤلاته، لكن نظره قد توقف عند أحد تلك الإعلانات، تناسى كل شيء، وكأنه قرر أن يخدع نفسه لدقائق، اتصل بالشركة صاحبة الإعلان، سأل عن كل التفاصيل: المواعيد، التكلفة، البرنامج والانتقالات، أبدى ارتياحا كبيرا لكل ما سمع، استشعر محدثه أنه على وشك لفوز بعميل بعد أن أملاه كل بياناته.

ساد الصمت المكالمة وهو يقاوم دموعه، بادره المتحدث متسائلا: أي المواعيد تفضل لرحلتك سيدي؟

علا رنين جرس الباب فانتفض واقفا.. الجرس يدق في إلحاح غريب.. شهور مضت لم يدق بابه أحد.. الرجل يصرخ عبر الهاتف: آلو.. يسير مضطربا نحو الباب.. أصوات لكبار وصغار تصافح أذنيه عبر الباب المغلق.. ما أن فتح بابه حتى تسرب من تحت يديه صغارا وصغيرات يتصايحون ويتضاحكون.. قفزوا على ساقيه حتى بلغ بعضهم كتفيه.. ولديه وزوجتاهما.. ابنته وزوجها ... عناق زانته دموع الشوق والحب.. مازال الرجل يصيح في الهاتف: آلو حتى مل وأنهى المكالمة، لابد أنه عايش ما يحدث وتخيله مما نقله إليه الهاتف من صخب.

أشرقت شموس بعدد من حضروا.. ازدانت الدنيا بأبهى حللها.. الآن فقط أيقن أن البيت الكبير لا سبيل لزواله. 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة