كيسنجر قال ليس لدىَّ وقت أضيعه.. فأجبرته الحرب على تغيير موقفه
كيسنجر قال ليس لدىَّ وقت أضيعه.. فأجبرته الحرب على تغيير موقفه


بعد نصف قرن من العمليات.. وجه آخر من وجوه نصر أكتوبر العظيم

الجيش «نواة الدولة الصلب» وحصن مصر المنيع

أسامة عجاج

الخميس، 05 أكتوبر 2023 - 08:51 م

أحد رموز الدبلوماسية المصرية خلال العقود الماضية، ابن بار من أبناء هذه المؤسسة العريقة ولكن النشأة وسنوات الطفولة دفعته للقرب من الجيش المصري، فوالده لواء طيار بدايات عمله سمحت له بالعمل بأحد دوائر صُنع القرار فى فترة من أهم الفترات حيث كان عضوًا بمكتب مستشار الأمن القومى المصرى أحمد حافظ إسماعيل أثناء حرب أكتوبر العظيم، عن أحمد ابو الغيط الامين العام للجامعة العربية ووزير الخارجية الأسبق أتحدث عندما ذهبت إليه للحوار كان على تحدٍ مضاف، فالرجل أصدر كتابين يمثلان مرجعًا رئيسيًا ورؤية لتاريخ مصر من خلال سنوات عمله العديدة، قدم فيهما (شهادة على الحرب والسلام) وإدارة ملفات مصر المُتعلقة بالأمن القومى المصري، فكان من المهم أن نسعى من خلال الحوار إلى اكتشاف الجديد.

كشف أحمد ابو الغيط فى حواره للأخبار عن كثير من أسرار حرب أكتوبر العظيم التى عاش وقائعها ساعة بساعة من خلال وجوده فى مكتب مستشار الأمن القومى حيث تتجمع فيه كل التقارير الواردة من كل جهات الدولة، ومَثَّل نقطة وصل بين الرئاسة والمؤسسات المعنية فيكشف عن مضمون محضر الاجتماع الاهم لمجلس الأمن القومى فى الثلاثين من سبتمبر وهى الجهة الأرفع بمشاركة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، حيث تم استعراض كافة الآراء ووجهات النظر حول طبيعة التحرك على صعيد العمليات العسكرية، وتوافق فيها الجميع على بدء الحرب بعد أن تم تأجيلها منذ شهر أبريل الماضى يشير إلى ما دار بينه وبين هنرى كيسنجر الرجل الذى فرض اسمه على الاحداث فى ذلك الوقت فى لقاء بعد الحرب بـ ١٦ عامًا، أنصف فى الحوار أنور السادات الذى تعرض ومازال الهجوم من جهات عديدة حول إدارته للحرب سياسيًا بعد النجاح العسكرى كشف عن معارك من نوع مختلف دارت فى غرف المباحثات بعد أن صمتت المدافع على الصعيد الدبلوماسى وحتى العسكري.     

فى مذكراتك (شاهد على الحرب والسلام)، أشرت إلى قصة بسيطة ولكنها ذات دلالة مهمة وهى قصة تأجيل إذاعة بيان القوات المسلحة منذ الواحدة والنصف ظهرًا الى الثانية وخمس دقائق، ودور أحمد ماهر وأنت فى ذلك أثناء عملكم فى مكتب مستشار الأمن القومى أحمد حافظ إسماعيل.. فهل هناك إضافة لهذه القصة؟ 

هذا صحيح فقد كلفنا المستشار أحمد حافظ إسماعيل مستشار الامن القومى فى ذلك الوقت أحمد ماهر وزير الخارجية الاسبق وأنا، وكنا من شباب الدبلوماسيين العاملين فى مكتبه بإيصال مظروف مغلق إلى الدكتور أشرف غربال مساعد مستشار الأمن القومى والذى كان مشرفًا ومسئولًا عن التنسيق على التغطية الإعلامية للحرب خاصة على الساحة الاوروبية والأمريكية من مكتب له فى مبنى اتحاد الاذاعة والتليفزيون وكشف احمد حافظ اسماعيل لنا عن مضمون المظروف المغلق وأنه يضم بيانًا مطلوب إذاعته من القوات المسلحة بأن القوات الاسرائيلية قامت بمهاجمة مواقع مصرية على البحر الاحمر، وعلى طول الجبهة فى الساعة الواحدة والنصف، وقامت قواتنا المسلحة بالرد عليها بعمليات عسكرية على طول الجبهة، وعندما استفسر أحمد ماهر عن بدء العمليات قال له مستشار الامن القومى إنها ستكون فى الثانية ظهرًا وخمس دقائق، فأبدى ماهر ملاحظة تتعلق بالكشف عن العملية قبل البدء بنصف ساعة، وأعرب عن قلقه من ذلك، ففكر حافظ إسماعيل لحظة، وقال: (لديك حق) وأقر تأجيل إذاعة البيان فى الثانية ظهرًا وهو ماحدث بالفعل.  

جلسة تاريخية

هل لنا أن نتعرف أكثر عما جرى فى الاجتماع الأهم فى تاريخ تلك الحقبة فى نهاية شهر سبتمبر عام ١٩٧٣ لمجلس الامن القومى برئاسة الرئيس الراحل محمد انور السادات والذى أثمر فى نهاية الامر بإجماع أعضائه على الذهاب الى خيار الحرب بعد مناقشة كافة الآراء من أعضاء المجلس؟

كان من حظى انه تم تكليفى فى يناير ١٩٧٤ بإعادة أرشفة وتقسيم وتوزيع كافة المستندات والوثائق المهمة وعلى درجة عالية من السرية الموجودة بأحد القصور الرئاسية فى ذلك الوقت حيث اطلعت على محضر الاجتماع الاهم لمجلس الامن القومي، وضم كل قيادات الدولة الدكتور مصطفى خليل والفريق اول أحمد إسماعيل وزير الدفاع ومحمود فوزى وزير الخارجية وممدوح سالم وزير الداخلية وآخرين، وتباينت وجهات النظر بين تحركات عسكرية محدودة شبيه بفترة حرب الاستنزاف فى ظل مخاوف البعض من تحرك عسكرى واسع ووجهة النظر الأخرى والتى تبناها الرئيس السادات ومعه أحمد إسماعيل وزير الدفاع أن إسرائيل لن ترد على أى عمل عسكرى محدود أو تسخين للجبهات خاصة، وهى لا تستطيع أن تتحمل عبء تعبئة ممتدة او استنزاف مستمر على مدى أشهر خاصة مع تصاعد قدرات وإمكانيات القوات الجوية خلال السنوات الثلاث الماضية، وقد تلجأ الى التصعيد الفوري، وبأقصى درجات العنف، وقال أحمد اسماعيل: علينا المبادرة بضربة رئيسة بالغة العنف عبر قناة السويس وامتصاص الضربة المضادة والقدرة على الدفاع عن الاراضى التى تم استعادتها فى سيناء ومن ثم فرض تسوية سياسية برؤية مصرية وكانت نهاية الاجتماع بمقولة الرئيس السادات (نحن ذاهبون للحرب ولنقم بما هو لازم لمستقبل هذا البلد) وحسم الموقف وبدأ العمليات بعدها بستة أيام.  

رب ضارة نافعة

ولماذا سعى الرئيس السادات الى تأجيل بدء العمليات كما كان مقررًا فى مارس او أبريل من نفس العام ١٩٧٣؟

لأسباب عديدة منها إعطاء فرصة لجهود سياسية قامت بها دول عديدة وجهات مختلفة للتوصل لحل للأزمة او اتفاق للسلام يسمح لمصر باستعادة أرضها فى ظل تحرك سياسى نشط منها كثافة الاتصالات بين مصر وأمريكا من خلال مقابلات مستشارى الامن القومى فى البلدين محمد حافظ اسماعيل وهنرى كيسنجر ودخول أطراف مثل يوغسلافيا ورومانيا وايران، والدول الثلاث لها علاقة قوية مع قادة إسرائيل للتوسط بين الطرفين والبحث فى بدء مفاوضات عن قرب بين البلدين والوصول الى تسوية دون الحاجة الى حرب او مواجهة عسكرية، وسبحان الله فقد استفادت القيادة المصرية من هذا التأجيل وتم استثماره فى خطة الخداع الاستراتيجى المصرى أثناء أكتوبر ٧٣، خاصة أن إسرائيل استعدت للضربة المصرية المشتركة فى أبريل وحشدت باتجاه مواجهتها مما تسبب فى كلفة اقتصادية عالية وساهم ذلك فى حالة التخبط الذى عاشته القيادة الاسرائيلية ليلة السادس من أكتوبر على اعتباره أن استعدادات مصر لا تختلف عما جرى فى أبريل.    

قرار صعب

هل مازلت عند رأيك بأن الذهاب الى الحرب كان مقامرة كبيرة نجاحها مرتبط بالإعداد لها بكل حنكة والاقتدار مع تحقيق أقصى درجات الخداع الاستراتيجي؟

بالطبع... قرار الذهاب إلى الحرب ليس أمرًا سهلًا او بسيطًا يحتاج إعدادًا ودراسة ومعرفة قدراتك مقارنة بالطرف الآخر، فمن المعروف أنك فى المواجهات العسكرية قد تكون من يحدد بدء العمليات وتصبح صاحب الطلقة الاولى، ولكن نهايتها تتعلق بطرف او أطراف أخرى وعوامل متباينة وفى الحالة المصرية، ولعل مجريات حرب أكتوبر العظيم تكشف قدرات مصر الحقيقية شعبًا وقيادة بأنه من غير المسموح تكرار تجربة يونيو ١٩٦٧ خلال ثلاث سنوات كانت التدريبات على أعلى مستوى وتجهيز الجيش تجهيزًا مناسبًا وتم الاعتماد على خريجى الجامعات والمعاهد العليا كأساس رئيسى للقوات المسلحة بعد ٦٧، وعملت كل أجهزة الدولة المعنية على الاعداد للحرب كلٌ فى مجاله خاصة الاجهزة المعنية بالامن القومى والدبلوماسية وحتى الجبهة الداخلية، وقاومنا ضغوطًا من عواصم القرار الدولى بالابقاء على الوضع كما هو بدون حرب وطبعًا بلا تحقيق السلام كما كنا ننشد واستثمرنا علاقات مصر الاقليمية والدولية سواء مع شاه إيران او الرئيس الرومانى شاوشيسكو واليوغسلافى تيتو، وكانت النتائج مبهرة فى العبور العظيم والقدرة على صد الهجوم المضاد والتمسك بما تم إنجازه من تحرير عدة كيلو مترات من سيناء ساعدتنا على تغيير معادلة الصراع ووفرت الفرصة للدخول فى تفاوض على أسس جديدة. 

أهداف مختلفة

أعتذر عن اللفظ عندما أقول إن هناك تنطعًا من بعض النخب السياسية والفكرية والاعلامية عندما سعت فى إطارها لتصفية حساباتها وخلافاتها مع الرئيس الراحل أنور السادات الى اتهامه بأنه خاض معارك أكتوبر ليس (لتحرير سيناء) ولكن (لتحريك القضية) ماذا تقول عن ذلك الاتهام إذا تعاملنا معه على أساس ذلك التوصيف؟  

للأسف الشديد هناك خلط بين العداء الشخصى بين البعض -ومنهم الاستاذ محمد حسنين هيكل وأنا من المعجبين به وتأثرت بكتاباته- وبين النظرة والحكم الموضوعى على وقائع التاريخ، فمنذ القرن الثامن عشر هناك مقولة مهمة ومفهوم غاية فى الدقة عَبَّر عنه أحد أهم كتاب الاستراتيجية وهو كارل فون كلاوزفتس إن الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى وأن الحرب يجب ان تسعى إلى استخدام أقصى درجات العنف المسلح لفرض الارادة على الخصم، وكذلك ان الدفاع وبعد العمل العسكرى هو الشكل الاقوى فى المعركة العسكرية وهى عناصر أساسية قامت بتنفيذها القيادة المصرية وقواتها المسلحة باقتدار وتوازن منضبط، ومنذ البداية لم تكن الإمكانيات والقدرات العسكرية تسمح بتحرير كامل الأراضى المصرية المحتلة منذ عام ١٩٦٧ولم تعلن القيادة المصرية بأى صورة من الصور أنها تسعى لذلك ولم تخطط له، وكان الهدف الذى تم تحديده فى التوجيه الرئاسى الذى مثل تكليف الرئيس السادات للقوات المسلحة به هو استعادة شريط من الضفة الشرقية من سيناء والتصدى للهجمات المضادة ثم بدء التفاوض من موقع قوة بعد النجاح فى الوصول الى حالة توازن مع إسرائيل بعد نكسة ١٩٦٧ وصولًا إلى تحقيق الانسحاب من سيناء، وبهذا فالحديث عن اعتبار حرب أكتوبر بأنها تحريك وليس تحريراً سفسطة ممجوجة لا معنى لها او التوقف عندها رغم انها راجت لدى قطاعات مهمة فى مصر وحتى سوريا كانت ترى الاستمرار فى الحرب وتحقيق انتصار ساحق وهزيمة كاملة للعدو وهو يمثل فقدانًا للرؤية الصائبة لتوازن القوى بين مصر وإسرائيل، وكذلك القواعد الحاكمة لعلاقات القوتين الاعظم فى ذلك التوقيت الاتحاد السوفيتى وأمريكا.   

نعود إلى فكرة الخداع الاستراتيجى التى سبق لك أن أشرت اليها وهو واحد من نقاط عديدة مضيئة فى تلك الايام والتى تمثل نجاحًا مبهرًا للأجهزة المعنية بمصر؟     

سأعتمد فى إجابتى على مصادر غير مصرية ومنها تقرير أمريكى أعده أحد مراكز الابحاث التابعة للمخابرات الامريكية والذى نُشر فى يناير ٢٠١٣، حيث اعترف بأن الخداع الاستراتيجى المصرى على المستوى العسكرى والسياسى حقق أهدافه بالكامل تجاه أمريكا وإسرائيل بل وصل الامر برفع تقرير من المخابرات المركزية بأن رفعت تقريرًا مساء الخامس من أكتوبر حول احتمالات الموقف استبعاد قيام مصر بعمل عسكرى مباشر ضد إسرائيل كما أنهم بعد بدء العمليات بأن الحرب ستنتهى سريعًا بهزيمة ساحقة للعرب وأن أمريكا سوف تضطر الى الضغط على إسرائيل للقبول بوقف إطلاق النار خلال أيام قليلة وكلها افتراضات لم تتحقق. 

وهو نفس ماحدث مع القيادة العسكرية الاسرائيلية التى استبعدت حتى قبل بداية العمليات بيوم قيام القوات المسلحة المصرية بأى هجوم على اسرائيل هو ما أشار اليه رئيس المخابرات العسكرية ايلى زعيرا على جولدا مائير وتضمن (إن التقييم السائد هو ان جاهزية اسرائيل تنبع بشكل اساسى من الخوف منا، وأضاف: أعتقد انهم ليسوا على وشك الهجوم ليس لدينا دليل هم فقط قادرون على التحرك من الناحية التقنية وفى تقييم آخر زعيرا ومعه دافيد إلعازر رئيس الاركان الاسرائيلى موقفهما القائل بأن مصر وسوريا تخططان على الارجح لعدوان محدود او نشر قوات. 

صراع فى الغرف المغلقة

أعتقد أن مصر خاضت معارك مكملة بعد انتصار أكتوبر العظيم ولكن هذه المرة على الصعيد الدبلوماسى فكيف نجحت فى استثمار هذا النجاح العسكرى الكبير؟ 

سأذكر لك نموذجًا لفكرة لما اشرت اليه فى مباحثات مينا هاوس فى الخامس عشر من ديسمبر من عام ١٩٧٧ الذى غاب عنه الاردن ومنظمة التحرير الفلسطينية وسوريا ولبنان وتم تكليف الدكتور عصمت عبدالمجيد برئاسة الوفد، حاول رئيس الوفد الاسرائيلى الياهو بن إليسار تقديم ملف كبير يتضمن اتفاقية سلام مقترحة من الجانب الاسرائيلى فرفض عبدالمجيد استلامه ببرود شديد، خاصة وكما قال إنه غير مُخول باستلام اى وثائق من الجانب الاسرائيلى كما مؤتمر ميناهاوس مهمته الاعداد للشق التنظيمى والاجرائى للعودة الى اجتماع السلام امتدادًا لمؤتمر جنيف وليس مناقشة مضمون او محتوى السلام المصرى الاسرائيلى او عقد معاهدة سلام بين الطرفين وكان موقف الدكتور عصمت عبدالمجيد مستندًا الى مشروع تم تقديمه الى اسماعيل فهمى وزير الخارجية فى سبتمبر من نفس العام باعتباره طرحًا إسرائيليًا مطلوب الرد عليه وتضمن مواد مفزعة منها عقد معاهدة سلام بين البلدين وإقامة علاقات دبلوماسية وعدم التهديد بدخول حرب مرة أخرى والخطير فى المشروع الاسرائيلى تجاهله نصر أكتوبر وزيارة الرئيس السادات للقدس اضافة  الى مسعى إسرائيل لتغيير خط الحدود المصرية او الحصول على أراضٍ مصرية، وفى مرحلة سابقة أعادوا مطالبهم المرفوضة أثناء اجتماعات اللجنة العسكرية بين البلدين.

العبرة بالخواتيم

لعلنا نشير الى بعض ما جرى أيام المعارك التى بدأت فى السادس من أكتوبر ٧٣ وتوقفت فى الثامن والعشرين من نفس الشهر، والتى شهدت مواقف مختلفة منها اقتحام خط بارليف والعبور الى الضفة الشرقية للقناة والعمل على تطوير الهجوم والثغرة وأشياء أخرى هل لنا أن نتعرف سريعًا عن التقييم النهائى من وجهة نظر شاملة تجاه كل ماجرى؟  

لعل التاريخ يكشف لنا أن الحروب خاصة إذا كانت طويلة نسبيًا كما حدث فى أكتوبر ١٩٧٣ تشهد أحداثًا مختلفة مابين عظمة ماتم فى أيام الحرب الاولى من اقتحام خط بارليف وعبور القوات المصرى الى شرق القناة والقدرة على صد الهجوم الاسرائيلى والظروف التى فرضت علينا اتخاذ قرارات صعبة نتيجة محاولة تخفيف الضغوط على الجبهة السورية، وكانت سوريا شريكة لنا فى العمليات وكان هناك تنسيق كامل ونجاح إسرائيل فى إحداث اختراق والحوار الطويل حول تنفيذ ضربة عسكرية لإنهاء الثغرة خاصة أنها لاتتجاوز عدة كيلو مترات فى الغرب، والخطة (قادر) كانت جاهزة ومُعدة لذلك فى انتظار تعليمات القيادة فى ظل الحراك الدبلوماسى الذى أحدثه العبور المصرى العظيم ودخول أمريكا على خط السعى إلى وقف النار وزخم الاتصالات بين القاهرة وواشنطن لدرجة وصول الرسائل المتبادلة بين الرئيس السادات والامريكى نيكسون وصلت الى العدد ١٥ والى ٢٠ رسالة بين مستشار الامن القومى المصرى محمد حافظ إسماعيل ونظيره الامريكى هنرى كيسنجر كل ذلك ساعد على الموافقة على قرار وقف إطلاق النار فى الثامن والعشرين من شهر أكتوبر، وقاومت مصر ضغوطًا شديدة حتى من الحليف السوفيتى فى ذلك الوقت خاصة أن الامور كادت أن تصل الى مواجهة وصدام بين القوتين الاكبر امريكا والاتحاد السوفيتي، ولكن التاريخ يقول إنه فى هذا اليوم حققت حرب أكتوبر أهدافها الاساسية ومع توقف القتال استعادت مصر التوازن الاستراتيجى مع اسرائيل وهو التوازن الذى فقدناه طوال ست سنوات من نكسة ١٩٦٧، وفرضت بثقل قواتها المسلحة أن تدفع واشنطن أخيرًا وبشكل جاد الى التحرك الجاد باتجاه التسوية السياسية واستعادت مصر سيادتها على كامل ارضها والعودة الى خط الحدود الدولى المستقر منذ عام ١٩٠٦، ولا شك أن حرب اأكتوبر أكدت قدرات القوات المسلحة المصرية على تحقيق أهدافها مع توافر قوات جوية اثبتت فاعليتها فى المعركة وقوات بحرية وصلت الى باب المندب جنوب البحر الاحمر.  


لقاء عاصف

أتوقف عند دور هنرى كيسنجر الذى فرض نفسه على الساحة الدولية خلال فترة أوائل السبعينات هل صحيح أنه كان سببًا من مجموعة أسباب أخرى بتشجيع مصر على خوض حرب أكتوبر العظيم ؟

للإجابة عن هذا السؤال أعود بالذاكرة الى ماجرى فى يونيو ١٩٩٩ التقيت فى إحدى الحفلات العامة مع هنرى كيسنجر وزير الخارجية الامريكى الاسبق ومستشار الامن القومى ايضًا فى إدارة نيكسون الاولى وأعرب عن سعادته بالتعرف على شخصى كسفير لمصر الدولة التى يكن لها كل الاحترام وأعرب عن تقديره لها باعتبارها المفتاح الحقيقى دائمًا للشرق الاوسط والمنطقة العربية، وقال إن مصر هى القادرة على إعطاء العالم زعماء كبارًا قد اختلف او تتفق معهم إلا انهم يفرضون الاحترام على الجميع لما لبلدهم من ثقل وقيمة وأخذ الحديث  منحنى آخر عندما قلت له هل تعلم سيادة الوزير أن حديثك مع الدكتور محمد حسن الزيات فى يوليو ١٩٧٣ وقولك له (ليس لديَّ وقت أضيعه على الشرق الاوسط فى الوقت الحالى خاصة أنه ليس فى إمكانكم القيام بأى شئ حربًا كما انكم لا تعترفون بضرورة دفع ثمن الهزيمة الثقيلة التى لحقت بكم) وقولت له إن (حديثك هذا وتصرفات أمريكا معنا ساهمت او دفعت او عجلت بالقرار المصرى بالذهاب الى الحرب) أصابت الرجل حالة من الصدمة والانزعاج من استماعه لهذه الرؤية التى تعطى انطباعًا بأنه شجع المصريين على الذهاب الى الحرب وتقديرى الشخصى هو رغبته فى نفى مسئوليته عن تشجيع مصر للاتجاه الى الخيار العسكرى خوفًا من اتهامه من دوائر عديدة فى أمريكا وإسرائيل بأنه حرض حتى لو بشكل غير مباشر على العمل العسكرى المسلح ضد إسرائيل

اذا أنت تميل لهذا الرأى رغم نفى كيسنجر لذلك؟ 

نعم خاصة أن الامر لم يقتصر على ماجرى فى لقاء وزير الخارجية محمد حسن الزيات معه فى يوليو ١٩٧٣ ولكن جرت لقاءات سرية بين كيسنجر ومستشار الامن القومى محمد حافظ إسماعيل الذى أشرف على قناة سرية للحوار بين مصر وأمريكا فى ذلك الوقت وبدأت مع تولى الرئيس السادات الحكم وفى ظل تولى محمد حافظ اسماعيل للمخابرات العامة فى مصر، فى ظل عدم وجود علاقات دبلوماسية مباشرة بين الطرفين وجرت وقائعها فى فبراير ١٩٧٣ فى منطقة قريبة من نيويورك وفى مايو من نفس العام فى باريس يومها كان كيسنجر واضحًا فى إبلاغ الطرف المصرى بأنه مشغول بإنهاء الحرب فى فيتنام وليس لديه يضيعه على مسألة باردة وعناد مصرى لعدم دفع ثمن هزيمة يونيه ١٩٦٧ لقد كان لديه اعتقاد بأن الازمة فى المنطقة جثة هامدة صعب العمل على إحيائها من جديد دون تطور مهم وملموس وهو ماحدث بالفعل فى أكتوبر العظيم 1973.   

رد اعتبار

اذا اتفقنا على أن هناك شخصيات عظيمة فرضت نفسها على المشهد السياسى والعسكرى فى فترة السبعينات ولكنى سأتوقف عند ثلاثة فقط... أود أن أسمع تعليقك على دور كلا منهم ولنبدا بالرئيس محمد انور السادات؟  

قولا واحد الرئيس الراحل محمد انور السادات هو أعظم زعيم مصرى فى القرن الماضى صحيح أن هناك زعامات أخرى لها دور تاريخى خلال القرن فى مقدمتهم جمال عبدالناصر والذى نجح بثورة يوليو ١٩٥٢ فى تغيير وجه مصر ونجح فى تجاوز هزيمة يونيو ٦٧ وساهم بالدور الاكبر فى إعادة بناء الجيش، وهناك ايضًا سعد زغلول بدوره فى ثورة ١٩١٩ ومصطفى النحاس، ولكن يبقى انور السادات فى منزلة مختلفة فقد حقق مع القوات المسلحة الانتصار الأهم فى التاريخ المصرى نصر أكتوبر الذى أعاد الى العسكرية المصرية كرامتها وحافظ على شرفها وانحاز الى قرار الدخول فى مواجهة عسكرية مع اسرائيل وخاض غمار معركة دبلوماسية شرسة عبر مفاوضات مضنية نجح خلالها فى استعادة كامل الاراضى المصرية دون تنازل عن حبة رمل من سيناء.    

وأخيرًا فى ضوء نشأتك فى بيت عسكرى وعملك الطويل فى المجال الدبلوماسى والأمن القومي.. كيف ترى دور القوات المسلحة المصرية عبر الحقب الماضية؟ 

قد لايعرف الكثيرون أن والدى هو اللواء طيار على أبو الغيط مما كان سببًا رئيسيًا للمعيشة أصلًا فى جو عسكري، فقد أقمنا فى مساكن الضباط وفى العديد من القواعد العسكرية التى عمل فيها والدي، صداقاتى متنوعة مع كثير من العسكريين مما دفعنى الى القراءة فى التاريخ العسكرى وسير القادة والمعارك التى كانت علامة فاصلة فى التاريخ سواء الحديث او القديم وقد أفادنى ذلك كثيرًا فى عملى الدبلوماسى ومن خلال رحلتى الطويلة دعنى أؤكد على حقيقة قد تغيب عن كثيرين هو الدور المركزى الذى تقوم به القوات المسلحة المصرية فى إطار الحفاظ على الدولة وحماية أمنها القومي، فهى النواة الصلبة للدولة المصرية قديمًا وحديثًا و هى حصنها الحصين ولعل ما جرى فى الحُقب السابقة يؤكد ذلك.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة