قصة قصيرة للكاتب محمود حمدون‎
قصة قصيرة للكاتب محمود حمدون‎


«لا ثالث لهما» قصة قصيرة للكاتب محمود حمدون‎

صفوت ناصف

الجمعة، 20 أكتوبر 2023 - 06:43 م

اثنان يتصدران الصورة، أجدهما بانتظاري كلما خرجت من داري. المتسولون والذباب، لست أدري إن كانت ثمة علاقة بينهما، لكني أعرف أنهما هنا، بل في كل مكان. يتقدم أحدهما، فيتبعه الآخر بفاصل زمني لا يُكاد يُحسّ.

ينتشر الشحاذون من الرجال والنساء، يتزايدون كل ساعة، يتحايلون على رزقهم بأشكال وألوان لا حصر لها من الاستجداء. قادرون على التأليف والتمثيل في صنعتهم بصورة مبهرة، لست أنكر أن الأداء الدرامي لبعضهم يفوق قدرة أي ممثل مسرحي.

أظنني وصلت لقناعة أنهم يتناسلون، يتكاثرون حتى سنصل إلى يوم يصبحون أكثر في العدد من أبناء الوطن، هم فصيل مستقل، يعملون فيما بينهم بتناغم وتفاهم شديدين.

قلت من قبل، لعله الفقر هو مبعث وجود هؤلاء، كثرتهم بانتظام، غير أن صديقًا أخبرني أنهم ترجمة أمينة للعنة حلّت بالبلد، لا خلاص منهم إلّا بزوال اللعنة، ثم شفط آخر قطرة في فنجان قهوته، قال بثقة: لكنها لن تحلّ عن رقابنا، لن تنتهي أبدًا. حين لم أستطع مجاراته في حواره، التزمت السكوت، آثرت أن أشاركه الحديث في شأن آخر.

أما الذباب، فأمره يبعث على الحيرة.. يُقلق راحتي منذ خروجي من بيتي ويتبعني أينما مشيت، يأتي في ركابه متسول أو أكثر. حتى انحشر بين نارين. يقع على عيني، يتراقص أمام وجهي في مشيي وحين أعمل، يشاركني الحديث مع الآخرين بطنينه كلغة خاصة يعترض من خلالها أو يؤيد أو يدلي برأي مواز.

دفعني ذلك ونفر من الأصحاب إلى أن نطوّر شفرة لغوية خاصة بنا، نستعين بها في جلساتنا على المقهى والبيوت، غير أنها سقطت صريعة تحت أجنحة الذباب، فقد اكتشفها وحلّ رموزها.

لا أنكر أنني في البدء كانت أعصابي تثور لرؤية الاثنين، لكني الآن وجميع سكان المدينة قد ألفنا وجودهما. نتعايش معًا في هدوء حذر" لكنها على العموم عيشة أفضل من لا شيء".. هذه مقولة الجميع، يمضغونها تحت اضراسهم ليل نهار، يؤمنون بها على مضض. لكن ما يقض مضجعي حقًا أنني صبيحة كل يوم أجد أحد من أعرفهم قد اختفي وانضم للناحية الأخرى.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة