بهاء بين سيد محمود ، سحر الموجى، ومحمد بدوى
بهاء بين سيد محمود ، سحر الموجى، ومحمد بدوى


إيهاب الملاح يكتب| من الإبداعى إلى الإنسانى: خواطر من دفتر الأيام والأحباب

أخبار الأدب

السبت، 28 أكتوبر 2023 - 05:02 م


عام كامل مضى على رحيل بهاء طاهر. رحل بجسده، وإن كانت روحه المحبة المسالمة النقية تظلل على محبيه وعارفيه بذات الحنو واللطف اللذين كان يغمر بهما من يعرفه ولا يعرفه، من يتعرف عليه للمرة الأولى أو من لازمه كظله طوال سنوات وسنوات. هكذا عاش بهاء طاهر، وهكذا رحل، وهكذا سيبقى..

بهاء طاهر (1935-2022) بالنسبة لى ليس مجرد اسم كبير ولامع ومتميز فى عالم الرواية والقصة والإبداع عمومًا، ولا وجه بشوش مسالم لا يحمل ضغينة لأحد، ولا يسعى للعراك والمنافسة مع أحد.. بهاء طاهر دائمًا ما اقترن اسمه وحضوره وشخصه وإبداعه، اقترن كل ذلك لدىَّ بلحظات تحوُّل فاصلة ومدهشة فى حياتى وحتى كتابة هذه السطور.. 
فأول حوار مهم ومطول أجريته فى مسيرتى الصحفية، ونُشر لى على ثلاث صفحات كاملة فى مجلة (أكتوبر) قبل ما يقرب من ربع القرن، كان معه، وأول مقال يُنشر لى فى جريدة (التحرير) وعليه اسمى وصورتى كان عنه، وقبلها بسنوات كنت سجلتُ لأطروحتى للماجستير عن أعماله الروائية، وإن كانت الدنيا والصحافة قد جرفتنى فى طريقها ولم يتسن لى التفرغ لإنجازها، وإن كان مشروع هذه الدراسة واحداً من أهم المشروعات النقدية التى أتمنى وأدعو الله أن أنتهى منها قريبًا.
وطوال الفترة من 2008 وحتى 2022 وأنا ممن أسعدهم الحظ بصحبته وصداقته، وأتاحت لى الظروف فرصًا عديدة للقائه فى مناسبات عامة وخاصة، وأتاحت لى أن أحظى بتسجيلات صوتية معه أظنها الآن تمثل ثروة إبداعية ونقدية نادرة، وأتاحت لى الظروف أن أحظى بقراءة دقيقة وكلية وشاملة لكل ما كتب من إبداع روائى وقصصى خلال الفترة التى صدرت فيها طبعة كاملة عن دار الشروق، وكان لى شرف قراءتها ومراجعتها وكتابة كلمات التعريف بها.
٣
فى التسعينيات من القرن الماضى، وبالتحديد فى العام 1994 ظهر مشروع (مكتبة الأسرة) إلى النور، وكان نقطة تحول فارقة فى علاقة جيلى كله فيما أظن بقراءة الأدب والتمكن من مطالعة النصوص الرفيعة منذ «زينب» هيكل و«يوميات نائب فى الأرياف» لتوفيق الحكيم و«صح النوم» ليحيى حقى وحتى روايات وقصص إبراهيم أصلان وجمال الغيطانى ومحمد البساطى وبهاء طاهر، كانت المرة الأولى التى تتيسر فيها نصوص كتاب وآباء جيل الستينيات بسعر زهيد بين أيدينا، هذا الجيل الذى ملأ الدنيا وشغل الناس، جيل إشكالى بكل معنى الكلمة؛ مفعم بالتناقضات والمشكلات والأصوات المتصارعة، جيل انقسم على نفسه بعنف وشراسة:
قسم أخلص للكتابة والإبداع، وحاول أن ينأى بنفسه عن أجواء المنافسة والمشاحنات والصراعات التى لا تنتهى. 
وقسم تورط حتى النخاع فى هذه الأمور، وهؤلاء الذين سجنوا أنفسهم وسجنوا غيرهم فى سجون الإيديولوجيا وإكراهاتها وأوهامها، والولع بتصنيف الآخرين وتنميطهم، واتخاذها معيارًا للحكم على أى شىء، وأى شخص، وكأنهم الوجه الآخر من العملة لأصحاب الحقيقة المطلقة وملاكها الذين يحجزون الفدادين فى جنات النعيم!
وكان هناك من أبناء هذا الجيل من دمرته مآسى وأحزان الوطن فى أزمان الحلم والكسرة، شوهته وجعلته متوجسًا مرتابًا، كبر وكبرت معه تشوهاته وأزماته بات من المستحيل أن يرى العالم بغير حدقتين تبحثان عن المؤامرة، وتتتبعان خيوط الدسيسة، وتنقلبان من الرضا إلى الثورة، ومن الحب إلى البغض فى طرفة عين! لم ينجح أحد! ولم ينج أحد.. 
صحيح كان هناك استثناءات محدودة، وتكاد لا تجاوز أصابع اليد الواحدة، لكنها الاستثناءات التى تؤكد القاعدة ولا تنفيها! 
وكان على رأس هذه الاستثناءات -فيما أظن- بهاء طاهر الذى كرس بأعماله ومواقفه الإنسانية الصادقة نموذج «المبدع النبيل»، الباحث عن اللحن الخافت الحزين للواقع المصرى وروحه العميقة، وقد ظل عمره كله يبحث عن سر هذا اللحن ويطارده، ونجح فى اقتناصه من خلال ما جادت به قريحته الإبداعية من رواياتٍ وقصص قصيرة ومقالات وقراءات فى أعمال إبداعية، صاغت فى مجملها تاريخًا مشرفًا وباهرًا لصاحبها، فى الوقت الذى تلقفها فيه الجمهور والنقاد على السواء بكل الرضا والمحبة والقبول.
٤
أذكر أن أول ما قرأت لبهاء طاهر كان بين عامى 1995 و1996. بينهما إذا لم تخنى الذاكرة صدرت طبعة من روايته «خالتى صفية والدير» بغلاف رسمه الراحل جمال قطب، وكانت الرواية مذيلة بما يشبه تقرير سيرة ذاتية كتبه بهاء طاهر، ويكاد يكون هو المصدر الأهم الآن بين أيدينا عن السيرة الذاتية لبهاء طاهر..
فى هذه السيرة الذاتية المختزلة (كما يطلق عليها الناقد الدكتور سامى سليمان) كشف بهاء طاهر عن تفاصيل غاية فى الأهمية عن نشأته وتكوينه ورؤيته الإنسانية والفنية التى تبلورت منذ مرحلة دراسته الأساسية وحتى اللحظة التى كتب فيها هذه المقدمة (1991)
فى «خالتى صفية والدير» يستكمل بهاء طاهر الخيط الفنى السارى فى روايتيه الأوليين، وبالأخص استلهام البيئة المصرية الصعيدية شديدة الخصوصية والتى تتأبى على الدخيل عليها وتستغلق على الغرباء منها، ولا تسلم دواخلها وأسرارها إلا لابن عزيز من أبنائها. سيتخذ بهاء طاهر من تيمة «الثأر» فى الصعيد محفزًا للبحث عن خلق أسطورة التعايش والجوار السلمى بين أصحاب الديانات المختلفة، حب صفية الذى يتحول إلى كراهية تؤججها مشاعر الانتقام والغضب ليس ثأرا لمن قتل زوجها القنصل «البك»، بل لمن اجترح مشاعرها وطعنها فى أنوثتها بإهمال ولا مبالاة.
فى حوار سابق اُجرى معه يكشف بهاء طاهر أن الكاتب لا يملك السيطرة أثناء الكتابة على مسار الأحداث والشخصيات، فبعض القصص قد تحمل فى أحشائها جنين رواية مكتملة، ورواية أخرى ينتهى بها المطاف إلى مجرد «قصة قصيرة»، وضرب مثلًا على ذلك بشخصية «صفية» التى ظهرت كشخصية ثانوية فى قصة «المقدس بشاى» التى تطورت بدورها لتصبح رواية مكتملة، وتحتل فيها صفية مكانها كشخصية رئيسية أو محورية تحرك الأحداث وتقود دفتها إلى مصيرها المعلوم.
يقول بهاء طاهر: «أظن أن الكاتب الواعى هو الذى يترك كامل الحرية لشخصياته أن تفعل ما تريده وتتحرك وفق رؤيتها، لا يفرض عليها الكاتب أى قيود أو ضوابط، وأن تأخذ أفكارها مجراها الطبيعى فى سياق الأحداث والبناء العام للرواية».
وستحظى «خالتى صفية والدير» باهتمام نقدى وافر، إذ كتب عنها عشرات المقالات والدراسات النقدية، وأفرد لها الناقد صلاح فضل فصلًا كاملًا فى كتابه «أساليب السرد فى الرواية العربية» كنموذج على ما سماه «الأسلوب الدرامى».
ثم وفى 1995 صدرت رواية «الحب فى المنفى» التى كانت بمثابة حدث إبداعى كبير وعظيم وسط مناخ راكد وأجواء ساكنة ولا جديد تحت الشمس! وكل ما أتذكره عقب قراءتى لهذه الرواية -أو قبلها لا أعلم بالضبط!- أن جملة المرحوم على الراعى التى أطلقها فى وصفها «رواية كاملة الأوصاف» ما زالت ترن فى أذنى بلا زيادة ولا نقصان. وكان أن حصدت الرواية جائزة أحسن رواية فى معرض القاهرة الدولى للكتاب سنة صدورها أو السنة التالية لها (لا أذكر على وجه التحديد).
«الحب فى المنفى» التى تدور أحداثها على خلفية عريضة تسع العالم كله، جمعت خيوط الواقع الإنسانى المعاصر بأزماته الوجودية وإشكالياته المعرفية وتناقضاته الإنسانية فى فنية متفردة، ومن خلال لغة عذبة رائقة تفيض سلاسة وعذوبة، جعلت من الرواية حديث المدينة وقبلة القراء والنقاد والباحثين، بل صار من الممكن الحديث عن مرحلة فنية جديدة فى تاريخ وتطور الرواية العربية الحديثة أطلق عليها الناقد الراحل شكرى عياد «نمط جديد من الرواية الواقعية» وأظنها كانت ملهمة لأجيال وأجيال من كتاب الرواية ليس فى مصر وحدها فقط بل فى العالم العربى من محيطه إلى خليجه (والحديث عن هذا الأثر يحتاج إلى تحليل مفصل ربما نعود له فى مناسبة تالية).
كان مقال القدير شكرى عياد مدخلًا نقديًا معمقًا جعلنى أعيد قراءة الرواية بعين جديدة ورؤية أعمق فكانت المتعة التى لا تدانيها متعة أخرى. وكان هذا التعرف الأول على إبداع بهاء طاهر وكتابته قبل أن أعبر من الإبداعى إلى الإنسانى بلقائه مباشرة والتعرف عليه وجهًا لوجه وانعقاد أواصر صداقة ومحبة وتقدير متبادل إلى أن رحل عن دنيانا قبل عام.
٥
وكان اللقاء الأول المباشر فى الجامعة، وأنا طالب فى الفرقة الثالثة بكلية الآداب، عندما دعاه أستاذى الناقد الجليل سيد البحراوى (رحمه الله وأسكنه فسيح جناته) إلى محاضرة لطلاب الفرقة الرابعة لمناقشته فى الرواية (وقت أن كانت دعوة كبار الكتاب والنقاد والمفكرين تقليدًا محببًا وراقيًا وسلسًا ولا يستدعى أى تعقيدات روتينية من أى نوع).
كنت الطالب الوحيد من الفرقة الثالثة الذى حضر هذا اللقاء مستعدًا له بورقة (كنت أسميها بحثًا فى ذلك الحين!) عن الراوى فى الحب فى المنفى (ستتطور بعد سنوات طويلة لتصبح نواة أطروحة علمية حول روايات بهاء طاهر)، وكان ترتيبى الثالث بين المتحدثين من الطلاب. وعقب المحاضرة تحلقنا حول الرجل نسأله ونشاغبه، وكانت عيناه تلمعان بفرح ومحبة حقيقية وأمل فى المستقبل.. عندما ذهبت إليه بنسختى من «الحب فى المنفى» كتب: «إلى إيهاب الملاح.. أملًا وثقة فى مستقبل زاهر».
عقب هذا اللقاء قررت أن أقرأ كل ما كتبه بهاء طاهر، وكل ما كتب عنه، ساعدنى فى ذلك أساتذتى وأصدقائى سيد البحراوى، وحسين حمودة، وخيرى دومة، ثم جابر عصفور. كان ما كتبوه عن قصص وروايات بهاء طاهر من أهم وأعمق ما كتب فى تحليل وقراءة أعماله، لكننى توقفت كثيرًا أمام تحليلات البحراوى المعمَّقة خاصة لروايتىْ «خالتى صفية والدير» و«الحب فى المنفى»، واستخلاصاته التى دارت حول المنحى السياسى (أو المغزى السياسى إذا جاز التعبير) لهاتين الروايتين وربطهما بالروايتين السابقتين عليهما وهما «قالت ضحى» و«شرق النخيل».
بعد ثمانية أعوام من هذا اللقاء سألتقى بهاء طاهر مجددًا، فى مكتبة ديوان الزمالك، لأناقشه فى بعض النقاط المتعلقة بخطتى للماجستير وعنوانها «تعدد الأصوات فى روايات بهاء طاهر»، بإشراف صديقى وأستاذى الجليل الدكتور حسين حمودة. أذكر أنه أبدى إعجابه الشديد بمخطط الفصل المخصص لتحليل لغة الروايات، قائلا إنه مسَّ بعض الأفكار التى يراها «جديدة» و«طازجة». 
فى العام ذاته، وأثناء تغطيتى لإعلان جوائز الدولة فى الآداب والفنون بالمجلس الأعلى للثقافة، وكان حينها المرشح الأول للجائزة وكان التصويت يسير فى اتجاه حصد الأصوات لبهاء طاهر، فاجأ الجميع بتنازله لصالح اسم رجاء النقاش، فى هذه اللحظة رأيت بعينى ثراء الإنسانية وبهاء الموقف وصدق التعبير، رأيت «الإيثار» بالفعل وليس بالقول فقط. رأيت ذلك دون جعجعة ولا صخب وبهدوء شديد. سجل جابر عصفور شهادته التوثيقية على تلك الواقعة بقوله:
«بهاء طاهر كائن ثرى بإنسانيته التى أعرفها من علاقتى الوثيقة به، ولا أزال أذكر موقفه فى العام الذى ترشح فيه رجاء النقاش لجائزة مبارك، وكنا جميعًا نعرف مرضه الخطير، وندعو له بالسلامة، وكان اسم بهاء بين المرشحين كذلك، فإذا به يطلب انسحابه، كى يعطى الفرصة كاملة لرجاء النقاش، وكان إعلانه الانسحاب عاملًا مهمًا من العوامل التى ذهبت بالجائزة إلى رجاء الذى كان قد توفى قبل جلسة التصويت، لكن قواعد الجوائز تنص على أنه ما دام الترشيح قد حدث فى حياة صاحبه، فإنه يظل مرشحًا للجائزة حتى بعد وفاته وقد حدث الأمر نفسه مع عز الدين إسماعيل الذى انحاز أعضاء المجلس إلى منح الأصوات إليه بعد وفاته، فضاعت الجائزة على أحمد حجازى، وحدث ذلك مع عبد القادر القط الذى حصل على الجائزة، وهو يحتضر، وحدث، أخيرًا، مع يوسف أبو رية الذى اغتال الموت شبابه، فحصل على أكبر عدد من الأصوات فى جائزة التفوق فرع الأدب لهذا العام، وأعتقد أن الكثيرين من أعضاء المجلس لا يزالون يذكرون موقف بهاء من الاعتذار عن عدم منافسة رجاء النقاش، فردوا على موقفه النبيل بما يليق به فى العام التالى».
ومنذ هذا اللقاء، توالت المقابلات والاتصالات التى لم تنقطع أبدًا أبدًا، التقينا بعدها كثيرًا فى نقابة الصحفيين، وفى مكتبة الشروق بالزمالك، وفى توقيع أى عمل جديد يصدر لأحد الكتاب الجدد، ولم يكن يتأخر أبدًا عن دعم ومساندة الكتاب الجدد والإشادة بهم والتنويه بأعمالهم، رأيت هذا بنفسى وسمعته بأذنى منه فى مرات ولقاءات عديدة (فى سنوات تالية صدرت من بعضهم ألفاظ مسيئة فى حقه، واستخفافًا بشيخوخته وعدم احترام لقيمته، وكم كرهت هذه البذاءة وطول اللسان ووقاحة التعبير تحت مسميات وشعارات «الثورة دين» و«الأدب حرية» و«الثقافة معارضة» إلى آخر هذا الهرف والخرف الذى ابتلينا به فى السنوات العشر الماضية).
٦
بهاء طاهر رجل موقف بكل معنى الكلمة، مواقفه لا تتبدل أو تتلون، بحسب أنواع المكاسب أو الفرص، فهو «ناصرى» بالمعنى الذى يجعله يؤمن بضرورة العدل الاجتماعى، و«الوحدة القومية» ويضيف إلى ذلك إيمانه الحقيقى بالحرية فى كل مجالاتها الاجتماعية والسياسية والفكرية والإبداعية، ورواياته تعكس العناصر الثابتة فى مواقفه التى هى أساس رؤيته للعالم، إبداعياً، ابتداء من مجموعاته القصصية الأولى «الخطوبة» إلى روايته الأخيرة «واحة الغروب».. 
وهو من أعمق أبناء جيله وعيًا، ومن أكثرهم ثقافة، تشهد على ذلك كتبه (على قلتها) ومنها كتابه الرائع عن أبناء رفاعة «الثقافة والحرية» (1993)، ومقالاته التى جمعها فى كتابٍ آخر «راح اسمه من ذاكرتى»، وما نشره بعنوان «البرامج الثقافية فى الإذاعة» (1975) و«عشر مسرحيات مصرية عرض ونقد» (1985) وأخيراً «فى مديح الرواية» (2004). 
أضف إلى ذلك ترجماته، فهو أول من قدم كويلهو الروائى البرازيلى إلى القارئ العربى، وسبق إلى اكتشاف العمل الذى ترجمه بعنوان «السيميائى.. ساحر الصحراء» (1996) وكان ترجم من قبل مسرحية «فاصل غريب» للكاتب الأميركى يوچين أونيل (1970). وهو، إلى جانب ترجماته، نهم فى اطلاعه على آداب العالم، تساعده على ذلك معرفته بالإنجليزية والفرنسية على الأقل، فقد عمل فترة غير قصيرة فى مقر الأمم المتحدة فى جنيف التى كتب فيها بعض أعماله (رواياته وقصصه)؛ مثل: «أنا الملك جئت»، و«قالت ضحى»، و«الحب فى المنفى»..
وبهاء طاهر من أصحاب الذائقة الواعية المدربة اجتهد فى تنميتها وصقلها منذ الصغر بالقراءة المنظمة الواعية، وهو ممن يرون أن القارئ المدرب قادر على اكتشاف الرواية الحقيقية من الزائفة، كما أن كل رواية تحتاج إلى اجتياز اختبارين مهمين، لم يكن يمل أبدًا من الإشارة إليهما (فى مقالاته وحواراته وكتبه كلها)؛ وهما: 
الأول هو «حكم الجمهور» غير أن هذا الحكم قد يصيب وقد يخطئ؛ أى أن بعض الروايات قد تلقى بعد صدورها رواجًا ونجاحًا لأسبابٍ لا علاقة لها بالفن فى ذاته، بينما روايات أخرى عظيمة قد تفشل ويعجز القارئ عن تذوقها (وهذا عين ما نراه الآن حولنا وبخاصة فى السنوات الأخيرة التى اتسع فيها المشهد واضطرب واختلط الفنى بالتجارى والقيم بالمبتذل والسطحى.. إلخ) إلا أنه كان يرجح أن فى كثير من الأحيان يكون حكم الجمهور صائبًا.
أما الاختبار الثانى أو «الحكم النهائى» فهو اختبار الزمن، فمع مرور السنين تسقط من ذاكرة الجمهور والأدب الروايات التى لا تستحق الاعتبار، فى حين تصبح الروايات الحقيقية جزءًا من الذخيرة الباقية للفن الروائى، وتكتسب حياة متجددة مع الأجيال المتتابعة من القراء. 
ويقرر بهاء طاهر أن هذا هو أهم ما تعلمه من تجربته كقارئ للرواية وكاتبًا لها فلا تخدعه مهرجانات المديح بروايات بعينها ولا حملات الهجوم على غيرها.. ولعل هذا من أهم الدروس والقيم التى يجب أن نعتبر بها فى هذا الزمن الفوضوى المضطرب.
٧
أذكر أنه فى كلمته التى ألقاها على الحضور بمناسبة فوزه بجائزة ملتقى الرواية العربية فى 2016، وجه بهاء طاهر الشكر إلى الملتقى، وإلى اللجنة، مؤكدًا فى الوقت ذاته على ضرورة تخصيص الجائزة فى ما هو قادم من دورات إلى الكتَّاب الشباب، داعيًا إلى اقتسامها بين أحد شيوخ الكتابة الكبار وبين أحد وجوهها الشابة البارزة، هذا هو بهاء طاهر، بنبله المعروف، ووعيه بحركة الزمن وحماسته الصادقة للأجيال الجديدة، وما تنتجه من أدب مختلف. هذا هو بهاء طاهر المتسامح المتصالح مع ذاته المدرك لصيرورة التطور والتجدد، لا يحمل ضغينة لأحد ولا يكترث للمهاترات ولا يتوقف عند الإساءات التى تصدر من بعض المخبولين الذين يعتقدون بل يتوهمون أن وجودهم وتحققهم مقترن بالإساءة والتحقير والتهجم على منجز من سبقوهم من الأجيال الأكبر.
رحم الله بهاء طاهر.. الكاتب النبيل، والإنسان الوديع المسالم المتصالح مع ذاته، ومع العالم ومع الدنيا كلها. ورغم سلمه ومسامحته ونفوره التام من العراك والصخب والضجيج، فإنه كان قويًا وصلبًا وحاسمًا، ولا يقبل أنصاف الحلول فى هموم وطنه ومصالحه والدفاع عنه، فضلًا عن قناعاته الإنسانية والفكرية.. 
رحم الله بهاء طاهر المثقف رفيع الثقافة المؤمن بقيم الحضارة الرفيعة، والقيم الإنسانية العالية، والمناضل والمقاوم بإبداعه الحر الجميل.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة