بهاء طاهر
بهاء طاهر


ليال الرستم تكتب| ابتسامة لا تغيب

أخبار الأدب

السبت، 28 أكتوبر 2023 - 05:05 م

مر عام على رحيل بهاء طاهر، وكأنما عاش العالم خلاله أحداث مائة عام..
وكأن الأحداث التى تقع من حولنا توحى بأن من رحلوا قد استراحوا، وأن زمانهم كان الزمن الأجمل. 
تأتى الذكرى الأولى لرحيل بهاء طاهر بين أحداث أليمة، فنرى صورة وجهه ناظرًا إلينا بابتسامته المميزة ونظرته المتحدية بالأمل والمحبة والعدل. ابتسامة عاشت أوقات حزن ويأس ما بين فَقْدٍ ونكسة ومنفى وثورات، فعرفت السلام والصدق والعودة إلى الوطن والإبداع والعطاء. أتساءل مع الأحداث: هل كانت ستنطفئ ابتسامة بهاء طاهر لو عاشت أحداث اليوم؟ أتخيله يرد من خارج الزمن بعين تنظر من فوق زجاج نظارته، دامعة وحزينة، ممزوجة بالمحبة والمثابرة، وبفم لا يزال يبتسم.
فى بداية عملى فى ديوان سنة ٢٠٠٧، وبعد تخرجى من الجامعة فى كندا وعودتى إلى مصر، دخل بهاء طاهر المكتبة فعرفه الجميع، باستثنائى أنا، ككاتب كبير وعميل دائم فى المكتبة. كانت مواعيده معروفة للجميع وكان دائم الحضور قبل الموعد حاملًا الجريدة اليومية التى يتصفحها، وكانت لقاءاته على طاولة معينة فى كافيه المكتبة، إن وجدها متاحة يجلس عليها، وإن وجد جليسًا آخر اختار أخرى قريبة منها. كان خفيف الظل دائم الترحاب، يحب الجمال والسلام. لا أتذكر منه إلا الصوت المنخفض والابتسامة الرقيقة والكلمة الطيبة والأذن التى تنصت فى كل وقت ولكل إنسان. فى سنى الصغيرة آنذاك كنت أظن بأن طريقته هذه هى المعتاد بين الناس، لم أدرك إلا بعد سنوات كم كان استثنائيًّا.
للمكتبة حالة خاصة، فهى مكان دافئ ملهِم للعقل، تستريح فيه وتقابل أشخاصًا يؤثرون فيك. أصبحت مكتبة ديوان بطل حكايات كثيرة مثل حكايتى مع بهاء طاهر. لم أدرك وقتها مدى تأثير الأماكن على بهاء طاهر حتى قرأت رواياته ومجموعاته القصصية، وبعدما رأيت مدى تأثرنا فى المكتبة بحضوره الطاغى والمتواضع والمحب للناس، حضور ما زال ملموسًا اليوم بين كتبه فوق رفوف المكتبة، وعلى طاولته فى الكافيه.
مع زياراته المتكررة للمكتبة وتكرار لقاءاتنا دفعنى الفضول لمعرفة ماذا يكتب هذا المبدع المثقف المحب للعالم، الذى يمد يده دائمًا للشباب؟ ومن هنا بدأت رحلتى معه باختيار أصغر رواية وجدتها أمامى فى المكتبة، كانت رواية «خالتى صفية والدير». قرأتها فأبهرتنى وأثرت فى نفسى قصة الحب والانتقام التى رواها بلغة بسيطة فى أحداثٍ سلسةٍ لتصبح الرواية العربية الأولى التى أقرأها. ومنها دخلت عالم الرواية العربية بعدما ذاب الحاجز عن طريق قلم المبدع بهاء طاهر. ولهذا أشعر اليوم بامتنان لكونه لم يسألنى يومًا إن كنت قرأت له، ولكن بشخصيته الجذابة دفعنى لأن أدخل عالمه عبر روايته. 
فى ٢٠٠٨ فاز بهاء طاهر بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية) عن رواية «واحة الغروب»، ليصبح أول كاتب يحوز الجائزة. أتذكر وقتها أنه لم يختلف فيه أى شىء، إلا أنه صار أكثر ترحابًا بالناس وأعطى المزيد من وقته للشباب الذين كانوا يتواصلون معه فيقابلهم فى المكتبة. تعلمت وقتها أن نفسًا مبدعة ومثقفة مثل بهاء طاهر رسالتها أكبر من أى جائزة.
وبعد ٢٠١١ ابتعدت عن العمل وانقطع تواصلى مع الأستاذ، فلم أدرك وقتها أن لقاءاتى الدائمة مع بهاء طاهر ستصبح ذكرى جميلة. 
فى ٢٠٢١، وبعد غيابه لسنوات عن الساحة الثقافية ومع انتشار وباء كورونا، قررت مكتبة ديوان أن تكون ٢٠٢١ سنة الإبداع وكان بهاء طاهر أول مبدع مصرى يتسلم درع ديوان الإبداعى المحفور عليه كلمات عميد الأدب العربى د. طه حسين: «إن الإيمان والتصميم والصبر هى الحياة، الحياة التى تحقق معنى وجود الإنسان الحى الممتد بآثاره الإنسانية الباقية».
لم نجد أجمل ولا أدق من هذه الكلمات كى نصف بها بهاء طاهر، وكان لقائى معه فى منزله مع حرمه ستيڤكا تمامًا مثل لقاءاتنا السابقة، وكأن عقدًا من الزمن لم يمر، بحضوره الملىء بالسلام والمحبة وابتسامته المميزة التى لا تغيب. تحدثنا كثيرًا وجلسنا فى صمت نشاهد التلفزيون. وعندما شكرنى على حضورى وشكر ديوان على التكريم كان ردى: «نحن من علينا أن نشكرك، ووجودنا اليوم فى بيتك هو رسالة شكر ومحبة لك»، فرد بآخر ما سمعته منه: «وأنا بحبكم». 
وفى ٢٠٢٢، رحل عن عالمنا بهاء طاهر تاركًا لنا أعمالًا إبداعية مميزة، وكذلك تاركًا فى ذاكرتنا حالة استثنائية من الإنسانية المُحبَّة للثقافة، المهمومة بالعدالة، الشغوفة بالكتابة، ومع ذكرى بهاء طاهر لا تغيب ابتسامته المميزة، بل تعبر إلينا عبر عوالم وأزمنة، فهذا إنسان أحب الجميع وأحبه الجميع.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة