الكاتب محمد نبيل
الكاتب محمد نبيل


«سيناء… عتبات الجنة101 » 4 قصة قصيرة للكاتب محمد نبيل

صفوت ناصف

الإثنين، 20 نوفمبر 2023 - 08:20 م

 

 

إهــــــــداء

إلى المصريات ..

الأم التي تدعوا لفلذة كبدها بالحياة الأبدية وهى تعلم الحقيقة!

.. الزوجة التي تحمل جنينا لن يرى والده أبدا وتتحول  رجلا (!)

الابنة التي ترفع رأسها فخرا لذكرى والدها…

من أجل الوطن ...

 

 

 

الفصل الرابع

الطريق يبدأ من المحلة..

تنتهي مراسم الخطبة الحزينة السعيدة.. ويجدد يوسف وعده لبطة.. سيكون للأبد بمثابة والدها وأخيها أولًا، وحبيبها ثانيًا، وزوجها فيما بعد.. وفي عينَى بطة سؤال حائر لماذا لا ترى السعادة في عينَى حبيبها لهذه الخطبة.. لماذا هذا الشاب المحبوب من جميع مَن حوله تمتزج ابتساماته بالحزن.. هي ترى في حبيبها حالة غريبة لم تسمع عنها من صديقاتها اللائي سبقنها إلى مشوار الخطوبة والزواج؛ فمن المفترض - بعد قصة حب طويلة - أن يملأ هذا الشاب الدنيا بالحيوية والسعادة إتمامًا للخطبة.. يجيش صدرها حول هذا الشاب بعلامات استفهام كبيرة تحتاج إلى تفسيرات، بخاصة وهما سيخطوان معًا أول عتبات الحياة المشتركة.

يستشعر يوسف سيل الأسئلة الجارف من عينَى حبيبته، ويجد أنه من الواجب عليه مصارحتها.. وبعد تردد -ليس في الإعلان عما بداخله إنما في كيفية البدء في الحديث مع خطيبته -.

يوسف مترددًا: .. شوفي يا فاطمة لازم أحكيلك وأجاوبلك عن السؤال اللي محيرك.

فاطمة: يا ريت.

يبدو عليها ملامح القلق والتوتر، تدور عيناها في حدقتيها، تردد رواحًا ومجيئًا، تنظر إلى يوسف تتفحصه، ثم تغيب عنه خوفًا من صدقه ربما تكون متوقعة.. تلك الفتاة التي تكتب دائمًا عن نفسها أنها لم تعتَد الفرح، ولم يحدث أن دام طويلًا معها.

يوسف: شوفي يا فاطمة.. سبب الحزن اللي أنا فيه.. أنا شايل جوايا جبل كبير من الأمانة.

فاطمة مندهشة: أمانة! إيه الموضوع؟

يوسف: خلينى أحكى وأقول كل اللي عندى.. لأن أنتِ الوحيدة اللي لازم تعرف السر اللي جوايا.

فاطمة: سر.. خير يا رب.. أنت قلقتنى يا بو يوسف.

يوسف: الحكاية بدأت واحنا طلبة في نهاية الحربية، يوم الجمعة الساعة السابعة مساءً، زمايلى الأقرب إلى قلبي استشهدوا وهما راجعين من بيتهم للكلية.

فاطمة باكية: كمل.. وهى تنظر إلى يوسف بإعجاب وتقدير، تذرف الدموع التي انحدرت سريعًا من عينيه إلى واديها المعتاد.

يوسف: محمود ويسرى كانوا أقرب أصحاب إلى قلبى، كانوا زمايل عنبر، أنتِ مش عارفة يعنى إيه زمايل عنبر.. يعنى نقسم مع بعض اللقمة وشربة الميه، ولما كنا في معسكر التدريب الخارجي كنا بنخاف على بعض جدًّا.. أنا كنت قريبًا منهم جدًّا يا فاطمة.

فاطمة: استشهدوا ازاى يا أبو يوسف؟

يوسف: كانوا راجعين من الإجازة الأسبوعية، والساعة 7 يوم الجمعة واقفين مستنيين أتوبيس عودة الإجازات علشان ينقلهم من المحلة إلى الكلية الحربية، لكن عبوة ناسفة انفجرت جنب الأتوبيس.. و.. وراحوا.. راحوا قبل ما نكمل مشوارنا اللي اتفقنا عليه.. خلفوا وعدهم معايا يا فاطمة.. يبكى ويفشل في إخفاء بكائه عن فاطمة.

فاطمة: ربنا يرحمهم يا يوسف.. "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون".

تشد على يديه وتقول: أنت عظيم يا بو يوسف، وأنا محظوظة جدًّا أنك شريك حياتى.. اوعى تفتكر أن كلامك النهارده ليه أثر سلبى علىَّ، بالعكس أنت أثبت لى أنك رجل وإنسان بمعنى الكلمة.. أنا مطمنة على نفسى ومستقبلى معاك أوى يا بو يوسف.

وتبتسم في راحة ترسل نظرة إلى السماء كأنها تتحدث إلى والدتها وهى تراها.. شوفتى يا ماما هو ده يوسف اللي كلمتك عنه.. هو ده شريك حياتى اللي اختارته.

بفخر ترفع رأسها إلى السماء وتحركها بعلامات رضا، ثم تعود إلى يوسف تمسك يده وتنهض واقفة.

فاطمة: يوسف.. أنت مش حتفسحنى قبل ما تسافر للجيش؟

يوسف: طبعًا.. ململمًا نفسه ومجمعًا ذكرياته إلى خزانة أعماقه من جديد لتكون حافزًا يحركه صوب هدفه.. ويسألها: تحبى تروحى فين؟ أوامرك.

فاطمة: تحب نروح مشوار بعيد شوية؟

يوسف: لحد فين يعنى؟

فاطمة: لحد المحلة.

يوسف: المحلة؟!

فاطمة: آه نروح نسلم على والدة محمود ووالدة يسرى قبل ما تسافر، إلا صحيح أنت ما قلتليش أنت جيشك حيكون فين؟

يوسف: بالنسبة لجيشى حيكون فين خليها مفاجأة.. أما المفاجأة الكبيرة بالنسبة لى أنك كبرتِ في نظرى قوى.. يعنى معقول أول يوم نخرج فيه بعد خطوبتنا وأول مكان يكون زيارة لأسرة زمايلى الشهداء.

فاطمة: أنا خلاص إن شاء الله حكون زوجة بطل، لازم أكون أنا كمان بطلة، ولَّا رأيك إيه يا حضرة الضابط؟

يوسف: طب نستأذن من عمى إبراهيم ونتكل على الله.. بس نكلم الست والدة الشهيد يسرى والست والدة الشهيد محمود.

في طريق السفر من القاهرة للمحلة ينزل يوسف لشراء بعض المستلزمات من المثلجات والسندوتشات والمسليات.. ولم ينسَ قطع الشيكولاتة التي تعشقها بطة.

بطة: إيه ده كله يا بو يوسف.. بس اوعى تكون نسيت أهم حاجة.

يوسف: طبعًا ما نسيتش يا بطة.. خدي يا شتى الشيكولاتة بتاعتك أهى.

بطة: الله.. سوق أنت بقى وسيبنى مع شيكولاتى.

ينظر إليها يوسف وكأنها طفلة صغيرة فرحت بحلوى أتى بها والدها كمكافأة لها وتعبيرًا عن رضاه عنها.. ويبتسم ليطلق العنان لسيارته ليتسلما الطريق الزراعى بدءًا من النيل ماسبيرو.. وتبدأ فاطمة في سؤال رفيقها عن معالم الطريق، ويبادر هو كمرشد سياحى ليظهر ثقافته العميقة وولعه بتاريخ مصر المحروسة.. وانبهار بطة بحكايات رفيقها.

يتوقف يوسف بسيارته معلنًا الوصول لأسرة الشهيد يسرى زميله، وتطلب منه فاطمة أن تصعد هى الأول لتتعرف على والدة الشهيد مباشرة.. ولا يجد يوسف في ذلك ما يمنع.. فيشير إليها أن تتقدم سلم المنزل صعودًا في الدور الثالث، وأثناء صعودها تلف بطة رأسها في اتجاه يوسف وهى تشير بإصبعها إلى دهان جدار السلم الملون بعلم مصر تمامًا كما فعل والده عند تخرج يوسف.. وتهمس إليه: يوسف.. الدهان شكله جديد، هو فيه حد اتخرج هنا كمان من زمايلك.. يبتسم يوسف ويهز رأسه بالرفض ويقول: ما تستعجليش دلوقتى تعرفي كل حاجة.

وعندما بدأت بطة في وضع يدها على مفتاح جرس الباب، أمسك يوسف يدها وقال لها: احنا متعودين نخبط على الباب كده (ثلاث خبطات متتالية ثم خبطتان). تندهش بطة.. أنتو؟!.. ثلاث خبطات؟! هو إيه الموضوع يا يوسف؟.. يبتسم يوسف ويقول لها: حتعرفي دلوقتى.. شوفي وما تسأليش إلا لو اتأخرت الإجابة عنك.

بطة: هو فيه إيه.. أنا مش فاهمة حاجة؟

تفتح الحاجة أم الشهيد الباب بعد الخبطات الثلاث ثم الاثنتين.

وتأخذ يوسف في حضنها وهى تزغرد: مبروك.. مليون مبروك يا حبة عينى.. تعالى.. ادخل إخوتك كلهم هنا.. مين اللي معاك ديه يا بو يوسف.. نورا أختك ولَّا بطة اللي بالى بالك؟.. وتضحك أم الشهيد.

يوسف: لا يا ماما ديه بطة خطيبتى.. مش حتصدقى إنها طلبت أول فسحة ليها معايا تكون عندك.

أم الشهيد يسرى: الله.. ما شاء الله.. زى القمر.. أحلى من وصفك يا بو يوسف.

فاطمة في دهشة عارمة، تكاد تخور الأرض تحت قدميها، هى في حالة استغراب من كل المشهد.. تصورَت امرأة مسنة عجوز باكية مليئة بالحزن متشحة بالسواد.. إن ما أدهشها وأثار فضولها كان يستلزم منها أن تقف بجوار خطيبها وسندها الوحيد ليقوم بدوره بكشف الحقائق وتقديم إجابة عن كل سؤال حائر لديها.

أم الشهيد: اقعدى يا بنتى واقفة ليه.. سيبى يوسف يسلم على إخواته جوه وتعالى جنبى هنا احكى لى.

فاطمة: بصراحة يا حاجة...

أم الشهيد مقاطعة: لا.. حاجة إيه.. اسمى ماما.. مش أنتِ عندك ماما وبتحبى تنادى لها بماما.

فاطمة: لاء أنا والدتى...

أم الشهيد: تقاطعها.. الله يرحمها طبعًا.. أنا قصدى على مامتك عزيزة.

تنظر فاطمة إلى أم الشهيد وتحرك رأسها تجاه غرفة مليئة بالضباب تبحث عن خطيبها يوسف لينقذها من هول ما هى فيه.

تبادر أم الشهيد بالإجابة.. لترد على استفسارات ملأت عينَى فاطمة.. وبحنان الأم تقول لها:

تشربى إيه الأول يا بنتى.. ديه المرة الأولى والأخيرة اللي هعمل لك فيها مشروبك، لكن بعد كده أنتِ بنفسك تقومى وتعملى ليكى وليا اللي حنشربه.

فاطمة باستغراب: بعد كده؟!.. هو أنا نفسى أشوفك كتير طبعًا، إنما مش عارفة ظروف يوسف.

أم الشهيد: سيبى يوسف عليا، المهم تكونى أنتِ اللي عايزة تيجى.. تعالِى أفرجك على أهم حاجة في حياتى.

تعتدل فاطمة من جلستها وتقوم مع الحاجة أم الشهيد التي اتكأت على يد فاطمة قائلة: اعذرينى يا بنتى رجلى مش بتشيلنى من يوم الفرح.

فاطمة: الفرح!! شوفي يا ماما.. قصدى.. يا ماما.

أم الشهيد: أيوه الحق طلع الأول خلينى مامتك على طول.

فاطمة: هو يوسف مع مين؟

أم الشهيد: يوسف مع زمايل يسرى، كلهم اتفقوا ييجوا النهارده يعدوا علىَّ قبل ما يتوزعوا على وحداتهم في سيناء.

فاطمة: سيناء!.. اتفقوا يتقابلوا هنا!.. وتسر إلى نفسها: حاضر يا يوسف لما أتلم عليك.

أم الشهيد: ديه صور ابنى يسرى.. عريس والله.. من يومه.. ده شهيد يا بطة.. أنا عارفة أن اللي أنتِ بتحبيهم بتخليهم ينادوكِ يا بطة.

فاطمة: طبعًا.. طبعًا ربنا يعلم أنا حبيتك أد إيه يا ماما.

أم الشهيد: شوفي زى القمر ازاى.. ده يسرى وسط زمايله في غرفة الصاعقة في دورية تدريب في جنوب سيناء، كان نفسه لما يتخرج يروح على سيناء.. وكنت بسأله ليه سيناء يا ابنى بالذات؟ فكان يرد ويقول: أصلها طاهرة.. أطهر حتة في مصر كلها ياماما.

تنظر فاطمة إلى قوة هذه المرأة بإعجاب شديد، والصبر الذى تتشح به عوضًا عن الحزن والسواد.

وتستكمل أم الشهيد: وديه صوره وهو في أرض الطابور بالكلية الحربية لما فاز مع فريق الخماسى الحديث وبياخد الكاس من مدير الكلية.

وديه ميدالية نوط الواجب العسكرى لتفوقه الرياضى.. تعرفي ده كان بيحب الرياضة جدًّا، وكان حلمه يرفع علم مصر في بطولة العالم العسكرى، وكل زمايله وأساتذته في الكلية كانوا متوقعين له كده.. إنما أمر الله.

فاطمة تقاطع أم الشهيد: ماما هم اللي جوه دول زمايل ابنك الشهيد؟

أم الشهيد: لاء مش ابنى بس.. ده كمان أخوكِ الشهيد.. قولى عليه أخويا.. أنا ماعنديش ولاد تانى.. هو كان واحد ربنا أخده.. يبقى كل حبايبه إخوته وأخواته.. يبقى أنتِ لازم تناديه على أنه أخوكِ.

فاطمة: تعرفي يا ماما.. فيه إحساس غريب جانى أول ما دخلت البيت ده.. حاسة إنى كنت ساكنة هنا.. ليا حاجة هنا.. في ألفة عجيبة.. أخدت على البيت بسرعة مش عارفة ازاى.

أم الشهيد: تعالِى معايا نحضر لقمة في المطبخ للولاد.

فاطمة: ماما ممكن أسألك؟

أم الشهيد: طبعًا أنتِ خلاص بنتى.

فاطمة: هم إخوات الشهيد اتفقوا ييجوا كلهم النهارده هنا؟

أم الشهيد: آه كلهم، وكمان بيتصلوا على تليفونى كل يوم، وموزعين نفسهم يتصل واحد منهم كل أول ساعة يطمن عليا ويسألنى لو عايزة حاجة.. مش بقولك ولادى.

فاطمة: ربنا عوضك ياماما.

أم الشهيد: شوفي يا بنتى مافيش حاجة تعوض الابن.. إنما العوض في اللطف والصبر اللي ربنا وهبه ليا.. وفي الولاد الحنينين دول.. كل الناس بتقول شباب اليومين دول مش أد المسؤولية، ومش عندهم قيم ومبادئ.. إنما أنا بقول لكل اللي بقابلهم تعالوا شوفوا إخوات ابنى الشهيد وأنتوا تعرفوا مين هما شباب اليومين دول.

فاطمة: ربنا يصبرك يا ماما.. تسمحى لى آخد تليفونك أنا كمان وأتصل بيكِ أطمن عليكِ كل يوم.. بس أنتِ عرفتِ ازاى حكاية ماما وطنط عزيزة؟

أم الشهيد: قبل يوسف ما يطلب إيدك جه هنا وأخد رأيى، ولما حكالى كل حاجة عنك.. وكلامه واحترامه ليكِ.. على طول قلت له على بركة الله.. خد أسرتك وروح وابقى خلينى أشوفها.

فاطمة: سبحان الله.. أنا اللي طلبت منه آجى هنا النهارده.. وماكنتش أعرف أنه متفق مع صحابه على زيارتك.

أم الشهيد: عرفتِ بقى أن اللي بينكوا ربنا هو اللي خلقه وزرعوا في قلوبكم.. ربنا يفرحكوا ببعض.

فاطمة: أنتِ ست عظيمة.. علمتينى النهارده كتير.. وأنا اللي كنت فاكرة لما الواحدة تفقد أهلها أغلى ما عندها يبقى ماعندهاش حظ تفرح.. إنما لقيت عندك إجابة كل أسئلتى.. وراحة لتعبى.. من النهارده أنتِ كمان أمى زى طنط عزيزة بالضبط، وطبعًا زى ماما الله يرحمها..

ويجتمع الضباط الجدد في منزل أم الشهيد يسرى على مائدة الغداء، يفرحون ويضحكون، لم يظهر على أى منهم حزن على الشهيد، إنما كلهم يتمنوا أن يلحقوا به ويقولون كان دايمًا متفوقًا علينا وأهو سبقتنا.. نعمل إيه ما فيش غير سيناء هى البوابة اللي حتخلينا نحصله.

تندهش بطة من هذا الحديث.. إنما ترتاح إليه عندما تردده مع نفسها، وأجابت لنفسها عن سبب دهان السلم عند والدة يسرى بالدهان في منزل خطيبها.. هى قد علمت أن زملاء الشهيد يحتفلون مع والدته كما احتفلوا مع أسرهم.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة