چيهان جمال
چيهان جمال


«زوار الروح».. قصة قصيرة للكاتبة چيهان جمال

صفوت ناصف

الثلاثاء، 26 ديسمبر 2023 - 08:01 م

١- ديسمبر -٢٠٢٣

وثمة أحبة تُبعدنا عنهم السنوات لكن الأرواح النقية التقية يصير حضورها غالب لا محالة ولا سيما وقت الرحيل الذي لا يعترف أبداً بذاك البعاد.

استيقظت من نومهَا على صورة "روح"العالقة بذاكرة ايام براءة الصبا ..فتخطو هويناً هويناً ،ويغالبها السؤال الحائر  !

لماذا أتت روح بالمنام ، وهي التي لم تأتِ من قبل؟!

ودون إجابة ظل السؤال يدق على جدار القلب الذي وعى أنه لم يعد يسع سوى الأحباب .

وهاهي تريد أن تذهب لإعداد كوب دافيء من أي مشروب لكنها لم تستطع أن تحدده بعد !

فما زال الفِكر مشوشاً ببقايا حكايا الأحباب على الرغم من أنه لم يفلح في أن يحتفظ بحكايا وجوه كُثر تزاحموا بذات المنام.

وسُرعان ماتسرسبوا ،وحكاياهم مع أول طلة للنهار ،ولم يتبقى منهم سوى وجه والدة "روح" وحكايا دارت بينهما،وهاهو طيفهَا لازال يصاحبها، وكأنهَا لازالت تراها كما رأتهَا بذاك الثوب الأبيض،وغطاء الرأس الذي كان بذات اللون الملائكي،والذي كان يشبه إلى حدٍ كبير الرداء المغربي التقليدي ،وهاهي "رؤى"تحادث نفسها أنها لم تستطع أن تجزم إذ كانت رأتهَا بالفعل قبلاً أم أنها لم ترها قط سوى بهذا المنام !ولاتعلم إذ كانت على قيد الحياة أم لا ؟!

ليؤكد عليها القلب ضرورة الاطمئنان، وبخاصة أنها لم تسأل أحد عنها لا لشيء سوى أنها لاتتواصل منذ سنوات مع الكثيرين بعدما اكتفت بونس القلب الذي حماها مما لا يليق من تصرفات لبعض البشر .

لذا اكتفت "رؤى"بالاطمئنان ، والدعاء مثلها مثل أصحاب الدعوات الصادقة التي كانت تصدق على رسائل تقطر الماً من قلب أختهَا الحبيبة ،والتي رغم مابهَا من إيمان ،وتسليم لقضاء الله وقدره كان بها ذاك الحنين الغالب لأن تسلم عافية "روح"وتعود كما كانت قبل هذا الابتلاء الكبير.

وهكذا ظلت تكتفي بدعوات مخلصة مصحوبة بالقليل من الذكريات الحانية كأيام صباهم ،وقتما اشتركتا بفصول الدراسة ؛وبفريق رياضي أيضاً .

تستكين "رؤى"في حضرة رواء الذكريات ربما تسلم من هذا القلق الذي يلازمها على روح ،ولاتدري له سبباً ..

فلا جديد بحالتها سوى المزيد من الألم الذي تشعر بهِ جيداً بإحساسها ..فالمشاعر القاسية التي عاشتهَا حين ابتلاء والدها بذات المرض أعلمتها الكثير عن توابع المعاناة.

لذلك فهي دوماً تتحاشى اجترار ذاك الألم بالبعد عن معرفة تفاصيل معاناة أحدهم وتكتفي بالدعوات المخلصة من قلب تأمل أن يتقبله رب العالمين سليماً لايحمل كره أو حقد لأحد .

بمرور الوقت ..

ظلت تهرب لحضرة رواء الذكريات فتعود لمراحل سنواتها الأولى التي أحبت فيها اللعبات الرياضية ، وملابسهَا البيضاء ،والتي كان يغلب عليها الطابع الأنثوي الرقيق ككُل ملابس اللعبات الرياضية الأخرى آنذاك.

كانت اللعبة هي ال  Volleyball إذ كان هذا هو المسمى الشائع بين جيلهم ..ثم بعد ذلك تبدل الإسم كما تبدلت أشياء كثيرة ،وصار اسم اللعبة الشائع الكرة الطائرة .

لم تكُن المشكلة في تبدل الاسم من اللغة الأجنبية إلى لغتنا العربية "القيمة "قدر ما كان هذا التبدل هو انعكاس لنزوح بعض الوجوه ، والأفكار التي تعددت أشكالها ، وألوانها ؛ وغالباً أن معظم تلك الوجوه أسأت للكثير من الثوابت أكثر من إساءتها للمسميات ....

لأنه لن ينكر عاقل قيمة لغة القرأن ، وأن تلك اللغة أحببناها ؛ واطلقنا عليها التعبير الأنيق "لغتنا الجميلة" والذي زرعه بالوجدان صوت الإذاعي الراقي الراحل "فاروق شوشة "وبرنامجه المحبب الذي كان يحمل ذات الإسم .

تعود "رؤى "للبدايات ،وكيف أنها حاولت أن تلعب لعبة آل Basketball "كرة السلة "لكنها لاتدري لِما فشلت فيها كل هذا الفشل الذريع رغم رشاقتها ومقوماتها الجسمانية ! 

فانضمت لفريق آل " Volleyball "،وأحبت تلك اللعبة وصارت اللعبة الرياضية المفضلة بالنسبة لها ..إلا أنها بالمرحلة الثانوية لم تستمر فيها كثيراً ، وتركتهَا على مضض ؛وكأن الأيام أرادت أن تعلمها درس هام من دروس الحياة مع القادم من سنوات العمر...

"أن الإنسان عليه أن يصير مرناً ؛ ولا يعاند إمكانياته ، وعلى الغالب إن شاء أم أبى ..فإنه سوف يترك ما أحب يوما ما ".

بالليڤنج روم ..

بصمتها المعتاد ترتشف القهوة لكن بقايا الحكايا ظلت تثرثر بهمس قولها بالمنام للوالدة أن"روح "كانت زميلتها بأيام الدراسة ،وغالباً كان منزلهَا بالقرب من المدرسة.

 

لازال الوقت باكراً فتنتظر مرور بعض الوقت كي تستطيع الاطمئنان على روح ،ولازالت مشدودة بخيوط ذاك المنام الذي أعادها لمنامات أخرى صاحبت سنوات العمر حتى الأيام القليلة الماضية حين أتاهَا قريب للعائلة لم يكُن كذلك يأتي قبلاً لتفاجئ من بعد ساعات قصيرة جداً بخبر وفاته ..فتعرف أنه اتاهَا مودعاً .

العاشرة صباحاً ..

رأت "رؤى"أن هذا التوقيت مناسب إلى حدٍ ما ..فكتبت لأخت "روح " عبر مسنچر  ..

-صباحك طيب حبيبتي

ازي حال روح ...

سلمي عليها.

وماهو إلا وقت قليل جداً حتى وجدتها تركت لها رسالة مكتوبة ... 

- ربنا يخليكى

روح تعبانة جدااا دعواتك.

وبتنهيدة من أعماق القلب تشق الروح ..ترد عليها "رؤى"سريعاً عبر رسالة صوتية ...

-بدعي لها والله يا حبيبتي من كل قلبي .

ان شاء الله خير .. بإذن الله ..ان شاء الله خير .

فترد الأخت كتابة ،وبحروف تقطر الماً...

-احنا فى ابتلاء شديد أسأل الله الثبات والأجر...

فترد "رؤى" برسالة صوتية ...

-انا عارفة ،وحاسة بيكم هي عمرها ماجت لي بالحلم والنهاردة كانت معايا ..

الليلة يعني ..فقلت لنفسي هسأل عليها ..ربنا يعينها .

وهاهي ردوود الأخت المكتوبة على الشاشة لازالت متألمة...ملهوفة ...

-يارب يارب يارب ان شاء الله رب كريم يكتبها عنده من أولى العزم ان شاء الله ..ان شاء الله.

تنتهي المحادثة ثم تمر الساعات القليلة جداً ليتضح أن الدعوات الملهوفة كتبها قلب الأخت الذي ينزف من لوعة الفراق ...

اما "رؤى"فلم تعي أن معنى الدعوات الملهوفة كان يؤكد شعورهَا الذي صاحبها منذ صحوهَا باكراً ، ولم يكُن يريد أن يحيد عن أن "روح "أتتهَا بالمنام مودعة إلا من بعد أن كتبوا عن خبر وفاتها .

لتبكي "رؤى "بكاء حار ، وهي تدعو لها بالرحمة والمغفرة.

دقات الموبايل..

يأتيهَا صوت ابنها وكأنه يعيدهَا إلى ما بذاكرتها من حُزن للحكايا ..ثم من بعد دقائق سريعة تنتهي مكالمته معها.

فتعود لثرثرة الصمت التي تدفعها دفعاً لذكريات الحزن والأسى الذي حل ببدايات الألفية الجديدة منذ أن جاءت بما في جعبتها من أفراح ،وأحزان كُثر ؛ ولا يملك الإنسان مع كل حدث سوى التسليم لأمر الله .

العام -٢٠٠٠

إحدى ليالي سبتمبر..

على مخدعها تبدو نائمة لكنها مع أول دقة من دقات الهاتف الأرضي تصحو ، ولا زال صدى صوت ابنها عالقاً بالقلب ،وهو يناديهَا باكياً أن "رفيق "صديق طفولته وزميل دراسته تركه وحده .

دقات الهاتف ..

تبدو حائرة مما سمعت ورأت بمنامها ، ومن دقات الهاتف التي أتت بموعد غير مناسب .. فيدب بالقلب قلق لم تعد تنكر أنها اعتادته منذ السنوات الطوال الفائتة ،وهي التي كانت تغط بنوم عميق قبلاً

إذ تزايدت الأحمال فازدادت حدة القلق السارق لأي غفوة هنيئة ، وتحديداً حدث ذلك منذ صحوهَا فزعة على اهتزاز كل ما حولها بعنف بزلزال العام ١٩٩١ ...

وهاهي تجد أنه لاحيلة لها سوى التقاط سماعة الهاتف الأرضي الذي وضع دائماً اعلى الكمود المجاور لها .

ثم راحت تنظر لزوجها فوجدته لازال يغط في نومه العميق حتى انه لم يشعر بالمكالمة الخاطفة التي انتهت تواً بينها ،وبين صديقة العائلة بضرورة ذهابهَما إليهَا بأسرع وقت إن لم يكُن في الحال ، وما أن أغلقت الهاتف ، وأبلغت زوجها حتى بدت خيوط النهار تتضح .. فذهبا إلى منزل الصديقة الذي على بعد خطوات من منزلهم .

ليجدوا"رفيق "يبكي كالأطفال ،وأمهِ حائرة من ذلك المأزق الذي وضعها فيه ، وبخاصة أن والده مسافر ،ومن المفترض سفره مع عمه كي ينتظم بالدراسة ، لكنه وبدون سابق انذار ظل طوال الساعات السابقة لهذه الليلة يرفض تماماً فكرة سفره ، ودخوله تلك الكلية بعدما أفزعه اصدقائه بالنادي ان موته في عُمر صغير مؤكد مادام قرر الالتحاق بتلك الكلية .

يمر الوقت على رؤى وزوجها وعائلة "رفيق "وهم يحاولوا  أن يطمئنوا قلبه إلى أن هدء بالفعل ، ووافق على الذهاب مع عمه للكلية التي من المفترض أنه كان اختارها مع والده .

منزل ..رؤى 

عادت مع زوجها لكنها لازالت في منتهى القلق مما سمعته ورأته من ابنها في منامها ..لتمضي بها الأيام ما بين ندم يلاحقهَا احياناً، وحيرة ظلت تؤرقها ! 

ظل ندمها لأنها لا تصغى جيداً لصوت العقل ؛ ودائماً تفضل أن تسير باتجاه قلبها ..إذ كان الأصح لابنها أن يشترك بغرفة مبيت الكلية مع الصديق الأكثر حرصاً على مصلحته وهو صديق الطفولة والدراسة الثالث والذي استئمنتهم والدته الطبيبة لأن يرافقهم لتقديم الأوراق للكلية نظراً لوفاة والده منذ أن كان صغيراً ...

ظلت "رؤى "تطرد هذا الندم سريعاً بل ، وتلوم نفسها لأنها تكره المصلحة ،والأنانية ،والتخلي.

أما عن الحيرة فكانت تحصرها في دائرة خانقة من أن يُسرب"رفيق" لابنها شعوره الذي ظل يلازمه بالخوف من الكلية فيثبط من عزيمته بتلك الفكرة المفزعة ، وهو الذي يعشق ذلك المجال منذ طفولته حين كان يرى بالميناء ذاك اليخت الصغير الذي كان يملكه قبطان بذات اسمه .

اما عنها فلم تكُن تراه غير طيار جوي منذ أن كانت تلبسه ملابسه المدرسية ،وهو طفل صغير .

وبالفعل خاض الاختبارين لينجح بالمجال الذي حلم به ويترك الاخر ، وبمرور السنوات لازالت لاتدري لِمّا أحلامهما تحلق بعيداً بعيداً عن الأرض .

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة