ة مارا أحمد
ة مارا أحمد


«عابر السماء» قصة قصيرة للكاتبة مارا أحمد

صفوت ناصف

الجمعة، 29 ديسمبر 2023 - 07:38 م

 وضعت خطوطي الأولية على اللوحة، ثم مسحتها ثانية، وبعدها أمسكت بالفرشاة وشرعت في رسم البورتريه.

كانت هناك روح ما تتلبس يدي وتدفع فرشاتي يمنة ويسرة وكأنه صار ليدي عقل وتركت لها الحرية لتكمل تلك الصورة التي أصرت على إكمالها، أبتعد قليلا لأرى الشكل النهائي، لأندهش لروعة اللوحة ولجمال إبداع أناملي؛ لم تكن تلك الصورة غريبة علي، لقد رأيت هذا الوجه من قبل، أعرف تلك الابتسامة وتلك العيون التي استمدت حبرها من زيتون أرضي، لقد تشكلت ملامحه من هذا البلد وخيراته، تذكرت فجأة أين ومتى رأيت هذا الوجه!

 كنت بغرفتي أقف أمام المرآة أنسق ملابسي استعدادا للخروج، إنه موعد لقائي مع صاحباتي، نتجمع للذهاب إلى درس اللغة الإنجليزية، كنت لحظتها أجتر أوجاعي ورفضي لخلقي في بيئة لم يكن لي فيها اختيار واسم، ما زلت لا أستسيغ حروفه أو شذوذ نغماته على أذني، ما معنى الحياة إن كنا لم نخترها ولا نفهم مغزاها؟

إذا به يصفع الباب ويدخل زاحفا على أربع، ينظر لي مبتسما في ملائكية وكأنها ابتسامة خلق منها هذا الوجه؛ كان وجهه مستديرا كما البدر في ليلة النصف من الشهر العربي، قمحي اللون كما خير قرى بلادي، بغمازتين زادت من روعة ابتسامته وجمال وجهه، وكأنه لوحة يتمنى دافنشي إن أتاح له القدر تخليدها كما الموناليزا، نظرت إلى عينيه لأرى اخضرارها الزيتي، كنت بصحبته في مسيرة تأمل في بساتين الجنة التي نزلت لتسع براح عينيه، كانت في بسمته الكثير من الحكايات التي لم أفهمها إلا حين اختبرت الحياة وصرت شابة، رفع كفه الصغير ملوحا لي، حاولت أن أمد له يدي أو أن أرفعه لأقبله، لكنه استدار حبوا وانصرف.

زيارته لحجرتي لم تدم إلا لحظات، لكن شعوري تضارب بين الرهبة والانبهار بذلك الكائن الذي نحته الإله ملاكا زاحفا على أرضي.

خرجت بعد قليل لأسأل أمي عن هذا الطفل الذي لم يتجاوز العامين، أجابتني بأنه ابن المرأة الريفية التي تحضر لنا الزبدة كل موسم شتوي.

مر عقد من عمري وقد انفرجت الأزمة قليلا وبدأت الحياة تفتح ذراعيها لي مرحبة، فجأة تذكرته وسألت أمي متحسسة أخباره حبا وشوقا، ليصفعني خبر موته؛ لقد سقط من النافذة وصعد إلى مقره الذي هبط منه زائرا.

    هناك من نلتقي بهم لحظة، فتنحت ملامحهم في جلاء بقلوبنا وعقولنا، بل وأحيانا يغيرون وجهتنا. وهناك من يرافقوننا لسنوات ولا نذكرهم، تبهت صورهم مع غيابهم كما زبد البحر.

لا أدري هل كان ملاكا عابرا السماء لأجل رسالة ثم تجاوزنا إليها عائدا؟ أم كان بشرا سويا أبدعته يد الخالق فأغبطنه أمه واستكثروا جماله عليها فأنزله هذا الحسد إلى القبر؟! أيا ما كان، فلقد كان زائرا خفيفا ترك أثرا لا ينمحي، وحينها وعيت أن الموت يتربص بالجمال، كنت أعتقد أن الموت رفيق القبح يأتي لينزع عن الأرض ما فسد منها، ينزع عجوزا يعاني العجز أو مريضا يعاني الألم، وما أقبح الألم! فلم أكن أخاف الموت؛ فأنا بعد ما زلت أتحسس طريقي إلى الحياة، ليفاجئني الموت أنه أيضا كثيرا ما يقطف الربيع، وأن أجمل الكائنات قصيرة العمر؛ فلا الياسمين ولا الفل يدوم عمره إلا لساعات، لكنه يمنحنا في دقائق قليلة الرائحة الطاغية والجمال المبهر ويصحبهما حين تلامس وريقاتهم أنوفنا اسم "الله"، الذي يحتضن كامل الجمال، وأنا كلما تذكرت ذلك الطفل قلت: الله.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة