موسى صبرى عاش ومات وفياً للرئيس السادات
موسى صبرى عاش ومات وفياً للرئيس السادات


مواقف ودروس تعلمناها من «عملاق» صاحبة الجلالة

عاطف النمر

الأربعاء، 10 يناير 2024 - 09:17 م

الثامن من يناير عام 1992 كان يوماً حزيناً لى ولكل أبناء جيلى الذين شعروا باليتم عند رحيل «أسطى» الصحافة الأستاذ موسى صبرى الذى تعلمنا منه حرفية المهنة، وقدسية الكلمة، وموضوعية الرأى، ورسالة الصحافة النبيلة التى تخدم القارئ بكل ما بها من قيم مهنية تعلمها موسى صبرى من أستاذه وأستاذنا جلال الدين الحمامصى، ولى عدة مواقف مع أستاذى الجليل المحارب موسى صبرى أسردها بكل موضوعية فى ذكرى غيابه الـ 32 لأنها تعطى دروساً للشباب الذين يبحثون لأنفسهم عن مكان ومكانة فى بلاط صاحبة الجلالة الصحافة. 


 الموقف الأول .. كنت وقتها أتدرب فى «الأخبار» التى يرأس تحريرها، وكنت قد قرأت كتابه «آدم يصرخ وحواء تستغيث» الذى نشره فى حلقاتٍ بجريدة «الجمهورية»، والكتاب عبارة عن رسائل مُتبادلة بين «آدم وزوجته حواء» فى كل ما يتعلق بهما، وفى هذه الفترة توثقت علاقتى بالفنان الكبير عبد المنعم مدبولى الذى طلب منى أن أكتب له مسرحية يصورها للتليفزيون لحساب منتج خليجى بعد أن شاهد لى مسرحية «التاكسى» على فضائية عربية، فعرضت عليه معالجة درامية لكتاب «آدم يصرخ وحواء تستغيث»، وأضاف لها بعد نقاش بيننا خطوطا فرعية، وحدث خلاف بين المنتج الخليجى والأستاذ مدبولى الذى أصبح فى حوزته 5 نصوص مُعدة للتصوير، وأبلغنى أنه سيلتقى بالموسيقار كمال الطويل الذى كان يدير وقتها الشركة الكويتية للإنتاج الفنى ليعرض عليه معالجة «آدم يصرخ وحواء تستغيث» لتقديمها فى سباعية تليفزيونية، فقلت له: لابد أن تتصل أولاً بالأستاذ موسى للحصول على موافقته، لكن الأستاذ مدبولى رأى أن يتم ذلك بعد الحصول على موافقة الشركة، لربما يتم رفض النص فيصبح شكله أمام الأستاذ موسى «مش تمام» حسبما قال.


بعدها بثلاثة أسابيع أبلغنى الزملاء فى الاستعلامات بأن مكتب الأستاذ موسى يبحث عنى، توجهت لمكتبه مستفسراً من سكرتيرته فدخلت إليه وعادت لتقول: «اتفضل»، وكانت أول مرة أرى فيها الأستاذ موسى وجهاً لوجه، أخذ يتأملنى من فوق لتحت، وفاجأنى قائلاً: «حضرتك بتسرقنى؟»، صعقتنى البداية غير المبشرة فقلت: « أنا سرقت حضرتك؟»، فقال: «أيوه.. كمال الطويل أبلغنى أنك أعطيته معالجة تليفزيونية لكتابى «آدم يصرخ وحواء تستغيث» دون أن تستأذنى»! فأخرجت من جيبى ورقة كتبت عليها هاتف منزل الأستاذ مدبولى وقدمت له الورقة وأنا أقول له: «أنا عمرى ما التقيت بكمال الطويل، وده رقم الأستاذ عبد المنعم مدبولى لو حضرتك اتصلت به ستعرف منه تفاصيل الموضوع»، واستدرت لأنصرف وأنا أقول «بعد إذن حضرتك» فنادانى قائلا «تعالى اقعد»، واتصل بالأستاذ مدبولى.. وطال الحوار الضاحك بينهما، وقال وهو يعيد سماعة الهاتف لمكانها: « بابا عبده أعطاك صك البراءة، ابقى هات لى المعالجة لنتناقش فيها وأنا من سيكتب الحوار»، وأعطيته المعالجة.. واختلف كمال الطويل مع الشركة الكويتية، وفض مدبولى فرقة المدبوليزم، وكانت أول وأصعب مقابلة مع أستاذى الذى تعلمت منه فى هذا الموقف ألا أبدأ فى مشروع درامى مأخوذ عن نصٍ لكاتبٍ آخر إلا بعد ان أحصل على موافقته. 


 الموقف الثانى.. يتعلق بالموسيقار مدحت عاصم الصديق الصدوق للأستاذ موسى وجاره بحى الزمالك، كان يكتب مقالاً فى صفحة المسرح لكنه لم يكن يلتزم بمساحة محددة، يرسل فى أسبوع صفحتين فلوسكاب، وفى أسبوع يرسل صفحة، وفشل الأستاذ حسن عبد الرسول المشرف على الصفحة بجعله يلتزم بمساحة محددة لكى لا يطغى مقاله على بقية موضوعات الزملاء، سافر الأستاذ حسن لتغطية «مهرجان طشقند» وترك لى مهمة الإشراف على الصفحة فى غيابه، وأرسل الموسيقار المقال فى ثلاث صفحات، وضعنى فى حيص بيص عندما اتصلت ليختصر المقال لأنه طويل فرد عليّ قائلا: «هو حسن عبد الرسول مسلطك علىّ؟»، ذهبت للأستاذ موسى وشرحت له المشكلة التى نعانيها أسبوعياً، فقال بحنكة «الأستاذ»: «خذ عربية من الجرنال واذهب إلى بيته واقترح عليه أن يتم تقسيم المقال على أسبوعين وأنت وشطارتك»، ذهبت لمنزل الموسيقار الذى اكتشف ليلى مراد وفريد الأطرش وأسمهان وكان يرأس قسم الموسيقى بالإذاعة، وأخذت أحدثه عما صنعه من أمجادٍ فنية، وحدثنى عن بطولاته فى الملاكمة ودوره فى العمل الفدائى، واشتغلت الكيمياء بيننا وتآلفنا بسرعة عندما علم أنى مؤلف أغنية «لو كان الأمر أمرى» لمحرم فؤاد، وافق بعد معارضةٍ على تقسيم المقال وهو يقول: «ها أشوف ازاى ها تعرف تقسم المقال»، وفى صباح ظهور الصفحة اسُتدعيت لمكتب الأستاذ موسى الذى قدم لى مظروفاً مرسلاً من الموسيقار وهو يقول: «الجواب ده احتفظ به لنفسك واوعى حسن عبد الرسول يطلع عليه، مدحت عاصم مبسوط منك وبيفوضك بالتعامل مع مقاله أسبوعياً» فقلت للأستاذ موسى: «البركة فيك لأن فكرة تقسيم المقال نبعت من حضرتك» فقال: «المهم أنك عرفت تجزأ المقال كويس». 


 الموقف الثالث.. حدث أيضاً أثناء سفر الأستاذ حسن وكان الناقد الكبير عبد الفتاح البارودى مفوضاً من رئيس التحرير بالإشراف على الصفحات الفنية والأدبية، وعندما قدمت له بروفة الصفحة لاعتمادها وكانت بدون صور، فسألنى عن صاحب إحدى الصور فقلت له: إنها لعبد الرحمن الأبنودى فصرخ فى وجهى وهو يقول «شيل.. الموضوع ده غير مجاز» فسألته عن السبب فقال: «لأنه شيوعى»، فقلت له: «كيف يكون شيوعياً والرئيس السادات لسه مكرمه على السيرة الهلالية!» فقال: «الرئيس ما يعرفهمش!» وأخرج من درج مكتبه كشكولاً مدوناً به أسماء الشيوعيين واليساريين وأشار على اسم الأبنودى وهو يقول: «آهه.. رقم 22»، فقلت: «يا أستاذ الساعة سبعة وانا مش هالحق أجمع موضوع غيره» فقال «اتصرف»، لجأت للأستاذ موسى عارضاً عليه الأمر فضحك وهو يتصل بالأستاذ البارودى مستفسراً عن سبب زعله، ودُهشت من بساطة رئيس التحرير فى كلامه معه وهو يقول: «معلش يا أستاذ بارودى امسحها فىّ المرة دى عشان نمشى الجرنال»، ومن هذا الموقف تعلمت الاحترام الذى يكنه الأستاذ موسى لمن يعملون تحت رئاسته، إذ كان يملك كرئيس تحرير أن يأمره ويملى عليه، لكنه تعمد أن يقول له أمامى «امسحها فى المرة دى» لأتعلم درس احترام الصغير للكبير . 


الموقف الرابع.. حدث عندما استدعانى الأستاذ موسى ليسألنى «من هو الناقد ذو الشعر الأبيض الذى لم تذكر اسمه فى رسالتك عن مهرجان بغداد؟»، فذكرت له اسمه وصفته كناقدٍ كبير يكتب فى أكثر من مجلة محلية وعربية، لكنه كان على خلافٍ مع د. سمير سرحان رئيس الوفد فى المهرجان، وخلافه مع د. عبد العزيز حمودة مؤلف عرض «ابن البلد»، فصوب سهامه التى نالت من العرض ومصر والرئيس السادات، مما جعل عدداً من النقاد العرب يصوبون سهامهم أيضاً فى بغداد التى قادت الدول العربية لمقاطعة مصر بسبب كامب ديفيد، وبعد أن أوضحت فى نهاية كلامى أننى تعمدت إخفاء اسمه للتقليل منه، فقال الأستاذ موسى: «كان يجب أن تذكر اسمه، من حق القارئ أن يعرف عمن تتحدث عنه ويعرف موقفه من مصر التى بها أكثر من ناقد شعره أبيض، اكتب رسالة أخرى صف فيها بالتفصيل ما جرى فى الندوة النقدية وأذكر اسمه صراحة وله حق الرد»، وهذا درس آخر تعلمته من الأستاذ. ولى معه مواقف أخرى لا تسعها المساحة، ولا أنسى يوم شاهدت الدموع فى عينيه يوم اغتيال الرئيس السادات، تعرف عليه فى سجن الأجانب وظل على ارتباطٍ به حتى أصبح رئيساً للجمهورية، وكان الصحفى الأقرب إليه، والأوفى له من كل الصحفيين حتى بعد استشهاده. 


رحم الله «أسطى» صاحبة الجلالة، القلم الذى لا يقبل الهزيمة فى معركة صحفية يخوضها، وعلى الشباب أن يقرأوا 22 كتاباً تركها فى الصحافة والسياسة بداية من «الصحافة الملعونة» إلى مذكراته التى حملت عنوان «50 سنة فى قطار الصحافة». 
 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة