صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


صفوت فوزي.. عتبات الحياة

أخبار الأدب

السبت، 13 يناير 2024 - 03:45 م

كانوا قد حددوا الموعد ولم يخبروك به، كلهم كانوا يعرفون إلا أنت، وكانت هى المكلفة بإبلاغك، من وسط خوفك المتصاعد ورعبك المقيم، حدثت نفسك قائلاً: غداً سأغدو رجلاً ناضجاً، سأتحرر من سيطرتهم علىَ، وأذهب وأجىء أينما أردت ومتى أردت. كانت تفترش الحصير المهترئ فوق السطوح وهى تمسك برقبة ذكر البط، تلقمه حبات الذرة وقليلاً من الماء وهو يتملص بين يديها محاولاً الإفلات، فيما كانت الكتاكيت– صغيرة ذات زغب– تنبش الأرض، تلقط الحب ولا تكف عن النقنقة، حين فرغت مما تقوم به، أخذتك من رسغك وهى تقول لك: تعال، غداً ستٌختن وتغدو رجلاً يافعاً.

لا تخف، هو ألم خفيف وسيزول سريعاً، وستنمو وتٌكبر بعد ذلك وتصبح رجلي وسندى في الحياة، هل تفهم؟ كانت عيناها العسليتان الصافيتان الودودتان تبعثان برسالة طمأنينة للصبي الخائف، الذي هو أنا، كانت سعيدة كمن حصل على هدية ثمينة.

اقرأ أيضا

 مراد ناجح عزيز: جرامافون قديم

أضافت غداً ستغادر حبلك السرى وأسنانك اللبنية وألعاب الأطفال الصغار وتخطو خطواتك الأولى فى عالم الكبار، وأومأت برأسك وأنت لا تدرى عما تتحدث هذه المرأة التى ربتك وأدمنت حضنها الوثير الذى يشعرك بالدفء والأمان.

بإمكانك الآن أن ترى دموعها تترقرق فى عينيها وهي تضمك إلى صدرها، تتدفق عواطفها مانحة إياك مزيداً من الضم والقبلات، تنظر طويلاً فى عينيك وتفيض نظراتها بالأمل والعرفان وهي تتخيلك قد شببت عن الطوق وصرت رجلاً تشتهيه البنات ويٌغار منه أقرانه.

تتسارع دقات قلبك، ويختلط لديك الخوف والفرح، يتعانقان داخلك فلا تعرف بماذا تشعر بالدقة، يتحرك شىء فى داخلك، وتأتلق عيناك بدمع محبوس يأبى أن يندلق، كانت روحك تنهض في داخلك، وتتسامى أعلى فأعلى فوق جسدك، وأنت تتخيل نفسك طائراً حراً محلقا، وحيداً تماماً، في المدى المفتوح.

كان يقف فى الباب نصف المفتوح، ورأيته ضخماً، طويلاً ذا شارب كث يرتدى معطفاً أبيض، إنه الحلاق الذى يقص لى ولأبى وإخوتى الذكور شعر رءوسنا، وكنا نطلق عليه «حلاق الصحة». كان صدى صوته حين يفتح فمه يظل يرن فى أذنى لمدة طويلة بعد أن يتوقف عن الكلام، صوته القوى والجهير، الذى سجلته وخزنته بعيداً فى مستودع ذاكرتي أتحسس كراهيتي له في ريقي.

انقطع نفسك لدقيقة، وخلال ذلك لم تكن تعرف أين أنت ولماذا، انعقد لسانك فى حلقك فحدقت فيه، في العتمة الخفيفة، صامتاً مرعوب، كانت الستائر مسدلة فى الغرفة، وكان بإمكانك سماع تقطر الماء من صنبور معطوبٍ في مكان ما في البيت، تشعر كأنك سقطت فى بئر عميقة  وأذناك مغمورتان بالماء.

أجلسنى الرجل على كرسي منخفض، أنزل سروالى ورفع جلبابي لأعلى، كان علىَّ أن أنتظر حتى يسن الموسى التى سوف يستخدمها على حجر حاد كان بحوزته، كان الخوف قد استولى علىَّ وأنا أتلفت مذعوراً وحيداً، إذ لم يسمح لأمى بالمجىء وكذا أخواتى. كان ريقى جافاً، وطبول الرعب تضرب فى أذنى، الخدر فى جسدى أينما لمست، وتحسست: يدى ورجلى وفخذى، أي ألم، وأي رعب، وأى إرهاق، انحشر لسانى مثل ذيل كلب بين ساقيه المذعورتين، خذلنى، ولم أستطع النطق بأى شىء، بل فاضت دموعى على وجنتىّ، كنت مشحوناً بالحسد تجاه إخوتى الذين عبروا تلك المحنة قبلى، والذين لم يجتازوها بعد.

طلب منى الرجل أن أنظر إلى السماء وأركز على أى شىء تقع عليه عيناى، ثمة طائرٍ كان يحلق فى السماء العالية، ركزت نظرى على حركات الطائر، ركزت عليه حتى غدا نقطة صغيرة فى السماء البعيدة، كان يختفى خلف سحب داكنة، ثم يعاود الظهور خارجاً فى بريق الشمس ينشر جناحيه، جميلاً، أنثوياً، لعوباً، وكنت فى داخله، أحلق، خفيفاً كفراشة، غير مهتم بكل ما حولى، وعلى حين غرة حدث ذاك.

إنها منطقة مرعبة، منطقة الألم، وقد عبرتها وحيداً، لا الحلوى التى قدمها لى أبى، ولا الفاكهة التى جاء بها العم «داود» ولا كلمات المواساة والمؤازرة التى قالها الرجل، كل هذه الأشياء لم يكن بمستطاعها تخفيف الألم أو التخلص منه.

هل أتذكر متى سكن الألم فى جسدى ليعيش فيه لما يقارب الشهر؟ أتذكر أن الرجل سبب ألماً فظيعاً فى كل أجزاء جسدى. ألماً حاداً حتى اشتعلت أذناى بلهيبٍ لاذع، وانتشر هذا اللهيب تدريجياً، ثم تجمدت قدماى، واحترقت عيناى بالدموع، وترطبت خدودى من البكاء، وجف حلقى كحطبة ناشفة، عند ذاك نظرت ورأيت الدم– بركة الدم– التي سبحت فيها واغتسلت والتي ساعدتنى فى العبور إلى الجهة الأخرى لأكون رجلاً– مرة واحدة وإلى الأبد.

رأيت الرجل يضع حفنة من البن الداكن فى يده ويكبس بها الجرح النازف، وخمنت، ربما كان الغرض أن ذلك يخفف الألم أو يساعد على إيقاف نزف الدم، واعتقدت أن الألم قد زال، على الأقل لبضع ثوان حاسمة.

ساعدوني كى أقف، وأخذونى من المكان الذى كنت جالساً فيه، ألبسونى جلباباً جديداً أبيض نظيفاً تفوح منه رائحة الزهر، وأوصونى بأن أباعد ما بين فخذى فى الرقاد وفى الوقوف، عاد الألم يضرب من جديد، قوياً وعفياً مما جعلنى يغمى علىَّ. حين صحوت من إغمائي، وجدت نفسى وحيداً فى الفراش، أصبحت الشاغل الوحيد للفراش، صار إخوتى يراعون عدم الاقتراب منى ما دام ذلك ليس ضرورياً، وصار محرماً على جارتنا التى ترضع طفلها البقاء بقربى أو ملامستى كما تقضى التقاليد، كانت التقاليد أيضاً تقضى بأنه من غير المحمود أن ترى المرأة جرح الولد المختون لئلا يتقيح ولا يُشفى، كنت أتوق لأحدٍ يبقى إلى جانبى فى ساعة الشدة هذه، وأعزى النفس بأنه ألم سينتهى بمتعة اكتشاف للذات أكبر.

وقلت لنفسى، الشىء المهم الآن أننى قد غدوت رجلاً فى الأخير، وأننى قد انفصلت تماماً عن شخص أمى وفُطمت، غير أن الجرح تقيح وتورم، ارتفعت حرارة جسمى، شفتاى جافتان مثل حطبة، وفمى أحمر كما لو كان جرحاً طازجاً، وفكرت أمى، إنها العين الحاسدة الشريرة، وراحت تصلى متضرعة ترفع يديها إلى السماء وهى تتلو آياتٍ مختارة من المزامير، وأطلقت البخور، ثم جاءت بالعروس الورقية تثقبها بالإبرة فى كل موضع منها وهى تردد: من عين أم محروس، من عين أم سمير، من عين أبوك، من عين أمك، من عين كل من شافك ولا صلّى، وكل من لمحك ولا قال بسم الله، يكفيك شر الأذية، وكل عين ردية، وكل يد عفية، يابن بطنى وعينىَّ، وأنا أرقد ممدداً على الفراش تصلنى رائحة البخور المتصاعد كى يطرد العين الشريرة كما قالت، وأتصبب عرقا تحت الدخان الخانق فيما رحت أسعل وأسعل، وركبتاى ترتجفان تحت الملاءات. قامت بعمل « لبخة» من العجين والسكر وقشر البصل، وأنا أذوب خجلا بين يديها غير قادرٍ على منعها أو القيام بالعمل بدلاً منها.

فى منتصف الحجرة، وضعت الطشت وهى مستمرة فى مزج الماء الساخن والبارد كى أستحم. احمرَّ وجهى من الخجل، وشعرت بالارتباك، وراحت تتمتم بشىء ما، غطيت عورتك بيديك كما رأيت الكبار يفعلون ذلك، خجلاً ومستاءً، غارقاً فى زحمة أفكارى، كنت أخلع ملابسى، وهى تتحسس حرارة الماء بين الحين والآخر، ويدها ممسكة بالسطل الممتلئ بالماء الدافئ، وحين اقتربت، تحول صوتك إلى صوت رجل وقلت لها: لا تلمسينى، وأشحت بوجهك جانبا، تراجعت مذعورة وهى تحدق فيك غير مصدقة.

كانت الفكرة لديك أنك الآن قد غدوت رجلاً ولا تريد أن يساعدك أحد فى الاستحمام، بدت أشد غرابة بالغبار الذى يحوم حولها وقد سقط عنها إيشاربها لينكشف شعرها شديد السواد والنعومة تتخلله خصلات منعقدة وغير مٌمشطة، وأنا أرى صدرها المتبرعم النحيف.

أنت صامت ومنسحب، نعم، لكن عقلك كان منشغلاً وذهنك نشطاً للولوج إلى هذا العالم الجديد الذى تتطلع إليه بشغفٍ، عالم البالغين، ها أنت وحدك فى فراشك فى الليل، وحيداً فى غرفتك، كانت الأيام الأولى محبطة، تمنيت أن يٌسمح لك بالنوم فى حضن أمك، أمك التى كان صوت حكاياتها فى الليل ينظم إيقاع نومك، كنت تخشى الكلاب التى تنبح في جوف الليل، وتساءلت كثيراً أنها قد تهجم عليك فى غرفتك.

لكنك كنت تواصل، تتصلب ملامحك وأنت مندس فى حلكة الليالى التى لا قمر فيها، ها أنت تغادر طفولتك، تغادر ماضيك، تغادر حضن أمك، تدخل بخطى ثابتةٍ إلى عتبات عالم جديد يتراءى لك، ينفتح أمامك، كبير كالرحم، دافئ كالحياة، ومريح كالصديق، عالم تمنيته كثيراً، وحلمت به، عالم الرجال البالغين.

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة