«الذكرى الباكية» قصة قصيرة للكاتبة فاطمة مندي
«الذكرى الباكية» قصة قصيرة للكاتبة فاطمة مندي


«الذكرى الباكية» قصة قصيرة للكاتبة فاطمة مندي

صفوت ناصف

الأحد، 21 يناير 2024 - 02:02 م

ذات صباح في الجامعة، كنت أنظر إليها، بل وأتمعن في ذلك الجرح الذي ما زلت أتذكره حتى الآن، أسحب شريط ذاكرتي، أغتنم الماضي؛  عندما أجلس على  مقعد  غير ممهد في آخر رواق الكلية، وحيدة لا يرغب طلاب الجامعة الجلوس عليه.

أتخيلها وهي تقف أمام مرآتها، تفتح خيط ضفيرتها الشقراء، فتنثر شعرها أمام المرآة، لم أكترث لذلك الجرح الذي أخذ شكل علامة علي وجهها، رأيتها تتلمسه بأطراف أصابعها الناعمة، تقشر بعض قشور يابسة تكونت على أطرافه المدببة .  

كانت أمي دائما ما تناديني بغير اسمي، فتارة ما تناديني لولو ، أو لولي ، أو في بعض الأحيان لولاية ، غير أن هذا الاسم لا يمت  لاسمي الحقيقي بصلة، أو لم يكن شبيها به أو هو دلعي، لكنني لا أسمح لغير أمي أن تناديني بهذا الاسم (نعيمة)، لا أدري لماذا يدخلني هذا الاسم بشجار دائم مع بنات حارتنا أيام صباي؟

ففي صباح ممطر في منزلنا كنت أراقب سقوط حبات المطر من نافذة الغرفة المطلة على شقة جارتنا ذات العينين الجاحظتين، كانت أنفاسي القريبة من زجاج النافذة تطل زجاجها البلوري، ارسم أرنباً وثعلباً بسبابتي على لوح الزجاج.

كانت هذه الفتاة في المنزل الذي أمامي  تقابلني بالرسم على زجاج نافذتها، لم أكن منتبهة لرسمتها الصغيرة، أثارتني حركة أصابعها وهي تخط على لوح الزجاج كلمة (نعيمة) أزعجتني بعض الشيء ، حاولت أن أتجاهلها، لكنني لم أقدر على أن أتجاوز هذا الحنق بداخلي، كانت تملأ بدلوها بئر قلبي حقداً، كما تمنيت أن أوقف المطر لأبرحها ضرباً، سحبت ستارة النافذة عسى أن تترك هي الأخرى نافذتها، اشتد هطول المطر بغزارة، أمسكت طرف الستارة لأنظر تحت بيتنا على أسفلت الشارع، فثمة بائع للفول يقف تحت مظلة بيت الجاحظة العينين، لم يكن ذلك الرجل واقفاً،

والصبية مازالت تنتظر ظهوري من وراء النافذة، حاولت أن أبتسم بوجهها الناعم كالقطن، لم تكن عضلات وجهي الطرية تساعدني في فتح فمي لكي ابتسم، لأن بداخلي حنق منها، فكرت بالنزول إلى الطابق السفلي، تذكرت، أن أمي مع أبي في غرفتهما، وهما لا يسمحان لي بالنزول الي الشارع أو حتى لمشاهدة التلفاز في هذا الوقت؛ تجنباً للماس الكهربائي؛ الذي يحدث أثناء هطول الأمطار، تذكرت لعبتي في خزانة ملابسي، كانت تلك اللعبة الوحيدة التي أهديت من خالي؛ عندما احتفلت أمي بعيد ميلادي الخامس، كانت لعبة مسلية ومملة في نفس الوقت،

تركت اللعبة ولا أرغب بالكلام عنها، فتحت النافذة بعد أن أنقطع هطول المطر، رأيت صبايا الحارة قد نزلن إلى الشارع للعب في برك الماء، تسللت بهدوء على السلم وكانت خطواتي خفيفة، أمسكت مزلاج الباب كما لو أنني لص أغتنم ليخرج من البيت غانماً.

كانت صبية النافذة تنظر كما تنظر إلىّ الآن في حرم الجامعة، كانت عيناها العسليتان توخزني كنبل سعف النخيل.

لطمتني على وجهي عندما نعت أمها  بجاحظة العينين، وضعت أظافري في رقبتها الطرية واللامعة كإبريق الفضة، ركضت الفتيات إلى والدة الفتاة، بينما صاحب عربة الفول القادم من طرف الحارة حاول أن يفك النزاع بيننا؛ لكن كلينا تحولتا إلى قطتين بريتين، أحكمت قبضة يدها علي شعري، وشدت بعضاً منه في يدها، حاول صاحب العربة  فك النزاع.

دفعني صاحب العربة باتجاه عربته، رحت أمسك عصا غليظة صغيرة وجدتها على سطح العربة، قذفتها  دون رغبة في وجه الصبية، التي رحلت من حارتنا منذ خمس عشرة سنة  .

بعد أيام ليست بالقليلة، رحت أسأل بعض زميلاتي عنها، فمنهن من أعربن عن أسف فقدانهم لها، ومنهن من قال أنها لم تعد تأت، لكن أحد الأساتذة قال إنها قد انتقلت إلى جامعة اخرى. 

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

مشاركة