أحمد فؤاد الهادي
أحمد فؤاد الهادي


«رحلة السيدة».. قصة قصيرة للكاتب أحمد فؤاد الهادي

صفوت ناصف

الأربعاء، 31 يناير 2024 - 03:17 م

السيدة زينب – هكذا كانوا يطلقون عليها في بلدتها، مدعين أنه تيمنا بصاحبة المقام بينما هو شراء لرضائها وتجنبا لغضبها، فقد عرفوها قوية حادة الطباع، تواجه وتتحدى وتخرج من كل نزاعاتها منتصرة مخلفة ورائها رجالا أطاحت بكرامتهم أرضا.

 أما ولديها الطيبين المسالمين الذين ورثتهما عن زوجها شيخ الجامع الكبير، فقد كان الجميع يعاملونهما برفق زائد خشية إغضاب أحدهما وما يستتبعه من رد السيدة زينب القاسي، هو الخوف الذي يستتر في لباس الحب، فلم ترد لها كلمة ولم يجرؤ أحد على مجادلتها، فهي لا تسمع من أي منهم سوى: حاضر يا حاجة.

لقد زارتها صاحبة المقام في رؤية قصتها على ولديها، وما أن فرغت من روايتها حتى هلل وكبر كبيرهما المجند بالقوات المسلحة وهو يلح عليها بوجوب زيارة صاحبة المقام، فهو يعرف الطريق منذ أن فاز بهذه الزيارة منذ عامين مع خاله رحمه الله، وإنه قد حصل على راحة لمدة أسبوع بعد أن وضعت الحرب أوزارها ودحضت مصر العدوان الثلاثي منذ شهر تقريبا، توقع أن ترحب بهذا العرض المغرى وتبدأ في ترتيبات سفرهما، ولكنها لم تكن لتقبله هو أو غيره قائدا لها، أصرت أن تذهب وحدها بلا رفيق سوى عزيمتها وعنادها، ولولا أنه بدأ يشرح لها الطريق والطريقة عندما يئس من إثنائها عن عزمها، ما كانت سألته شيئا.

عندما وطأت قدما زينب ميدان محطة مصر كانت كبطل المصارعة الذى لا يجيد السباحة وقد ألقوه في البحر، يكابد الغرق ويأبى الصراخ تكبرا، كل شيء كان مختلفا عما ألفته في قريتها، الناس وملابسهم وسعيهم في كل اتجاه، السيارات التي لم تشاهد منها سوى تلك المتهالكة التي تكد ما بين قريتها والمركز لنقل من لهم مصالح في المركز، حناطير كانت  تسمع عنها ممن ذهبوا ولو مرة واحدة إلى المركز أو من أسعده الحظ ونزل مصر، الترام ذو الهيكل الخشبي والذراع المرفوعة من فوقه لتلامس أسلاك الكهرباء، والجرس الذي يطلقه تنبيها للمشاة، بائع العرقسوس بقدره النحاسي اللامع والمزركش بزينات صنعت له خصيصا بألوان مبهجة وهذين الصنجين النحاسيين الذين يمسكهما البائع بحرفية بين أصابعه ويحركهما ما بين الحين والحين فيحدثا صوتا جميلا وكأنه يدعو راقصة لرقصة خاصة، رأت تمثال رمسيس شامخا على حافة بركته والماء ينساب أمامه موحيا بالحرية والقوة ومنضما لسيمفونية الميدان العامر.

الدقائق تمر وهي مازالت محلقة بين بلدها والمدينة، وصلت قدماها، أما هي فلم تصل إلا بعد أن اقترب منها سائق حنطور عارضا عليها توصيلها لأي مكان تحب، ونطقت لأول مرة:

أنا عايزة التورماي ... أروح السيدة زينب.

شعر الرجل بخبرته بحالتها التي كثيرا ما صادف مثلها، لم يلح عليها لتركب حنطوره، بل صحبها إلى محطة الترام التي كانت على بعد خطوات، وانتظر معها حتى قدم الترام، أشار للمحصل وطلب منه العناية بها حتى تصل إلى السيدة زينب.

انتابها شيء من السكينة عندما أجلسها الرجل على تلك الأريكة الخشبية الجميلة في الترام، وبدأت تستعيد شتات فكرها، فإذا بخاطر غريب يداعب خيالها: سوف تبحث في كل الوجوه عن الأسطورة التي يتغنى بها الناس في البلد، إنه يعيش في هذا البراح وسط هذا الزحام، لعلها تصادفه في الترام أو في الشارع، ورغم أنها لم تره من قبل إلا أنها كانت واثقة في أنها ستتعرف عليه من بين كل الناس، كانت واثقة أنها ستعرف جمال عبد الناصر دون أن يدلها عليه أحد سوى قلبها.

كانت تلك هي المرة الأولى في حياتها التي تركب فيها تراما، عندما استرقت لمحة خاطفة لهذه التي جلست إلى يسارها على الأريكة، هالها منظر لحم كتفها وذراعها الذي يصرخ بالسخونة والحياة، وقد كشف عنهما ستر الملاءة السوداء التي لفت بها جسدها فبدت كقطعة الحلوى التي يعشقها الأطفال، غلاف جميل ومحتوى مغر، غضت بصرها حياء وهمست في أذن جارتها:

   - يا ختي دارى لحمك.

وكان الرد صادما:

وانتي مالك.. خليكي في حالك ونقطينا بسكاتك.

واكتشفت أنها لم تعد تلك التي يعمل لها ألف حساب، أدركت أن ثروتها لا قيمة لها هنا، فالعملة مختلفة، وأنها حضرت مجردة من صولجانها، وأن أحدا لن ينطوي تحت جناحيها، لقد تركت عصاها الغليظة في البلدة، فهل السر في العصا؟

تلفتت حولها تقرأ وجوه الناس، تتابع تصرفاتهم وتستمع إلى ما يصل إلى سمعها من كلماتهم وتعبيراتهم، تطالع في ملابسهم، تتفحص ما يحملون في أيديهم، تراقب من يقفزون من الترام ومن يقفزون فيه قبل أن يتوقف، لم تر القرود في حياتها، ولكنها الآن تخيلتهم.

ضجيج لا ينتهي، لا تعرف من أين هو آت ولا كيف تتخلص منه، المحصل ينقر بقلمه على اللوح الخشبي حامل التذاكر، دون أن يطالع وجوه الركاب يردد: تذاكر.

عندما وصل المحصل إلى حيث تجلس أحست ببعض الأمان، فقد أوصاه عليها سائق الحنطور، سألته وهو يناولها التذكرة بعد أن دست القرش قي يده:

فاضل كتير يا بني؟

آخر الخط يا ست.. ما تقلقيش.. أحنا أخرنا السيدة ونرجع تاني.

انصرف لمهمته، وانصرف تفكيرها في اتجاه آخر، لن تغادر مقعدها حتى نهاية الخط، عند صاحبة المقام، ستقرأ لها الفاتحة وتدعو الله وهي في مكانها على الأريكة وتعود مع الترام إلى محطة القطار، سمكة انتزعوها من بحرها، لأشيء يعوضها عن بحرها وصولجانها.

عندما أوشك الترام على الوصول إلى محطته الأخيرة، تحرك الركاب نحو الأبواب استعدادا للنزول، وقامت الجالسة إلى جوارها، فلما لاحظت أن السيدة لم تبد استعدادا للنزول، أشفقت عليها ونظرت إليها بعيونها التي رسم الكحل حدودها:

يللا ياست.. آخر الخط.. السيدة زينب.

ها هي فرصة الانتقام ورد الإهانة قد حانت، استجمعت شجاعتها، تحسست حولها لعلها تجد عصاها، نظرت إليها نظرتها الحادة التي يخشاها الرجال في البلد، وبصوت أكثر حدة ردت عليها:

وانتي مالك.. خليكي في حالك.. نقطينا بسكاتك.

فزعت الفتاة من الرد، استدارت في لمح البصر وهرولت إلى حيث أقرب باب للنزول.

عندما أعادها الترام إلى محطة القطار، أحست أنها على مشارف البلد، سرت الحرارة والطمأنينة في أوصالها، لجأت للناس ليساعدوها في شراء التذكرة ثم الوصول إلى الرصيف وانتظار القطار، وعندما اتخذت مقعدها بجوار النافذة لم تغادر عيناها المزارع والترع والطرق والمنازل التي يمر بها القطار، وكأنها تتوقع أن تظهر البلد فجأة، فهي تعرف كل أهلها، وأشجارها، وبيوتها، وطرقها، وحواريها.

على رصيف محطة البلد، تلقفها المغادرون والقادمون، المستقبلون والمودعون، فمن في البلد لا يعرف السيدة زينب؟

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة