صورة تعبيرية
صورة تعبيرية


 «ذكرى» قصة قصيرة للكاتب سيف المرواني

بوابة أخبار اليوم

الخميس، 22 فبراير 2024 - 01:37 م

اللحظة: اندثار ضاع به الصوت.

العمر: سنون مليئة بالألم.

الوقت: ساعة النسيان والتغربل .

المحيط: دمعة تجتمع حولها الأماني.

المكـان: بقايا جسد أصابه الإنهاك

 

        في ساعة ينقطع التواصل بين الإنسان وما حوله، فيفقد صوت ذاكرته ويرمي بنفسه إلى مساحات الانكسار، تمر السنون كطرفة عين وفي الساعة التاسعة من صباح السبت في أحد الأشهر، انطلق من بين خبايا الصمت يعلن عن وجوده رغم تأثره بالسنين واندماجه بحزنه وبتثاقل خطواته، الدنس يحيط بثوبه من جميع الأجزاء، شعره الكث مليء بالتبعثر والغبار، تنطق مأساته من خلال ملامح وجهه فاقداً اللذة بأي شيء.

 

 أحاول إن أتداخل معه وامتزج بصوته وقصته يراني غريباً فلا يطمئن إلىّ في البداية، أتابع نظراته التوسلية التي تدعوني للابتعاد عنه وتركه وشأنه لكني مازلت أتابعه بإصرار إلى أن أذعن لطلبي، بدأ رزيناً في كلامه يتحدث بصوت متعب تطل من خلاله دموع تنهمر كالسيل تغطي كل شيء. يقف كل منا عن الكلام وسكون أطبق على كل شيء الشارع، البيت، جدران الغرفة والنور، كذلك توافق مع السكون وأعلن خمول استغرق ذلك قرابة ساعة ثم أطلق آهة سمع صداها كل غريب وكل طائر مغرد. يا ولدي لم تنكأ على جراحي وتعيدها لي من جديد فأنا أعيش فيها كل لحظاتي فلا أستطيع النسيان من بين ثنايا الفقر خرجت وترعرعت على الألم، وداعبت شفتاي ثدي أمي الخالي من اللبن فكنت لا أجد قوتاً يمنحني القوة. 

 

والدي رجل قارب الثمانين وأمي أضناها المرض وأنا وليدهما الأول ذهبت مبكرأً للبحث عن عمل أقوم به من اجل أسرتي، تغربت وشقيت وتعبت عدت بعد سنة لم تكن في ذلك الوقت وسائل اتصال بيني وبين أهلي إلا قلبي المتلهف لهما دائما والذي يناجيهما في كل حين فيشعر بهما.

احمل معي الهدايا وتباشر الفرح تتألق في وجهي وصلت لقريتي وجدت أبي وحيداً سألته عن أمي فقال رحمها الله: أظلمت الدنيا لا أستطيع نسيانها، تداخلت دموعي بدموع أبي، حل الحزن محل الفرح انكمشت، أحسست بالوهن يطل على عروقي.

لم تعد تحملني الأرض فقد أخذت أعز ما عندي فلم أحضر لرؤيتها قبل وفاتها بقيت قرابة الشهر وأنا على هذه الحال أبي حاول أن يخفف عني أثار الصدمة فطلب مني العودة إلى عملي رفضت في البداية ولكنه ألح على إلحاحا جعلني أتنازل عني رغبتي في عدم العودة إلى العمل بأن أطيع أمره.

صممت على أخذه معي إلى المدينة وبعد محاولات مضنية وافق على أن يصبحني. رجعت إلى العمل لكن ليس بنفس الصورة التي كنت عليها قبل ذلك، ولاحظ الجميع هزالي، تكرر غيابي نتيجة لمرضي إلى أن فصلت من العمل فأصبحت أبحث عن عمل لكني أواجه بالرفض، حيث إني أمي لا أعرف القراءة والكتابة، سدت كل الطرق في وجهي لكن لا يزال لدي أمل أن أجد عملاً ـ لكن الأمور ازدادت سوءا فقدت سندي الذي كان يحميني دائماً من الضياع بعد الله سبحانه وتعالى أبي . فأظلمت الدينا في وجهي مرة أخرى وهمت في الأرض.

 

لا اعلم شيئاً اهتزت لدي الأركان وتحطمت المشاعر واختلفت الاتجاهات، أمسيت عندها أسيراً للهموم حل بي الوهن إلى درجة  الضعف لا أقوى على الحركة، تنقلت بين مكان وآخر وقفت عند مطعم أبحث عن لقمة أسد بها رمقي، أكلت بقايا الطعام ’وعشت على الصدقة، تمتد يدي للناس بالسؤال فيؤنبني شخص ويهدئ من روعي شخص أخر واحد يمنحني الابتسامة وأخر يكيل لي الشتائم كل هذه الأحداث تمت وأنا في ريعان الشباب لم أتجاوز الثامنة والعشرين كنت مشرداً أبحث عن بيت يأويني وصدر حنون يحتويني وقلب مفعم بالحب يواسيني وفراش يدفئني ولقمة تكفيني ويد تمتد لكي تسمح الدمعة من عيني.

 توقفت في محاولة لالتقاط الأنفاس سرحت بعيداً أنظر للأيام والهموم التي يحتويها صدره، والضباب الذي يغطي حياته فتموت اللحظات والإنسان مازال يتسربل في مساحات الضياع، يفقد الاتزان ويعيش صراعاً نفسياً رهيباً يبحث عن طوق يخرجه من آهاته وانهياره، فالله سبحانه وتعالى خير طوق للنجاة، والاعتماد عليه في كل شيء لكي يخرج من مأزقه.

يشرب قليلاً من الماء ويواصل حديثه:  حلمت كثيراً وداعبتني الأماني، كان يقول الأطفال علىّ المجنون ارتاح لقولهم رغم الأذى الذي أتعرض له منهم ـ ولكن في داخلي مشاعر حب كبيرة لهم تدفعني لأن اقترب منهم أكثر فابتسم رغم كل ألأمي، أشعر بسعادة غامرة تحف جوانب حياتي ساعة ما يحيطون بي وعندما يبتعدون عني أعود إلى دياجير الظلام مرت أيام وسنون وأنا على هذه الحال إلى أن أتي رجل كان على اطلاع وعلم تام بحالتي فعرض على المساعدة واهتم بي كثيراً وفي ذات يوم عرض على الزواج من ابنته فقلت له لا أملك من حطام الدنيا شيئاً وأظلم ابنتك بالزواج مني فقال: لا عليك وقفت حائراً بم أرد عليه ؟

اعتبر صمتي قبولاً أخذني إلى السوق وأنا منقاد له أسير على كيفه واشتري لي عدداً من الملابس الجميلة وطلب مني أن أزوره في البيت، اختفيت فترة بحث عني حتي وجدني هارباً منه ومن نفسي غير مصدق ما حدث اقتادني بقوة إلى البيت وطلب من ابنته الظهور كي أراها، فشاهدتها بدرا ينبع النور من وجهها، في عينيها دفء حان، وفي ابتسامتها خجل يدعو للتأمل، وملامحها تتدثر بالرقة لا أستطيع التعبير عن مشاعري ولا أعرف كم مضي من الوقت أو من العمر أم أنا وليد تلك اللحظة.

 تسمرت في مكاني غير قادر على الحركة وبعد أيام اتفقنا على تحديد موعد الزواج وقرر والدها إن يقوم بزيارة للمدينة بعدها بثوان انهمرت دموعه بغزارة كبيرة جداً، لم يتمالك نفسه معها حاولت معه أن يكمل ولكنه تركني في حيرتي وغادر الزمان والمكان إلى بعد أخر يحمل له عشقا خاصاً في قلبه، وفي طيات حياته ينشد أملا ضاع يحلم ويتصور أن كل شيء لونه اسود ـ رغم إن الحياة فيها البهجة والحزن والسعادة والتعاسة . قد يكون في اللقاء تجاوزا لكل إشارات الصمت تستعيد من خلاله شريط ذكريات قد يكون جميلاً يثر كوامن السرور وقد يكون ذكري تلاطمت فيها الأمواج وتصارعت المشاعر وانتشرت الدموع وأثارت جراحاً لم تندمل .

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة