الدكتور السيد نجم
الدكتور السيد نجم


«نصوص».. قصة للكاتب الدكتور السيد نجم

صفوت ناصف

الثلاثاء، 05 مارس 2024 - 02:57 م

النص الأول:

 صغيرًا.. جلست فوق رمال البحر أحصيها، خلت نفسي نجحت،  وإلا لماذا قررت أن أمتلكها؟ فصنعت منها هرمًا، بدا لي في أول النهار صغيرًا..

قررت أن أحصى وأشيد هرما أكبر، نجحت.. بدا لي أنه ما زال صغيرًا، أسرعت وأحصيت وشيدت هرمًا أكبر من كل الأهرامات، بمضي دقائق قليلة، راودني خاطر أرعبني.. ماذا لو جاء موج البحر وانقض عليه؟!

بدأت فكرة جديدة، أن أحفر خندقًا من حوله، نجحت.. قبل أن تنفرج أساريري، بدا لي أن مياه الموج أكثر قوة، قد تتجاوز الخندق وتبلغ هرمي!

أضفت فكرة أفضل، أن أشيد سورًا عاليًا جدًا، قمته نجحت.. لم تطل بسمتي، بدا لي أن موج البحر أعلى، قد يتسلق السور، فيملأ الحفرة ويبلغ هرمي!

لم أجد في رأسي فكرة تسعفني.. بكيت.

لما رجعت إلى أمي، وعرفت سبب بكائي، كادت تبكي!

لسنوات طويلة، كنت أسأل رأسي عن سبب بكاء أمي؟ فلما عرفت وجاءتني الإجابة.. كانت أحفادي الصغيرة تصنع هرمًا من رمال شاطيء البحر.

******

النص الثاني:

 (أعطني كفك) قالها أبي عندما اقتربنا من محل لعب الأطفال.. عندما وجدني مندفعًا بعيدًا عنه، نحو محل لعب الأطفال. تعلقت باللعبة خلف زجاج الفاترينة.. حصان نافر الرأس والأذنين وشعر الرقبة، كاد يهم بالطيران!

كانت كف أبي الكبيرة جدًا، تقبض على كفي الصغيرة جدًا، بينما أتمنى لو أتحرر منها، لعلي أنجح وأشير إلى الحصان المتمرد هناك خلف الزجاج.

رميت نظرة غاضبة من أسفل إلى أعلى، إلى حيث عيني أبي.. تأكدت أن عويناته السميكة معلقة بذبابة حبيسة.

بدوري ودون أن أدري، تعلقت بالذبابة، وجدتها تقفز في هلع وأحيانا تصطدم ببعض اللعب.

بدت لي الذبابة مثيرة للشفقة.. حائرة, خائرة القوى, تتلاطم بين اللعب العملاقة، لعلها تبحث عن ثغرة للخلاص.

فجأة.. نزعت كفي, من قبضة أبي.. عاد وانقض عليها.. عدت ونجحت في تحريرها.. لم تدم اللعبة طويلا، لمحت ظله على الزجاج مطأطأ الرأس، ملتوي الرقبة.

بكلا كفاي أشرت إلى اللعبة.. ظن أبي أنه تحرر من مقاومة قبضة يدي, وإن بدا لي وكأنه يشفق علي.. فيما بدأت أسعى لإقناعه بطريقتي، استخدمت أصابعي العشرة, مشيرًا إلى اللعبة، لعلي أنجح..

بدت لي الذبابة الطائشة تطير على غير هدى.. فظن أبي أنني أسعى لتحريرها.. وظننت أن أبي يحدق النظر في اللعبة، ربما يقرر شراءها.. بينما كانت الذبابة, كما هي حائرة حبيسة, ما زالت!

********** 

النص الثالث:

 لأنه كان لا يزال صغيرًا, كانوا لا يعبأون بوجوده, وربما يطردونه من مجالسهم. ففي مجلس الرجال ليس له الحق في المشاركة بالتعليق عما يسمع. وفي مجلس النسوة ليس من حقه الاستماع إلى كل ما يتفوهن به.. وإلا لماذا يعمدن إلى الهمس والغمز واللمز؟!

وحده، وجد تفسيرا أقنع به رأسه.. لأنه فقد أبيه، ولم ينجح في رعاية أمه كما يجب.

بالرغم من ذلك, سمع أمه تصيح لجارتها, دون أن تعبأ بوجوده هذه المرة: (أنا في حاجة إلى بهيمة بدلا من تلك التي ماتت حين غفلة.. ماذا أفعل؟!)

لأن الجارة لا تملك مالا ولا بهيمة, اكتفت بالبكاء معها، ولم يلتفتا إلى الولد القابع تحت أرجلهن, مشرئب الرأس, معلق الأذنين.

ظل الولد معلقًا بظلهن، وهما فوق الطريق حيث لا يعرف، وهو قابع فوق عتبة الدار. تركاه وحيدًا, كلماتهن في أذنيه باقية ترن كرجع الصدى، حتى سمع من يأمره.. أن يكف عن البكاء وأن يتأمل أصابع يديه! بدا وكأن يدًا خفيه قذفت به, رمته فوق شاطيء النهر, فتعلقت الأتربة بجلبابه. لم يعد يشعر بالوحدة, مع ذلك غلبته الدموع, وصنعت عجينة من طين، كست الأرض من حوله.

كان في مثل تلك الجلسات من قبل, يعبث في الطين فرحًا, يصنع كرة أو حتى ثعبانًا. لكنه في هذه الجلسة صنع أربعة أرجل, وذيلا غير قصير, في المقدمة شكل ما يشبه رأس البهيمة. انشغل كثيرًا حتى نسي ميعاد تناول الغداء، لم يكن يشعر بالجوع.

جاء المساء عاد إلى الدار, ورغب في النوم من شدة التعب, سمع صوت الهاتف يأمره:

(خذ البهيمة لترعى في الحقل القريب)

ذهب ولم يعد إلا بعد منتصف الليل, هاله أن وجد بهيمته وقد كبرت, وكبر ضرعها حتى لامست الحلمات الأرض! وهو ما أدهشه وأدهش أمه. لم تسأله من أين جاءت البهيمة وكيف؟!

سألته فقط: (هل البهيمة لنا؟!)

لم يرد وإن انطلقت بسمة سعيدة غامضة من صفحة وجهه. أسرعت الأم إلى الضرع, شربت وشرب معها، حتى كسا الحليب الدافيء اللذيذ نحورهما. يحار من يراهما، يتسربل الحليب من أعلى إلى أسفل أم العكس.

وبالرغم من أنه سمع الهاتف نفسه  يأمره بأن يتأمل نفسه في مياه النهر, وقد تشكلت رأسه كرأس البهيمة، وأصبح من ذوات الأربع, ويملك ذيلا غير قصير.. عمد الولد الصغير إلى إحكام إغلاق جفونه الأربعة، أكثر كثيرًا عما قبل.

                                 ***********

النص الرابع:

 بلهفة، لا أدري لها سببا، كنت أتعلق بكف أمي، كانت دومًا صامته.. ونحن نهم بعبور الجسر.

بحفاوة، أدري سببها، كنت أركل الصخرات الصغيرة،  ولا أخطيء أهدافي، كانت أمي غير مكترثة.. ونحن فوق الجسر.

بنشوة، لا أخفي سببها، كنت أهلل وأنا أضم كل الكائنات من حولي ومن أمامي، بينما تبدو أمي شاردة بما لا يعنيني.. وأنا في نهاية الجسر.

لا أدرى لماذا كانت أمي تنظر خلفها، فور أن نجتاز الجسر.. تقول: ( كم كان الجسر طويلا؟!)

بفرح، أسعى وأكافح من أجل أن أحرر كفي من قبضة أمي.. تظل ترمقني وأنا وحدي أعدو وأصرخ تحت الشمس، وبسرعة تنشغل عنى.. كانت شواهد المقابر، تشغلها أكثر..

اليوم عندما عبرت الجسر وحدي، لم أكن متلهفا لشيء، ولا محتفيًا بالصخور الصغيرة، ولم تلهيني نشوة اجتيازي الجسر...

***********

النص الخامس:

 ينظر الولد في المرآة ويقول:

لا أنكر أن جسدي، لسان لا ينطق.. ذراعاي، عاجز لمخمور.. عندما سألتني، تحسست بعض حافظتي الجلدية، لم يكن لها رنين، فارغة. وجهي، مثل جلد أفعى منسلخ.. عندما تحسستني، سألتها أسئلة لم يكن لها معنى. قلبي، خزينة فارغة.. عندما ضمته إلى جوار قلبها، لم ينبض. حديثنا، خرائب مرصوصة، عندما قرأتها، لم تفهم.

لا أخاف الكوابيس، ولا مياه الحياة بين فخذاي كل صباح،  ولا عرق الإبطين وسط النهار الحار، ولا الأفعال الخسيسة كلها، ولا الجراح،  ولا خيانة الحبيبة وغدر الصديق، ولا حتى المرايا المشروخة، أراني بألف وجه. لا أخاف إلا من لذة أفقدها!

*********

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة