أدعية حليم الدينية مع فانوس رمضان
أدعية حليم الدينية مع فانوس رمضان


تأثير «القرآن» والابتهالات الدينية فى حياة «العندليب»

عاطف النمر

الأربعاء، 27 مارس 2024 - 04:56 م

بعد ساعاتٍ قليلة تحل علينا الذكرى 47 لرحيل «العندليب» الساكن دوماً فى الوجدان، أجيال لم تعش عصره، عرفته من أفلامه وأغنياته، وقرأت عنه وسمعت منه ما تم تسجيله فى جلساتٍ خاصة منتشرة الآن على شبكة الإنترنت، المذهل أن أغانيه وأفلامه فى الفضائيات هى الأكثر مشاهدة، ومبيعات ألبوماته تحقق الرقم القياسى، والمذهل أن عشاقه من الشباب صنعوا له عشرات الصفحات على الشبكة العنكبوتية، لـ «بث» أغانيه، وعرض أفلامه، وحواراته الصحفية والإذاعية والتليفزيونية وصوره النادرة، حالة من العشق والحب لا تُوصف تجاه فنانٍ أحياه الصدق والرومانسية طوال 47 عاماً من غيابه بالجسد فقط لا غير، أحد عشاقه كتب على صفحته أن «العندليب» مضى على رحيله «47 عاماً = ١٧٫١٥٥ يوم = ٤١١٫٧٢٠ ساعة = ٢٤٫٧٠٣٫٢٠٠ دقيقة» فهل هناك اهتمام أكثر من هذا ؟

تحل علينا ذكرى «حليم» فى نهايات الشهر الكريم، أيام تنبض بالروحانيات التى تسمو بالنفس وتعمق التكافل والمودة، وكان لعبد الحليم حكايات تُروى مع القرآن الكريم والمواظبة على الصلاة، وإنشاد الأدعية الدينية التى كتبها الشاعر عبد الفتاح مصطفى ونغمها محمد الموجى، وسجلها للإذاعة مجاناً، وقدمها فى سهرة دينية بمسرح البالون أثناء شهر رمضان بتاريخ 26 يناير 1965.

فى منتصف عام 1976 تدهورت صحة «حليم»، فتوجه إلى المملكة العربية السعودية فى أواخر نفس العام لأداء «العمرة» قبل وفاته بأشهرٍ قليلة، وكان برفقته الشيخ جميل جلال «مطوف» الملوك والأمراء والرؤساء، ومدير شرطة مدينة مكة المكرمة فى ذلك الوقت، وتصادف موسم غسل الكعبة المشرفة عندما كان عبد الحليم يؤدى مناسك العمرة فاعتبرها «حليم» نفحة ربانية أتته من حيث لا يحتسب، ووجد نفسه مشاركًا فيها، فدخل الكعبة وصلّى بأركانها الأربعة، ولما عاد للقاهرة كان فى منتهى السعادة، وقال بفرح لشقيقته الكبرى عليا: «أنا شفت حاجات حلوة بعد ما صليت فى الكعبة، بس مش هقدر أحكى لكم عنها»، وأضطره المرض للسفر إلى لندن فى رحلة العلاج الأخيرة التى لفظ خلالها أنفاسه بعيداً عن الوطن فى 30 مارس 1977، فكانت الزيارة التى قام بها لأداء العمرة بالأراضى المقدسة «مسك الختام» لحياة مليئة بالمجد والشهرة والمرض والعذاب، دفع ثمن شهرته بصوته وفنه وعذاباته، ولم يهتم الإعلام كثيراً بالخوض فى الجانب الدينى الصوفى فى حياة عبد الحليم حافظ الذى ارتبط طوال حياته بالعادات والتقاليد والروح الدينية التى تعلمها فى الصغر داخل أسرة محافظة على رأسها جده الشيخ شبانة إمام مسجد القرية، الذى عُرف بأنه مقرئ «تسكت له الطير» عندما يرتل آيات الذكر الحكيم، وكل من كانوا على مقربة من عبد الحليم حافظ تحدثوا بعد رحيله عن تربيته الريفية الدينية المحافظة التى أتاحت له الصبر على المرض والبلاء، كان يقول لمن حوله: «من كرم ربنا إن المرض ما اشتدش عليا إلا لما بقى معايا فلوس وقادر أتعالج»، ويقول «حليم» فى مذكراته: «لم يكن الشيخ يضربنى فى طفولتى لأننى كنت أحفظ القرآن وأجيد كتابة الواجب»، ويروى أن شقيقه الأكبر إسماعيل شبانة هو من أهداه أول «مصحف» بعد نجاحه فى المدرسة، ويذكر ذلك فى مذكراته قائلاً: «أخى إسماعيل هو من علمنى كيف أقرأ القرآن الكريم بفهم وتمعن لتقوية لغتى وتحسين نطق مخارج الحروف، وقد وجدت فى القرآن راحة نفسية لا تُوصف، كنت أشعر وقت قراءة القرآن أو الاستماع إليه أن آياته الكريمة تصعد بى إلى أعلى، وتنزع من نفسى الكراهية، وتعمق فّى المحبة، وفهمت فى صغرى أن الله يحب الإنسان، وأن الحياة سعى ورحلة كفاح جميلة وعذبة».

كانت الأيام الأخيرة فى حياة «العندليب» عامرة بالروحانيات التى كانت توحى لمن حوله بشعوره بقرب الأجل رغم عمره الذى لم يتجاوز الـ 48 عامًا، إلا أن المرض المتزايد وأعراضه المتطورة كانا يرسلان له رسائل سرية بأن مشهد الختام يقترب، كان يشعر بأنّ سفرية مارس 77 ستحمل أقدارًا أخرى ومصيرًا مختلفًا، كان متردّدًا تجاه السفر وجدواه، فجراحات زراعة الكبد حديثة على العالم، ومخاطرها أضعاف فوائدها، فاعتبرها مقامرة بالعُمر، كان يودّع غُرف المنزل التى احتوته وشهدت دموعه وآلامه وصلواته وابتهالاته، وكان من عاداته أن يخط فى أجندة الأدعية والآيات القرآنية التى يعتبرها رسائل يبعث بها إلى الله. 

صلّى عبد الحليم حافظ الصلاة الأولى فى حياته بمسجد قرية «الحلوات» بالشرقية وراء جده الشيخ شبانة إمام المسجد، أشهر حفظة القرآن بالقرية وأعذبهم صوتًا، نظرة «حليم» إلى القرآن جعلته مشدودًا إليه طوال حياته بحبلٍ سُرى، فكان يلجأ إلى الآيات كلما شعر بضيقٍ فى صدره أو مرضٍ بجسده، قراءة القرآن كانت طقسًا يوميًا لديه، كان يستيقظ متأخراً لأنه كان لا ينام الليل خوفاً من أن يهاجمه النزيف أثناء النوم ولا أحد وقتها يستطيع أن ينقذه، يتناول إفطاره بعد الظهر ويتصل بمن يعملون معه، وينهى بعض أعماله بعد مطالعة الصحف وسماع نشرات الأخبار ثم يخلو إلى نفسه ليقرأ القرآن، ويقول عبد الحليم فى مذكراته: إنه لم يكن سلفيًا، كان يميل إلى الصوفية، والدين فى نظره راحة للقلب، والتديُّن الحقيقى قائم على حب الناس، ومساعدتهم، وفعل الخير سرًا وجهرًا، والثقة بالله، وكل من دخل بيته كان يروى أنه لا يخلو من الفقراء والمحتاجين، ولم يذكر أحدهم أنه انزعج يومًا ممن يطلبون المعونة، بل كان يوصى بهم آل البيت خيرًا، ومن أروع ما يعبر عن «صوفية» وتدين عبد الحليم الوسطى مجموعة الأدعية التى اشترى كلماتها وألحانه وسجلها بالفرقة على نفقته وأهداها للإذاعة دون أن يتقاضى «مقابل» عنها، واعتبرها هدية منه لكل المسلمين فى العالم، ويقول فى واحدةٍ منها: 

«أنا من تراب والإرادة هى سرك فيه.. تنوره بحكمتك وبرحمتك تهديه.. تراب وسرك إذا مس التراب يحييه.. الهمنى حب الخير حب الجمال والحق.. خلينى أقول للشيطان مهما غوانى لأ.. علمنى أثبت ولو زال الجبل وانشق.. الهمنى يا رب علمنى يا رب.. يا ربى سبحانك»، ويقول فى دعاء آخر: «يا خالق الزهرة فى حضن الجبل من فوق.. لونها ومنظرها اَية للجمال والذوق.. تطلع وتدبل على دمع الأمل والشوق.. لا يدرى بيها ولا يعلمها غير الله.. يا رب سبحانك»، ويبتهل فى دعاء يقول فيه: «ع التوتة والساقية.. المح كل يوم عصفور.. فرحان يغنى ويرقص للندى والنور.. لا مال ولا جاه ورزقه فى الغيطان مبدور.. ماله كفيل أو معين فى الملك غير الله.. يا رب سبحانك».

ويتكشف الجانب الصوفى فى حياة «العندليب» من القصة التى رواها بعد تعافيه من مرض شديد شخصه الأطباء فى الكبد عام 1956 عندما سئل عن سر الأيقونة التى يحتفظ بها للقديسة «سانت تريزا» فقال إنه رأى فى منامه سيدة نورانية تخبره أنه سوف يتجاوز أزمته الصحية ومرت بيدها على الجانب الذى يوجد به كبده وعندما سألها عن اسمها قالت اسمى «تريزا»، وفى الصباح  أحس بزوال الألم وطلب من طبيبه إعادة التحاليل والأشعات التى أظهرت نتيجة مختلفة أذهلت الطبيب من تعافى الجزء المصاب فى الكبد واعتقد أنه أخطأ فى التشخيص، لكن عبد الحليم قال له «أنا أعلم ما حدث»، وهذا يكشف سر اللوحة الرخامية التى تحتفظ بها كنيسة سانت تريزا بشبرا التى يوجه فيها الشكر قائلا: «إلى روح القديسة الطاهرة، القديسة تريزا مع شكرى العميق، عبد الحليم حافظ 1957»، وفى إطار الجانب الصوفى فى حياته أيضا «الدبوس» الذى لم يكن يفارق ملابسه وبه أيقونة صغيرة جدا للعذراء مريم، أهدته له معجبة قبل صعوده على مسرح قاعة «ألبرت هول» بلندن عندما شدى بأغنية «المسيح» تقديرا منه ومساندة لنضال الفلسطينين ضد الاحتلال، وكان لهذا الدبوس مكانة خاصة فى نفسه التى كانت تتلمس بشفافية كل ما يمكن أن يخفف عنه آلام المرض.

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة