يسرى الفخرانى
يسرى الفخرانى


فنجان قهوة

دراويش ونبلاء وعابرو سبيل!

أخبار اليوم

الجمعة، 24 مايو 2024 - 05:31 م

أنزِلُ وسط البلد دائمًا بحثًا عن هذه الابتسامة الحُلوة التى تُزين وجوهاً راضية أول النهار، ماشيا إلى سيدنا الحسين، حواريه القديمة الضيقة، دكاكينه التى يكسوها ملح الزمن، مقاهيه، أتبع خطاوى الأستاذ نجيب محفوظ كأننى أسير كما اعتدت معه متأبطا ذراعه، مصر الجميلة القوية التى شافت وشالت، لكنّها لم ترخ عنقها ولا انكسرت.

العطارون وروائح العطارة، وأطباق الفول الصغيرة التى تجمع حباته من قدرة تتوسط الطريق، لماذا هناك يصر القليل أن يكفى ويفيض؟ البركة فى الموجود، هؤلاء مخلصون، لم يبحثوا عن فرصة للخروج من بحر ولو ضاق عليهم، هم هنا ملتصقون فى خد البيوت القديمة والجدران، الحوائط والمشربيات، الأرصفة التى مازالت تحمل بقايا أرواح ساروا عليها فى لهفة فى الطريق للسيد أو حواريه، يتمتمون بالفاتحة والأدعية.

هُنا القاهرة، هنا الناس الذين لا يبيعون موطن أرواحهم ولا يشترون غيره، الوطن هنا لا يُباع بأى سعر، لأن الحاج سعد الشيخ الذى يبيع البخور منذ خمسين سنة على الناصية لا يعرف إلا حجم صندوقه الخشبى وطنا، لأن الأسطى فايزة الباحثة عن رزقها فى عتمة الحوارى من بيع الخواتم التى تشغلها بنفسها، ليس لقدميها خريطة إلا هذه الخطاوى التى تعرفها عشرين عاما، لأن الخروج إلى وش الدنيا ليس مطمعًا إنما غربة يُحلف بها.
هكذا.. أنا هنا، أعبئ نفسى مرة أخرى باليقين، أعقد مقارنة غير ظالمة بين من يبيعون حتى أنفسهم بأى عائد ولو قليلا، وبين الناس الطيبة التى تعرف أن الله حق، وأن الوطن جزء من الشريان والوريد.

أمشى قليلا، وأعود، أحمل كام عود من البخور، أشترى أشياء للبركة، لكى أشارك فى لقمة عيش مغموسة بالملح والعرق لرجل يأكلها حافاً وينام مبتهجا، أمّا نحن خارج الدائرة غاضبون، ننتظر أشياء لن تحدث، لأنها ببساطة لكى تحدث تحتاج إلى أن نبذل مجهودا خرافيًا لكى تتحقق، لا شيء يتحقق بمعجزة، الله يده تغمرنا بالحب والكرم بعد أن تمسح عنا عرق التعب والأمل.

 لماذا نشكو دائما دون أن نتحرك نحو مسح خطايانا؟

 ما أجمل الوجوه التى تعمل ثم يسطع جبينها بنور الرضا آخر النهار؟

الرزق ليس فقط هذه الفلوس التى نبحث عنها فى نهم، الرزق حالة من البساطة نهفو إليها بعد أن نبذل جهدا يساوى أمانينا فى الحياة.

يبيع لى عم سعد قرطاسا من حب العزيز، ياه.. نسيت طعمه، دكان كتب قديمة لتراث يحكى حواديت أكلها التراب، قناديل نحاس للبيع،
أبحث وسط زحام معقول عن الحاجة زهرة بائعة المسك، تدلنى عتبة خضراء على دكتها التى تواجه الجامع الكبير، يقول لى شاب يحمل سبحاً زرقاء وبيضاء: اقرأ لها الفاتحة، ماتت على الدكة ولم نعرف إلا حين حل المساء، شحاذون ودراويش وأشباح وأرواح ونبلاء وعابرو سبيل ومشتاقون وتقاسيم عود من زاوية مقهى، وأبواب عتيقة، ولافتة صغيرة كتب عليها: كودية وزار، أفواج الغرباء تحملك إلى زوايا الخروج.
لكنك لا تخرج ولا تبتعد …

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 

 

 
 
 
 
 

مشاركة