عبدالله البقالى
عبدالله البقالى


حديث الأسبوع

لحظة اختبار تحسم مستقبل القضاء الدولى

الأخبار

السبت، 25 مايو 2024 - 07:22 م

وضع قرار المدعى العام لدى المحكمة الجنائية الدولية، القاضى برفع طلب إلى المحكمة من أجل إصدار مذكرات اعتقال فى حق أشخاص ومسئولين، تواترت لديه ما يكفى من الأدلة حول اقترافهم جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، هذه المؤسسة القضائية الدولية، فى الوضعية التى كانت تحتاجها منذ أن تقرر إحداثها سنة 2002 بعد أربع سنوات من التوقيع على نظام روما الأساسى لها فى السابع عشر من شهر يوليو من سنة 1998، لأنها بخلاصة شديدة تمثل من جهة، لحظة اختبار حقيقية لمصداقيتها، ومن جهة ثانية تقيس قناعة المجتمع الدولى بمشروعيتها وقدرتها على التعاطى مع القضايا والأوضاع التى كانت سببا ومبررا لإنشائها. وبذلك وغيره كانت فعلا هذه المحكمة فى أمس الحاجة إلى مثل هذه اللحظة. 

طبعا، ليست المرة الأولى التى يستخدم فيها المدعى العام لهذه المحكمة آلية قانونية يتيحها له نظام روما الأساسى للمحكمة. وهكذا تابع الرأى العام الدولى خلال العقدين الماضيين إصدار العديد من مذكرات اعتقال فى حق العديد من الأشخاص، بمن فيهم رؤساء دول سابقون ومزاولون، بل فى حالات معينة تجاوزت المعالجة القضائية هذا المستوى ووصلت حد الاعتقالات وإصدار عقوبات سجنية، لكن إجمالا كانت جميع هذه القرارات تتعلق بأشخاص ومسئولين من الدول العربية والقارة الأفريقية ودول أوروبية معادية للحلف الغربي.

وطيلة هذا المسار الطويل من عمر هذه المؤسسة مع رزم مذكرات الاعتقال وركام الأحكام، لم يسمع الرأى العام العالمى صوتا لدولة عظمى أعلن قادتها اليوم أنهم يبحثون مع مؤسستهم التشريعية فرض عقوبات ضد مسئولى هذه المحكمة، ولم تصل حدة الغضب والحنق فى أية محطة من محطات هذا المسار القضائى الطويل بأن يوجّه إثنا عشر من أعضاء أهم مؤسسة تشريعية فى دولة عظمى رسالة تهديد إلى موظفى المحكمة الجنائية الدولية، بل وتهديدهم باستهداف أفراد عائلاتهم. ولم يسمع صوت دولة عظمى أخرى يدفع بانعدام الفائدة من قرار المدعى العام، وأنه لا يساعد على تحقيق السلام. بل كان كل هذا الغرب يطرب ويتغنى بقرارات صادرة عن نفس الجهة التى أضحت اليوم محل تحقير لمقرراتها واستهداف لمسئوليها بهدف الضغط والتخويف والابتزاز، ليس لأن طبيعة الجرائم التى كانت موضوع القرارات القضائية السابق تغيرت أو تبدلت، بل لأن الجهة المتهمة باقترافها هذه المرة مختلفة عن سابقاتها، ليست من الدول العربية ولا الأفريقية ولا المعادية أو المختلفة مع السياسات الغربية. لذلك كان من الطبيعى أن تتغير طريقة التعاطى وتقييم القرارات القضائية الجنائية الدولية. وبذلك وجدت المحكمة الجنائية الدولية نفسها هذه المرة أمام متغير جديد غير مرتبط بالأبعاد القانونية ولا القضائية، بل الإشكال أن روافد ومنابع هذا المتغير سياسية ومنها يكسب قوته ونفوذه. مما سيمثل منعطفا حاسما فى مستقبل ومصير هذه المؤسسة القضائية الدولية.

لحظة اختبار حقيقية صعبة فى طبيعتها وفى توقيتها، ليس فقط لأن 124 دولة الموقعة على نظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية مجبرة على تنفيذ مذكرات الاعتقال فى حال صدورها عن المحكمة الجنائية الدولية، تجاوبا مع طلبات المدعى العام، لأنها خطت بيدها وعن طواعية الالتزام بمثل هذا التنفيذ، بل أيضا ما يتعلق بالجوانب الأخلاقية المترتبة عن قرارات المدعى العام، إذ كيف لتجارب ديمقراطية تدعى تأسيسها على احترام القوانين واستقلالية القضاء وعدم الإفلات من العقاب، مواصلة التعامل مع طرف اتهمه القضاء الدولى الذى دافعت نفس هذه التجارب عن استقلاليته وعن نزاهته باقتراف جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؟ 

فى ضوء كل ذلك، ستكون متابعة أطوار هذه المواجهة بين المحكمة الجنائية الدولية فى طبعتها الأصلية كما تم إنشاؤها بموجب نظام روما الأساسي، والمحكمة الجنائية الدولية الأخرى فى النسخة المعدلة كما تحاول سياسات خارجية لدول معينة تطويعها وتشكيلها بالصورة وبالحجم الذى تريد والتحرك فى دائرة ضيقة لا تتعدى الخطوط والحدود المرسومة. وهى مواجهة لن تخلو من احتدام وعنف، وإن كانت كل المؤشرات تميل إلى ترجيح كفة الهيئة القضائية الجنائية الدولية فى نسختها الثانية المعدلة عن نظام روما الأساسى لسنة 1998. لذلك فإن المنعطف الجديد يصلح بالفعل محرارا لقياس مستوى مشروعية ومصداقية قيمة العدالة الدولية، التى قيل إن نظام روما الأساسى حصنها. ومدى اقتناع المجتمع الدولى بهذه القيمة السامية.

لم يشفع للمدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية أمام من يرفض تمرد القضاء الدولى عن سياقات سياسية وجيواستراتيجية معينة، مساواته بين طرف يقترف جرائمه بأكثر الأسلحة دمارا وفتكا وأزهق أرواح أكثر من 36 ألف شخص، ثلثاهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وقطع الماء والهواء والدواء والغذاء على المدنيين، وأحرق الأخضر واليابس دون أن يفرق فى ذلك بين مدرسة ومستشفى ومكان عبادة وسيارة إسعاف، وبين طرف آخر يتصدى.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 

 

 
 
 
 
 

مشاركة