الكاتبة الليبية عائشة إبراهيم
الكاتبة الليبية عائشة إبراهيم


الكاتبة الليبية عائشة إبراهيم: أنا مع الالتزام فى الأدب وضد استخدام التاريخ للوعظ

أخبار الأدب

الجمعة، 28 يونيو 2024 - 02:34 م

إن كان لى أن أحدد شيئا يختلف فيه قلم الكاتبة الليبية عائشة إبراهيم عن بقية الأقلام التى صنعت وتصنع ربيع الرواية الليبية، فهو تشبّع أسلوبها ومناخاتها الروائية بالنفس الصوفى العابق بالتاريخ من خلال رواياتها العديدة «حرب الغزالة»، «قصيل»، صندوق الرمل» وغيرها...

غير أن التاريخ فى أعمالها لا يُوظَّف بطريقة مبتسرة مبتذلة لأنها تحرص على تلوينه بنزعتها التخييلية الإبداعية وتلبسه لباس الفن الروائى وتوظف الأحداث بذكاء، بحيث تنظمها داخل بناء هندسى متفرّد لرواياتها، بعد أن تجعل منها حقل تجريب، تفاجئ به القارئ وتشدّه إلى حكايتها المنظومة بلغة متينة، عكست اشتغالا حقيقيا على العمل الروائى وشواغل الإنسان الليبى فى فترة من أشد فترات تاريخ ليبيا غموضا وإثارة للتساؤلات. تسائل عائشة ابراهيم الماضى ليس لنزعة حنينية ملوية العنق إلى الوراء بل من أجل التوسل به لفهم الحاضر الملتبس وإشكالياته.

تقولين فى رواية «قصيل» كانت الخلفيات هى المشاهدات المعيشة فى الواقع والسجل الثقافى للمنطقة التى عشت فيها». ما نصيب سردك من المعاصرة؟ إذا كان مشروعك الرئيسى حسب ملامحه هو مشروع أثنولوجى بالأساس؟

بالنسبة لتجربة روائية حديثة العهد لم تتجاوز ثلاث روايات لا يمكن الجزم بأن مشروعى هو أثنولوجى، صحيح أنه فى رواية قصيل كان النصيب الأكبر من السرد هو توثيق لمظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية لبيئة الرواية، وهى المكان الذى عشت فيه، مدينة بنى وليد، إلا أننى يمكننى تفسير هذا التوجه بكونها روايتى الأولى، ففى العادة تكون الرواية الأولى للكاتب مرتبطة بسيرته الذاتية، أو سيرة المكان الذى عاش فيه، وبالكاد تخلو تجربة روائية (أولى) من الاتكاء على ذاكرة المكان الذى عاش فيه الكاتب، لكن لم ولن أكرس نفسى فى هذا السياق، وأيضا بالنسبة لرواية حرب الغزالة من الصعب تصنيفها فى سياق أثنولوجى، فهى لم تأخذ من تاريخ الجماعات إلا الإطار الزمنى، أما أحداثها فهى أقرب إلى الواقعية السحرية، أو رواية التخييل التاريخى، ويمكن أن أقول إن القاسم المشترك لملامح مشروعى هو إنتاج معرفة والبحث فى إشكالية التجربة الإنسانية، بغض النظر عن المكان والزمان اللذين يؤطران النص، وفيما يتعلق بنصيب تجربتى من المعاصرة، ربما هى تجربة أخذت من التاريخ الإطار الزمنى والوقائع التاريخية، لكنها روايات معاصرة من حيث الرؤية لأنها كُتِبت وفق رؤية وثقافة راهنة ووفق تكنيك حديث ووعى مختلف عما كان فى الماضى زمن وقوع الأحداث.

كتبت الرواية وكتبت القصة، أين تعثرين على شغفك بشكل أقوى وأكثر وعيا ونضجا فى الكتابة الأدبية؟
يصعب علىَّ أحياناً تحديد اتجاه شغفى ما بين القصة القصيرة والرواية، فالشغف يكون فى لعبة السرد ذاتها، القصة القصيرة نوع أدبى مراوغ تقوم على اللحظة المنطلقة نحو الهدف، يكون فيها الوضع النفسى للكاتب فى حالة من القلق والاضطراب والتوتر إلى حين يتمكن من رصد والتقاط وعزل المشهد ثم الاندماج فى كتابته، بينما الرواية هى نتاج أدبى ملحمى، يكون فيها الوضع النفسى للكاتب حالة من التأمل والاستغراق والغياب فى تفاصيل حياة كاملة مسيطرة على وجدانه وتفكيره، وبالتالى فإن طبيعة التجربة ودرجة الانفعال النفسى الذى يعانيه الكاتب وصراعه ومعاناته فى سبيل تخليق فكرته على الورق، هى التى توجه حالة الشغف، لكن طبعا لا أنكر أن المعاناة تكون أكثر حدة أثناء كتابة الرواية، لأنها تستمر لفترة طويلة مرهقة ومثقلة بالوجع والتحديات، وبالتالى يكون الشعور بالإنجاز أعلى، وربما من هذه الزاوية فقط أميل إلى ترجيح كفة الشغف بالرواية.

هل تعتقدين أن التحول الأنطولوجى الذى شهده المجتمع الليبى منذ «الربيع العربي» إلى اليوم، كان سببا فى انتشار هذا الجنس الأدبى (الرواية) لما يتيحه من جرأة على مستوى الكتابة؟
بالتأكيد الربيع العربى كشف حالة من اليقظة شكلت منطلقا هاماً لتعاطى المواطن العربى مع القضايا الفكرية والسياسية والإنسانية، وشكل وعياً متقدماً حول مفهوم الحرية والعدالة والهوية والانتماء، الأمر الذى يسهم بطبيعة الحال فى مواكبة هذه التحولات ضمن منجز روائى أكثر انفتاحا على الواقع، وعلى القضايا الممنوعة والمسكوت عنها، ولكن أيضا، وفى تصورى ليس فقط الربيع العربى الذى كان سبباً فى ازدهار جنس الرواية، بل سيرورة حركة تاريخ الأدب، حيث يتطور الفعل الأدبى، من حيث الإشكال، والأساليب، وممارسات الكتابة، والأجناس الأدبية، منذ أن كانت ميثيلوجيا وملاحم ومعلقات شعرية، وصولاً إلى شكل الرواية التى أصبحت ديوان الأمم كما يقال، وليبيا ليست استثناء عن العالم من ناحية التوجه إلى كتابة الرواية، كما أن انزياح السلطة والرقابة على الكاتب والناشر كان له أثر كبير فى المتخيل الحكائى والروائى الليبى.

اختارت عائشة ابراهيم العودة إلى التراث والتاريخ فى حين هب الكثير من الكتاب الليبيين إلى مرحلة ما بعد التغيير لتفكيكها ومحاولة فهمها.. فهل هذا موقف من اللحظة التاريخية الجديدة وتجاهل متعمّد؟هل ترين فى التاريخ والتراث جوابا على مآزق الحاضر وإشكالياته؟

ربما أنا شخصية حذرة فى التعامل مع الوقائع الآنية التى لا تتضح بشكل كافٍ، لا يمكننى سرد قصة تيار نهرى جارف، وفى كل لحظة يجرف معه عناصر وأجساماً جديدة لا أعرف أين ومتى سوف تستقر، فى ظنى، أن كتّابا كثيرين تورطوا فى صياغة آراء تعبر عن انتماءاتهم الحزبية والولاءات أو العداوات الأيدلوجية والقبلية والطائفية ثم تأتى لحظات من الكشف تغير النظرة إلى المعتقد السابق، وهو فى رأى مناف لرسالة الأدب كعمق مشترك إنسانى، ويظل التاريخ مليئاً بالتجارب التى يمكن إسقاطها على إشكاليات الحاضر. ولكننى فى أعمالى القادمة، عندما سأكتب شيئاً عن واقع راهن، تجربة إنسانية أو نفسية أو اجتماعية من الزمن الحاضر، فلا أتوقع أنه سيكون للأحداث أو الشخصيات السياسية حضور، إلا كخلفية بقدر ما يحتاج إليه البعد الأنثربولوجى فى المتن الحكائى. 

يغلب على بعض أعمالك الأدبية النزوع صوب معاينة تجارب جماعية فى سياقاتها التاريخية، مع التركيز على التجربة الفردية ووقعها على بناء الإنسان الليبى المعاصر فما الرؤية التى تحكم منظورك السردى؟

بالتأكيد أنا عندما أخوض تجربة الكتابة المضنية، وأستغرق فى حالة من التقمص والانفعالات النفسية المرهقة التى نعيشها أثناء كتابة الراوية، بالتأكيد لا يكون هاجسى أن أعيد سرد وقائع وأحداث تاريخية بإمكان الكتب والتقارير تقديمها ببساطة، صحيح أن الرواية التاريخية ترصد التفاصيل المنسية وتتقصى عن المسكوت عنه وغير المكشوف من الماضى، وترمم الفجوات التى غفل عنها المؤرخون أو أغفلوها عنوة، كما هو الحال فيما تناولته رواية صندوق الرمل، من قضية السجينات الليبيات اللاتى تم نفيهن فى الجزر الإيطالية، لكن هاجسى الأكبر والأهم هو طرح الأسئلة حول الواقع والمسلّمات، وتفكيك العلل التى تنخر مجتمعاتنا من خلال تجذيرها فى السياق القديم، وهدم تلك العلل من أجل بناء وعى أكثر إنسانية. 

تناقض كبير نلاحظه بين مرحلة طويلة من التعتيم والانغلاق الثقافى بسبب اختيارات سياسية سابقة فى ليبيا وبين غزارة روائية ذات قيمة فنية يشهد بها الجميع فى ساحة الأدب العربى. كيف تفسرين الأمر؟
صحيح أن هناك مساحة زيادة نسبية فى حرية التعبير تسمح بخوض تجارب روائية ولكن إلى حدٍ ما لم يكن زوال التعتيم والانغلاق الثقافى سببا لتلك الغزارة، بل ساهم فى ذلك وبدرجة كبيرة الطفرة التكنولوجية واتساع رقعة التواصل عبر السوشيال ميديا التى ساهمت فى تسهيل الانتشار والنشر، إذ أن الانغلاق المحلى لم يكن حالة خاصة بليبيا فقط، بل حالة عامة فى كل المجتمعات، وما نلاحظه هو زيادة حجم المنجز الروائى فى كل البلدان، حتى التى كانت تتمتع بنسبة من الحرية الفكرية. 

فى رواياتك مشاهد سينمائية تخدم مشهدا تاريخيا انقضى وقام على أنقاضه عالم لم يستطع أن يقاوم بهويته زحف الحداثة ومخاطرها. ما مدى وجاهة اختيارك الفنى؟
دائما أؤمن بأن الرواية الجيدة هى التى تستطيع أن تتخلص من تأثير الوقائع التاريخية لتطرح أسئلتها حول الحاضر، ورواياتى رغم أنها تتضمن أحداثا تاريخية لكنها لا تقدمها كعبرة مباشرة أو مواعظ أخلاقية، هى فى الغالب تطرح تساؤلات حول أثر تلك الأحداث على تشكل الهوية والوعى الجمعى، والقيم والمفاهيم المقولبة، وتترك للقارئ مهمة استكشاف تجربته الخاصة من خلال القراءة. فى روايتى قصيل مثلا ارتكزت على سؤال ظل قائماً طيلة زمن السرد: لماذا دمرنا المبانى الأثرية فى بنى وليد؟ هل كنا بحاجة إلى مساحة جغرافية شاغرة؟ أو كان ذلك لجهل بقيمة ذلك الإرث التاريخى الذى يشكل جزءا من الهوية؟ أو لنية خبيثة لاجتثات مجتمع من عمقه التاريخى ليصبح مجرد مسخ أسمنتى. أعرف أن زحف الحداثة سيستمر بطريقة مهولة ومكتسحة، لكننى أتمسك بالرسائل الواعية التى ندسها ضمن ثيمات السرد، من أجل تشخيص حركة التغيير فى المجتمعات، وانعكاسها على الذات الإنسانية. 
ما دور للأدب فى مثل هذا العالم المتوحش الذى يزدرى قيمة الإنسان؟

على مر التاريخ كان الأدب هو المعادل الموضوعى الذى يوازن سطوة الحياة المادية وجفافها، لإعلاء القيم وجوهر الروح، وفى رأيى ما زالت الآداب والفنون على أشكالها هى السبيل الأمثل للتعبير عن الذات والذات الأخرى، من أجل احتواء الاختلاف وقبول الآخر وامتزاج الثقافات والأعراق والتقريب بين الأفكار والرؤى، من أجل إدماج الإنسان فى المسار الحضارى.

ما موقفك من فكرة الالتزام فى الأدب؟ وهل تؤمنين بالكاتب المشتبك مع واقع شعبه وواقع الإنسانية جمعاء؟
أنا مع الالتزام فى الأدب بشكل يبنى قيماً إنسانية تكرس مفاهيم احترام الذات والعدالة والحريات، ولست مع الابتذال. لكل عمل رسالته وعندما أكتب نصا يجب أن أضع فى اعتبارى أنه يصنع فرقا فى مستوى الوعى، صحيح أننى لا أتقبل التوجيه المباشر، ولا أحب دس الآراء الشخصية تجاه قضية ما، لكن الكاتب الجيد يعرف كيف يوجه القارئ إلى قيمة ما بدون أن يشير نحوها بإصبعه.

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة