الوجـه الآخــر لـتشستيرتون
الرجل الذى كان الخميس:
الوجـه الآخــر لـتشستيرتون
الثلاثاء، 08 يونيو 2021 - 12:48 م
كتب:أحمد الزناتى
أقوى إشارة إلى الكاتب الإنجليزى الكبير جيلبيرت كيثتشستيرتون وردت على لسان بورخيس فى حوار مترجم حينما وصفه بأنه من الكُتاب القلائل الذين يستطيعون منافسته.أما الإشارة الثانية فوردت فى كتاب افهود فى المعبدب للناقد الألمانى ميشائيل مار (ت: أحمد فاروق، كلمة ذ أبو ظبى 2009) عندما قال إن تيشسترتون يستطيع عبور بوابات القرون القادمة وهو يصفّر مصطحبًا كتابيْن اثنين: كتاب On Othodoxy (عن الأصولية) ورواية االرجل الذى كان الخميسب، التى صدرت ترجمتها العربية الشهر الماضى عن دار المحروسة بترجمة ممتازة أنجزها المترجم المصرى عماد منصور.
للأسف لم تُترجم من أعمال الكاتب الكبير إلى العربية سوى هذه الرواية وسلسلة قصصه البوليسية الجميلة الأب براونب عن دار هنداوى، بينما ترك الرجل ميراثًا أدبيًا هائلًا ناهزالمئة كتاب، ما بين أعمال فكرية وروايات ومقالات أدبية من الطراز الثقيل.أعمال تشستيرتون قصصية وغير قصصية على وجه الإجمال جديرة بالالتفات والترجمة من قبل دور النشر بدلًا من التنقيب فى مقالب الخردة الأدبية.
***
يلاحظ ميشائل مار فى كتابه أن دراسة تشيتسرتون عن قصة اد. جيكل ومستر هايدبلستيفنسون نبعت من تجربة شخصية مُعاشة، حيث تحيلنا القصة إلى رجل يكتشف أنه شخصان، أو بالأحرى عن رجلين يكتشفان أنهما شخص واحد، كما يلمّح الناقد الألمانى إلى فكرة انقسام الأنا إلى رأسين يواجهان بعضهما البعض فى أعمال تيشتسرتون، الكاثوليكى الورِع، واليمينى المحافظ الذى يُخفى بداخله الشيطان الآثم.يقول مار:ب ولغاية يومنا هذا لم نعرف بالضبط طبيعة هذا الشىء الشرير الذى كان يجذب تشستيرتون ويجعله ينظر إلى الهاويةب، وربما هذاذ فى اعتقادي- هو ما دفع مار لأن يعنون مقالته الممتازة بعنوانب تشستيرتون: الرجل الذى كان الأحدب، وكأنه يقصد الوجه الآخر لـتيشتسرتون،وسنفهم دلالة االأحدب لاحقًا.
دفعتنى هذه العبارة الغامضة إلى التفتيش عما وراء هذه الرواية. ثمّة أفكار فلسفية ودينية عميقةبربماب كانت ثمرة تجربة شخصية أليمة أخفاها تشستيرتون داخل ثنايا روايته ببراعة شديدة، ولا تخلو مقالة مار فى كتابه من إشارات إلى تلك المسألة.محور الأحداث عن حوار بين شاعريْن من لندن. جابريل سايم ولوسيان جريجورى يتجادلان حول مفهوم الفوضوية، ونعرف عبر الحوار إنشاء حزب سرّى فوضوى يرمى إلى العنف والتدمير والاغتيالات. على رأس التنظيم رجل غامض اسم الأحد. تتقدم الأحداث فى جوّ كابوسى ويتصارع أعضاء الحزب ضد بعضهم البعض، يُطرد أحدهم بتهمة التجسس لصالح الشرطة، وبمواصلة القراءة نكتشف مفاجأة مدويّة،أنّ الأعضاء الستّة مجرد حفنة مغفّلين تتلاعب بهم يـد خفيّة، الرجل الذى كان الأحد. هذا هو الإطار الشكلى للرواية. قصة بوليسية قوية الحبكة لا تخلو من كوميديا سوداء وكابوسية واضحة، شهد لها وتأثّر بها فرانتس كافكا شخصيًا،ولا بأس إن أخذها قارىء عادى على هذا المحمل، أقصد باعتبارها قصة بوليسية أو حدوتة خيالية أو هراء متاهة قوطية على رأى مصطفى ذكرى.
السرّ المهم فى اعتقادى يكمن فى شخصية الأحد. ويتأكد هذا الاعتقاد حينما نقترب من نهاية الرواية، وتحديدًا بداية من الصفحات 209 من الترجمة العربية، حينما يشرح كل عضو من الأعضاء الستة المُغفَّــلين كيف يرى الأحد من وجهة نظره.
الأحد سؤال أزلى بلا جواب، لا أحد بقادر عن تحديد كنهه ولا طبيعته ولا سـرّه. يقول سايم مثلًا:ب كل رجل منكم يرى الأحد بشكل مختلف تمامًا عن الآخرين، ومن ذلك فكل رجل منكن لا يمكنه سوى إيجاد شىء واحد لمقارنته به ذ الكون نفسه. يراه باول كالأرض فى الربيع، وجوجول كالشمس، والسكرتير بالبروتوبلازم عديم الشكل، وهكذا. هناك من رآه فى غاية الجمال والنقاء، وهناك من رآه فى غاية البشاعة والشرّ. يقول أحدهم:ب كنتُ متيقنًا أنه حيوان، وعندما أدركته من المقدمة أدركتُ أنه إلـهب. هو الإله ابانب [إله المراعى والصيد البرى بقرون وأرجل ماعز فى الأساطير الإغريقية].
***
لا أعرف إن كان كارل جوستاف يونج قد قرأ الرواية المنشورة للمرة الأولى سنة 1908 أم لا، ففى االكتاب الأحمربالمكتوب فى منتصف العشرينيات من القرن الماضي إشارة إلى شخصية تنطبق عليها صفات الأحد بحذافيرها(راجع الصفحات الأخيرة من الكتاب الأحمر المُترجم إلى العربيةذ دار الحوار 2015)، أقصد أبراكساس، الكيان الذي أشار إليه هيرمان هسّه فى رواية ادميانب.
يقول يونج:ب أبراكساس كائن لا تحيط به المدارك، كائن مجلّل بالغموض أبراكساس هـو نبع الخير وهو أصل الشر، هـو النور الأشـدّ سطوعًا فى النهار، وهـو الليل الأحلك ظُلمة، جبّار كأسد يفترس ضحيته، أبراكساس لـيّن كيوم من أيام الربيع أبراكساس عظيم كالإلـه ابانب. هنا أيضًا يتسخدم يونج، كما فعل تشيتسرتون، استعارة الإله الإغريقى ابانبفى محاولته لتجسيد الأحد أو أبراكساس. الألفاظ نفسها والنعوت ذاتها التى استخدمها يونج لوصف أبراكساسس الُمجلل بالغموض، استخدمها قبله تشستيرتون فى وصف الأحد، زعيم التنظيم الفوضوى، ويُمكن للقارىء الرجوع إلى رواية دميان لهيرمان هسّه ليعثر على وصف مماثل لشخصية أبراكساس.كان أبراكساس يمثل اتحادًا بين الإله المسيحى والشيطان فى رأى يونج، بينما أذهبُ أنا إلى تأويل شخصية أبراكساس عند يونج والأحد عند تشيتسرتون بأنه نمط فطرى أو Archetype، صورة رمزية للنفس البشرية التى تنطوى على البـرّ والفجور والطهارة والقذارة والحب والكره والوفاء والخيانة والظلمات والنور فى آن واحد، هى النفس الذى ينبغى للإنسان أن يحسب حسابها ألف مرة.
ثمّة تفسيرات تذهب إلى القول بأن الأحد فى الرواية رمز للرحمن والشيطان فى آن، والحقيقة أننى لا أؤيدها لسببيْن، الأول وجاهة كلام ميشائيل مار فى رفض تشستيرتون للتصور الصوفى الباطنى عن الإله، فهو ككاثوليكى متدين يرى أن الله مفارق متسامٍ لا يُمكن التحكم فيه (فهود فى المعبد، مصدر سابق، ص 132)، أى أنه ليس إلهاً حلوليًا، والسبب الثانى فنى محض، فمن السهولة بمكان تشفير المقدسات فى صورة رمزية، لكن الصعوبة أو الأصالة كامنة فى قدرة الكاتب على حملكَ كقارىء لا إلى التفكير فى أن الإنسان مزيج من الخير والشرّ، فهى فكرة قديمة بالية شبعتْ معالجة، بل فى فكرة ألا تحكم على الأشياء، وأنك طَوال حياتك لن تستطيع أن تميّز بين الخير والشر، فى وسعكَ فقط أن تختار طريقك وأن تتحمل بشجاعة تبعات اختيارك.
فإذا عُدنا إلى الرواية يبرز سؤال مهم:هل استطاع واحد من أبطال الرواية الوصول إلى قرار باتٍ بشأن سـرّ الأحد وحقيقته؟ قولًا واحدًا: لا.فالجميع حائر بين وصف الأحد بالجمال أو القبح وبين وصمه بالخير أو الشر أو نسبته إلى الشيطان أو الرحمن. الحقيقة أن البطلسايم كان واعيًا بالمعضلة، إذ قال إلى الأحد:ب أبداً لم أبغضك..هل لى أن أخبركم بسر العالم بأكمله؟إن الحقيقة أننا لم نعرف سوى ظَـهـر العالم، نرى كل شىء من الخلف ويبدو وحشياً، ألا ترون أن كل شىء ينحنى ويخفى وجهاً؟ب.
لكل شىء ظاهر وباطن، الاكتمال بحسب يونج هـو قبول النفس بكليتها.الأحد نفسه معذب بعذابات أزلية، فى الصفحة الأخيرة من الرواية يقول الأحد:ب هل عرِفتَ المعاناة من قبل؟ هل يمكنك أن تشرب من الكأس الذى أشرب منه؟بأية معاناة وأية كأس كان يقصدها الأحد/تشستيرتون؟ الحرية الممنوحة؟ الأمانة المعروضة؟
***
أفكّر أحيانًا فى أعمال أدبية عظيمة تناولت فكرة الشرّ والخير تناولًا فنيًا عاليًا. أفكّر فى الأب فيودور كارامازوف فى رواية دوستويفسكي وحواراته مع الأب الراهب،التى لم تكن تخلو من نزعة إيمانية قوية بشرط ألا يحكم عليه أحد،وأفكّر فى ميشيل بطل أندريه جيد فى اللا أخلاقى، وبطل توماس مان فى تونيو كروجر، وبطل هـسّـه سنكلير فى رواية دميان، بل وأقول سعيد مهران فى اللص والكلاب،مجاز الجريمة/الشرّ يقفز إلى أذهانهم للتعبير عن علاقتهم بالعالم. وأظنّ أن المؤلفينذ مثلهم مثل تشستيرتون ووفق إيحاء ميشائيل مار-كانوا يخفون تجارب دفينة مع الشر، وأنهم ربما اقترفوا شــرًا مـبــرمًـا فى فترة ما فى حياتهم، لكنها أشياء طُويت فى صدورهم إلى الأبد وربما أوقدت تلك المواجهات الخفية مع إبليس وتلك التناقضات وصنوف المعاناة فتيلَ أعمالهم الأدبية العظيمة، وإلا من أين أتى هيرمان هسّه بهذه النوازع الشريرة التى لا تخرج عن مُخيلة روائية بل عن تجربة مُعاشة فى رواية كلاين وفاجنر مثلًا وهو الرومانسي الروحاني؟ أو من أين هبطت على رأس ستيفنسون ذى الوجه الوديع الهادىء تلك الفكرة الجهنمية فى دكتور جيكل ومستر هايد؟ وعلى رأس يوهان ف. جوته فى بعض حوارات الجزء الثانى من مسرحية فاوست؟ أيّة شياطين خفية كانوا يحاربون وأية أسرار كانوا يخفون؟
فى مقال قديم نـشره تشستيرتون سنة 1902 تحت عنوان (دفاع عن الهراء) أعرب الرجل عن اعتقاده أن الأدب ينبغى ألا يخلو من قدرة على قول الكلام الفارغ ومقدرة على إبراز الشـرّ، وارتأيتُ نقل الفقرة التالية لما فيها من قيمة جديرة بالإضاءة:
(إن كل أدب عظيم هو فى حقيقته أدب مجازى رمزي؛ مجازى رمزى لبعض وجهات النظر إزاء الكون. فالإلياذة عمل عظيم لأن الحياة كلها معركة، والأوديسة عمل عظيم لأن الحياة كلها رحلة ، وسِفر أيوب عمل عظيم لأن الحياة كلها لغز. قد نصادف موقفًا نشعر فيه بإمكانية اختزال الوجود فى كلمة اأشباحب، ونصادف موقفًا آخر - ربما أحسن حالًا- نشعر فيه بإمكانية اختزال الوجود فى كلمة احُلم ليلة صيفبوحتى أشد ألوان الدراما إغراقًا فى الابتذال أو أتفه القصص البوليسية ربما لا تخلو من جودة لو أنها عبّرت عن شىء من المتعة [الفنية] فى توقعاتها الشريرة الغامضة. يجب ألا تكون الدنيا مأساوية أو رومانسية أو دينية فحسب، بل ينبغى ألا تخلو من الهُراء. الحقيقة أن لكل شىء وجهه الآخر، كالقمر:(
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة