ديوجين المصرى
ديوجين المصرى


فى مئويته حلمى مراد.. ديوجين المصرى

أخبار الأدب

السبت، 12 ديسمبر 2020 - 05:47 م

محمود قاسم

عاش حلمى مراد (12 اكتوبر 1920 - 9 ديسمبر 2001)  صامتا أغلب سنوات حياته، لكنه كان يتكلم من الكتب وإليها وعنها، أكثر من سبعين عاما قضاها راهبا فى عالم الكلمة المكتوبة ولم نره فى المؤتمرات الثقافية والمهرجانات يملأ الدنيا كلاما، بل تفرغ لمشروعه الثقافى الكبير،  وتحمس له بشدة وهو فى الثلاثين من العمر، وقرر أن يكون صاحب مصيره وكلمته ،ورفض الغبن الذى تمارسه المؤسسات الثقافية،  ونجح المشروع،   وفشل أغلبنا فى استيعابه واستكماله،   فلم ألتقى مثقفا واحدا حتى الآن قرأ كافة إصداراته ، التى تعتبر نواة حقيقية للثقافة لكل الأجيال طوال السبعين سنة الماضية.

حلمى مراد الذى من المفروض أن نحتفل بمرور مائة عام على ميلاده، هو واحد من المترجمين الشعبيين العظماء الذين فتحوا للأجيال أبواب التعرف على الثقافة العالمية، أبرزهم على الإطلاق عمر عبد العزيز أمين صاحب سلسلة روايات الجيب، ويأتى حلمى مراد من بعده فى المكانة والزمن، والغريب أن الرجلين لم نجد لهما صورة فوتوجرافية على الإنترنت، كأنما تم محو تاريخهما تماما، وكأنما هذا هو حال المترجمين فى بلادنا، وهم رجال تفرغوا للترجمة والكتابة وعملوا بالنشر، ولم يمارسوا سوى المهنة، وقد كان حلمى مراد مبدعا ومترجما، واتجه إلى النشر من أجل أن يكون صاحب مشروعه، وتجب الإشارة إلى ما عاناه الرجل فى بداياته، فقد نشر عددا من الروايات المترجمة فى سلسلة «روايات الهلال» فى بداية الخمسينيات، مع اتجاه السلسلة أن تكرس نشاطها لترجمة الأدب العالمى، ولكن كانت هناك سياسة غريبة هى عدم ذكر اسم المترجم، واضطر الشاب، الذى كان يجيد ثلاث لغات، الباحث عن فرص للنشر على الموافقة على السياسة العامة للسلسلة التى ظلت تتبع هذه السياسة إلى أن تولى تحريرها رجاء النقاش ليعطى للمترجمين حقهم المعنوى.
الكاتب مولود فى الإسكندرية لوالدين من مدينة قنا، كانا أثناء الولادة يزوران الثغر، ثم عادت الأسرة إلى الصعيد، وكان الأب يعمل محاميا، وتلقى الابن تعليمه فى مدارس قنا قبل أن يلتحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة، واستهوته العاصمة لأنها تمنحه فرصة الذهاب الى المؤسسات الصحفية التى كان يراسلها وهو فى المدرسة الثانوية ويبعث لها بمؤلفاته القصيرة، ونشر أولى قصصه عام 1940 باسم «الرد خالص»، وعقب حصوله على الليسانس التحق بمكتب المحامى السياسى مكرم عبيد، وقد تبناه المحامى المعروف فأسند إليه رئاسة تحرير مجلة كان يصدرها باسم «الكتلة»، وفى الوقت نفسه كان ينشر المقالات والقصص المؤلفة، والمترجمة، فى مجلات دار الهلال ومنها «المصور»، و»الهلال»، و«الاثنين» و«الكواكب»، واتسع نشاطه إلى مجلات أخرى منها «مسامرات الجيب»، و«البلاغ» و«الرسالة»، و«الثقافة»، و«الراديو المصرى». وفى عام 1948، ترك المحاماة واستقال من العمل فى مكتب مكرم عبيد، وتفرغ للأدب، وبعد عامين نشر مجموعته القصصية الأولى بعنوان «عندما تحب المرأة» عن سلسلة «كتب للجميع»، كما صدر له فى العام نفسه كتاب عن أوسكار وايلد، فى تلك الفترة كانت روايات الهلال تعكف على إصدار سلسلة روايات تاريخ الإسلام لمؤسس الدار جرجى زيدان، وبعد انتهاء نشر الروايات تغيرت الآلية وقررت أن تكون الإصدارات كلها من ترجمات الروايات العالمية الشهيرة، وكانت المشكلة أمام النشر اشتراط أن يكون حجم كل رواية 160 صفحة ببنط صغير ما اضطر المترجمين إلى اختصار بعض الروايات، ومنهم حلمى مراد الذى انصاع لقانون السلسلة بعدم نشر اسم المترجم، وهو أمر بالغ الغرابة، فجميع السلاسل الصادرة فى ذلك الوقت كانت تفخر باسم المترجم خاصة عمر عبد العزيز أمين صاحب سلسلة «روايات الجيب» التى صدرت للمرة الأول عام 1936، اسبوعيا، وهو جهد خارق، حيث إن المؤسسة كانت فى حالة عمل دائم خاصة أن الناشر أصدر أيضا مجلة أسبوعية متخصصة فى السينما باسم «الاستوديو»، ولا شك أن حلمى مراد وضع تجربة روايات الجيب أمام عينيه، وقرر أن يفعل مثل أمين، وبعد أن ترجم الكثير من الروايات العالمية فى دار الهلال، وبعد أن تأكد أنه لن توجد مؤسسة تستوعب كل ما يكتب أو يترجم، قرر أن يصدر العدد الأول من «كتابى» على نفقته الخاصة.
فى مارس من العام 1953 صدر العدد الأول من سلسلة كتابى، وكان شعار السلسلة مصباح ديوجين الباحث عن المعرفة. وهو كتاب للقصة والثقافة الرفيعة لصاحبه ورئيس تحريره حلمى مراد على غرار ما كان عمر عبد العزيز أمين يفعل. كان الهدف الرئيس هو أن يقرأ الناس أعماله، واختار الكاتب القطع الصغير الذى اشتهرت به سلسلة «اقرأ» بالغة النجاح، وكان العدد الأول باسم «خطايا الحب»، وقد كتب بنفسه أغلب صفحاته خاصة القصة القصيرة «الغفران»، وقد شرح رؤيته حول المطبوعة الجديدة فى المقدمة قائلا: «ولما كنا فى عصر السرعة، ووقتك لا يتسع لمتابعة ومطالعة أحدث الكتب الشائعة والقصص العالمية فى طبعاتها الكاملة، ولغاتها الأصلية، فضلا عن التراث القديم من الكتب التى سمعت عنها، ولم تسنح لك من قبل فرصة قراءتها، لذلك رأيت أن أتولى عنك، هذه المهمة، فأنتقى لك كل شهر من بين آلاف الكتب القصصية وغير القصصية ثمانية من أروعها، وأمتعها، ألخصها لك بالطريقة والأسلوب اللذين تعودتهما منى، والإخراج العصرى الذى يخاطب الحس الفنى المرهف والذوق الجميل».
 هذا الشاب واسع الأفق كان شعلة من النشاط فهو لم يحصر اهتماماته فيما يقدمه إلى القراء عند ثقافة معينة ونشعر أنه أتى بالكتب من جغرافيا العالم كافة، ونشر عن كل المدارس والاتجاهات الأدبية، خاصة فى «مطبوعات كتابى»، التى كانت بمثابة مدخل الى الكتب وعليك أن تبحث عن العمل الكامل الذى تريد قراءته، ثم راح يوفر هذه الأعمال الكاملة، فمن الأدب الروسى قدم «الحرب والسلام»، لتولستوى، و«نينوتوشكا» لدوستيوفسكى، و«الحب الأول» لتورجنيف، وهو عمل غير مألوف للقارئ العربى، و«رجال ونساء» لماكسيم جوركى، و«ماريا ايفانوفا» لبوشكين، ما يعنى أنه وضع ناظريه على كل المدرسة الروسية، وكانت الخاتمة المتألقة فى ترجمة رواية «دكتور زيفاجو» لباسترناك.
 ومن الأدب الفنلنلدى قدم «الظمأ للحب» لميكا فالتاراى، ومن تركيا قدم رواية «تحت ظلال الليلا» لمبرورة سامى، ومن الأدب النمساوى «حذار من الشفقة» لستيفان تسافيج، ومن الأدب الايطالى «ديكاميرون» لبوكاشيو، وقد شغف كثيرا  بألبرتو مورافيا فترجم له القصص القصيرة لعل أجملها «لوقا»، كما قدم له كتاب «الخطيئة الأولى».
 وقدم مجموعة من القصص الصينية تحت عنوان «قصص من الصين»، كما ترجم «قلوب ضالة» لطاغور، وإذا كان الرجل قد اهتم بالإبداع الأوروبى فى القرن التاسع عشر، فإنه أيضا قدم الكاتبة المعاصرة فرانسواز ساجان وروايتيها «هل تحبين برامس»، و«السحب الرائعة»، كما قدم القسم الأول من رواية «البحث عن الزمن الضائع» باسم «حب سوان» لمارسيل بروست. ومن التجارب الأدبية الجديدة قدم «قاتل بلا أجر» ليوجين يونسكو، وكان حريصا على تقديم الروايات العالمية التى تدور أحداثها فى مصر ومنها «بيلا دونا» لروبرت هيتشن، أو الروايات التى تناصر الحق الفلسطينى مثل «الطريق إلى بئر سبع» لايثيل مانين وهى روائية بريطانية، ويبدو مدى الرقى فى اختياراته وهو يقدم « ضحكات فى الظلام» لفلادمير نابوكوف.
أما الأدب الفرنسى فقد بدت فتنته به فى العدد الملحوظ الذى قدمه من الأعمال والأدباء، ومنهم الكسندر ديماس، وأندريه جيد، وأناتول فرانس، وفيكتور هيجو، وهو أول من قدم رواية «حياة امرأة» لموباسان فى جزءين، و«الابن الضال» لهنرى بوردو، و«مدموازيل جوفر» لمارسيل ماريفو، وقد قرأ السينمائيون المصريون هذه الأعمال واقتبسوا منها الأفلام دون الإشارة إلى المصادر.
 ظهور حلمى مراد تم فى سنوات التدفق الملحوظ وارتفاع الترجمة على المستوى الشعبى ثم جاء تعثره فى استكمال مشروعه فى نهاية الستينيات حيث بدأت كافة المشاريع فى التوقف، أو التقلص، وإذا كانت سلسلة «روايات عالمية»، وهى السلسلة المملوكة للدولة، قد قامت على أطلال روايات الجيب، فما لبث أن طالتها تجارب التطوير والتغير لفترتين قصيرتين نسبيا، بتغيير الحجم والصفحات، قبل أن تتوقف تماما، كما انتهى مشروع «الألف كتاب» الذى تولته وزارة التربية والتعليم، وفى «روايات الهلال» ساد الاهتمام لفترة بنشر إبداعات مصرية محلية قليلة القيمة، ولم يعد فى مصر سلاسل للترجمة الشعبية، وهكذا فإن حلمى مراد توقف فى الوقت المناسب، وقد حاول عمل إصدارات تجميعية متناثرة من أعماله، لكن للأسف كان الجيل قد تغير، ورغم نجاح الطبعات التى قامت بها المؤسسة العربية الحديثة للسلسلتين، فمن الواضح أن سلاسل الروايات المحلية التى كان يكتبها نبيل فاروق كانت مبيعاتها عالية بدرجة لا تقارن، وكان الأمر بالنسبة للناشر حمدى مصطفى مجرد تجربة يشكر عليها بينما تمكنت الشيخوخة من صاحب المشروع، الذى دخل الظل يراقب من بعيد، ويكفيه هذا المشروع العظيم بشقيه، والذى يستحق التكريم لأجله.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة