بهاء مع الشاعرة جيهان عمر جامعة  عين شمس فى اليوم العالمى للشعر ٢٠١٩
بهاء مع الشاعرة جيهان عمر جامعة عين شمس فى اليوم العالمى للشعر ٢٠١٩


بهاء..الذى تسبقه دائما رائحة الجاردينيا

أخبار الأدب

الأحد، 20 ديسمبر 2020 - 08:52 ص

جيهان عمر

بعد وفاة المخرج المسرحى محمد أبو السعود قلت إننى لن أكتب مرة ثانية لأنعى أصدقائي..قلت إن القدر لن يأخذ صديقا آخر بهذه السرعة..و لماذا يبدأ بالطيبين لكى تنفطر قلوبنا أكثر أو لكى نعرف قيمة النقاء.
منذ أكثر من عشر سنوات لم أكن أعرف بهاء شخصيا ..وفى أمسية شعرية فى مكتبة الكتب خان بالمعادي..ذهبت مبكرا لأجد باقة جميلة من الورد الأبيض فى انتظارى .. قالت لى كرم يوسف صاحبة الدار مبتسمة انها من دكتور بهاء عبد المجيد ..دكتور بهاء الذى لا أعرفه..ثم حضر بهاء متحمسا..قارئا الديوان بعمق.. مهتما أكثر منى .. عارفا بكل التفاصيل المختبئة بين السطور..لم يكن بهاء يحضر ليجامل أصدقاءه وحده.. بل كانت تسبقه دائما رائحة الجاردينيا كمقدمة شفافة لروحه النبيلة..يرى بهاء أن كل من يكتب هو زميله فى نفس الفصل ..أما لو أعجبته كتابتك فقد أصبحت صديقه دون أن يكون لك دخل بالأمر..انخرط بهاء فى حوار جاد عن المجموعة وكأنها  ورقة بحثية سيشاركها طلابه فى قسم اللغة الإنجليزية بجامعة عين شمس غدا..كان قارئا شغوفا للأدب عاشقا لتجارب كثيرة لا نعرف عنها شيئا..ومع ذلك تقبل بهدوء تكبر بعض فارغى القلب والعقل ..ولم يتباهى بمعرفته التى تتراكم  فى جنة الشعر حتى أننى أتخيله الآن يبيت هناك فى قصره الجديد..

كان يحب قراءة  الشعر لكنه يكتب القصة والرواية بدأب حزين.. لا يدرى لماذا لا يحتفى الآخرون به كما يحتفى بهم ..لكنه كان صابرا متسائلا عن خطأ ربما ارتكبه فى حق هذا الوسط الأدبى ليتجاهل الاحتفاء بروايته الجديدة ..محبة عميقة يا بهاء كان يحملها لك كل من يعرفك لكنها ظهرت فور موتك المؤلم ..غيمة من الحزن انفجرت وأغرقت الأصدقاء فى دموعهم.. ندم الكثيرون على كتمان المشاعر والكلمات الطيبة التى تستحقها..حتى أن أحد النقاد كتب: رحيل صاحب الأعمال الأدبية المتميزة ..فتمنيت أن يكون قد عجل بهذه الشهادة قليلا ليقرأها بهاء قبل موته..كل مرة نقع فى نفس الخطأ..تأجيل الاعتراف..كتمان مشاعر الحب والامتنان لملاك يجيئ فى زيارة قصيرة ثم يغادر ..
لم يكن يزورمصر صديق أو صديقة  من بلد آخر..إلا وطلبت منك أن تحضر المقابلة..ليس لأنك تجيد الإنجليزية..ولكن لأنك تفيض بالإنسانية ..لن تتأمل أى شخص أبدا لترى ان كان يستحق أن تقدم له شيئا أم لا..هذه النظرة الاستعلائية ..التى تحاول أن تقرأ الأشخاص أولا..ثم تحكم عليهم ثانية..ثم تنسحب بعد ذلك أو تبقى ..هذه الاستراتيجية التى نفعلها بدون تفكير أحيانا..لم تكن تعرفها أنت..بل تفتح قلبك للمحبة فى الصباح ..ثم تبدأ رحلة كفاحك اليومية بعد أن يدخل الجميع إلى قلبك..ربما لهذا السبب أيضا تحملت الكثير من الأذى..محبة غير مشروطة فى زمن كهذا تساوى أذى غير محدود أيضا..
حينما جاءت الشاعرة التركية هلال كاراهان إلى مصر  2017 كانت تريد أن تقرأ قصائدها فى مكتبة ..رحب رجائى موسى مدير دار «هن» بأمسية لم يخطط لها لضيق الوقت وانشغال الجميع بمعرض الكتاب ..فطلبت من بهاء أن يدير اللقاء ويقرأ قصائدها بالإنجليزية..وسأقرأ أنا الترجمة العربية ..لم يتعود أن يخذل أحدا.. ربما يغير خططه كلها ولا يخبرك عنها حتى لا تشعر بأنك قد أثقلت عليه.. قرأ الديوان ليلا وجاء مستعدا ومتحمسا كأنها صديقة أخرى فى كتاب الشعر.. ثم فاجأت الحضور المطربة مروة حفظ الله بغناء القصائد بعد ذلك بعد أن لحنتها ارتجاليا لأنها تقرأها للمرة الأولى..هذه الأمسية غير المرتب لها قال عنها الشاعر التركى بهادربايريل..إنها من أجمل الأمسيات الشعرية التى أقيمت لهلال..من سينقذنا الآن يا بهاء فى أوقاتنا الضيقة ليحولها إلى براح أخضر..
فى اليوم التإلى صحبها وزوجها فى جولة بمعرض الكتاب لأننى اعتذرت لها ..قابلهم على باب المعرض..وجعلها تقرأ فى أمسية مفتوحة للأجانب..فعادت ليلا لتخبرنى سعيدة..ما هذا البهاء ..مازال عندكم ملائكة ..
أما ما فعلته لى فكان كثيرا.. بعد فترة من لقاءنا الأول وفى العام 2009 جاءتنى إقامة أدبية فى كوريا الجنوبية لمدة ستة أشهر..ولأول مرة سأبقى طويلا فى بلد غريب..أجهز أشياء كثيرة وكأننى أنقل حياتى ..طلبنى بهاء معتذرا أنه يريد أن يرانى رغم انشغالي..وبالفعل التقينا فى وسط البلد ..لأجده قد ترجم عدة قصائد إلى اللغة الإنجليزية من ديوانى الأخير ..قال ستحتاجين نماذج من قصائدك هناك ..لم أكن أملك بالفعل أية قصائد باللغة الإنجليزية ..ولم أفكر فى أهمية الأمر..لكن بهاء الذى عاش طويلا فى أيرلندا أثناء انجاز رسالة الدكتوراه ..يعرف أهمية أن تكون مستعدا بعملك مترجما..أو على الأقل تملك بعض الترجمات..هكذا كان هو ..لم يكن كريما بالمعنى الذى نعرفه ..أن يعطيك حين تطلب ..بل كريما بالمفهوم النادر..أن يعرف ما ينقصك ويقدمه لك دون أن تطلب..أحيانا لا يقدم ما ينقصك بل يقدم أيضا ما يبهجك..يذهب سريعا ليحضر فرحة صغيرة ويقدمها لك ..كتب الشاعر محمد خير بالأمس أن بهاء انسحب من تجمع صغير بدار ميريت للنشر..لأنه علم أن اليوم هو عيد ميلاد خير ..أحضر كعكة صغيرة وشمعة ..فقط ليضيف البهجة.. مهمته الأولى التى جاء إلى الكون ليحققها.. ليفرح خير بلمسة رقيقة يتذكرها الآن بعد وفاته بمحبة ..كل من عرفك يتذكر الآن الورود التى أرسلتها..المحبة التى قدمتها للغرباء والأقرباء.. مد يد العون حتى لمن آذاك لسبب أو لآخر..لم تكن تعرف إلا أن تسامح..
فى كوريا هذا البلد الغريب..كان الجميع يطلب منى قصائد مترجمة للإنجليزية حتى يستطيعوا ترجمتها إلى الكورية..كل أمسية أو مهرجان كانت ترجمتك هى الوسيط إلى عالم آخر..كنت أحتفظ بالأوراق حتى بعد أن حفظتها على الكمبيوتر.. وكأننى بهذه الطريقة أحمى نفسى من أن أضيع هناك وحدى فى بلد لا تعرف لغتى ..
عزائى الآن أننى التقيتك فور خروجنا من العزلة ..كان الخوف مازال مسيطرا علينا من جراء هذا الفيروس الذى سيختارك بعد ثلاثة شهور بالتمام لتكون واحدا من ضحاياه ..ضحكت كثيرا وأنا أخرج كأسى الخاص الذى سأشرب فيه الشاى من حقيبتى ..كنت هادئا ومرتاحا رغم حزنك على فقد أخيك قبل عدة أشهر..أخبرتنى أنك أحببت هذه العزلة..وأنها كان يجب أن تحدث لسبب أو لآخر..قلت لى إننا كان يجب أن نتوقف عن الجرى المستمر حتى لو كان توقفا اجباريا..لنأخذ نفسا عميقا.. قلت كان مهما جدا أن ارتاح.. أمنيتك الأخيرة وقد تحققت ..   

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة