الكتاب: ما أنا فيه المؤلف: أحمد الشهاوى  الناشر: الدار المصرية اللبنانية
الكتاب: ما أنا فيه المؤلف: أحمد الشهاوى الناشر: الدار المصرية اللبنانية


ما أنا فيه: سطوة الأسطورة وجمالياتها

أخبار الأدب

الخميس، 24 ديسمبر 2020 - 01:21 م

د‭. ‬محمد‭ ‬سليم‭ ‬شوشة

فى‭ ‬المجموعة‭ ‬الشعرية‭ ‬اما‭ ‬أنا‭ ‬فيهب‭ ‬للشاعر‭ ‬المصرى‭ ‬أحمد‭ ‬الشهاوى‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬الدار‭ ‬المصرية‭ ‬اللبنانية‭ ‬بالقاهرة‭ ‬2020‭ ‬عدد‭ ‬بارز‭ ‬من‭ ‬السمات‭ ‬والخصائص‭ ‬الجمالية‭ ‬والقيم‭ ‬الدلالية‭ ‬التى‭ ‬تؤشر‭ ‬لكونها‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المجموعات‭ ‬الشعرية‭ ‬وأكثرها‭ ‬ثراء،‭ ‬وتبرهن‭ ‬بقوة‭ ‬على‭ ‬خصوصية‭ ‬الصوت‭ ‬الشعرى‭ ‬للشهاوي،‭ ‬وأنه‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬أحوال‭ ‬شعرية‭ ‬تتسم‭ ‬بالكثافة‭ ‬والثقل،‭ ‬وتبتعد‭ ‬تماما‭ ‬عن‭ ‬الافتعال،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بالتشعير‭ ‬الاضطراري،‭ ‬بل‭ ‬نجد‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬أحوال‭ ‬شعرية‭ ‬تتدفق‭ ‬فى‭ ‬سلاسة‭ ‬وعذوبة‭ ‬نادرة،‭ ‬كأنها‭ ‬تجبر‭ ‬صاحبها‭ ‬على‭ ‬البوح‭ ‬بها،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬يقول‭ ‬نفسه‭ ‬عبره،‭ ‬وما‭ ‬الشاعر‭ ‬إلا‭ ‬ذات‭ ‬مضطرة‭ ‬؛‭ ‬لأن‭ ‬تفيض‭ ‬بما‭ ‬يعتمل‭ ‬بداخلها،‭ ‬وتتمثله‭ ‬الذهنية‭ ‬الشاعرة‭ ‬والروح‭ ‬لديه‭ ‬وفق‭ ‬جسد‭ ‬شعرى‭ ‬خاص‭ ‬فى‭ ‬لغته‭ ‬وصوره‭ ‬وتمثلاته‭ ‬الجمالية،‭ ‬وبخاصة‭ ‬ما‭ ‬يرتبط‭ ‬بالأسطورة‭ ‬أو‭ ‬السرد‭ ‬أو‭ ‬حالات‭ ‬العشق‭ ‬وتجلياته‭ ‬أو‭ ‬أحوال‭ ‬التلاشى‭ ‬والعدمية‭ ‬أحيانا،‭ ‬فكأن‭ ‬الشاعر‭ ‬عبر‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬إنما‭ ‬يرتقى‭ ‬بروحه‭ ‬نحو‭ ‬البناء‭ ‬الشعرى‭ ‬ويصعد‭ ‬فيه‭ ‬تدريجيا‭ ‬مدفوعا‭ ‬بقوة‭ ‬هذه‭ ‬الحالات‭ ‬التى‭ ‬تعيشها‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭. ‬

النمل‭ ‬والملك‭ ‬سليمان

أشجار‭ ‬دم‭ ‬الأخوين

والعشقُ‭ ‬مثل‭ ‬الماءِ‭ ‬

إنْ‭ ‬شابتْهُ‭ ‬شائبةٌ‭ ‬خبا‭ ‬

واختار‭ ‬أن‭ ‬يمشى‭ ‬بعيدًا‭ ‬فى‭ ‬طريقٍ‭ ‬من‭ ‬سرابْ‭.‬

تتجلى‭ ‬حال‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬السقوط‭ ‬المثير‭ ‬للشجن‭ ‬والحزن،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يحاول‭ ‬النص‭ ‬الشعرى‭ ‬أن‭ ‬يصطنع‭ ‬منه‭ ‬حالا‭ ‬شعرية،‭ ‬لها‭ ‬قدرة‭ ‬كبيرة‭ ‬على‭ ‬إثارة‭ ‬مشاعر‭ ‬المتلقي،‭ ‬وجعله‭ ‬منحازا‭ ‬لهذه‭ ‬الذات‭ ‬المعذبة‭ ‬بهذا‭ ‬السقوط‭ ‬وآثار‭ ‬الخيبة‭ ‬المضنية‭. ‬

‭>>>‬

فى‭ ‬المجموعة‭ ‬الشعرية‭ ‬اما‭ ‬أنا‭ ‬فيهب‭ ‬للشاعر‭ ‬المصرى‭ ‬أحمد‭ ‬الشهاوى‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬الدار‭ ‬المصرية‭ ‬اللبنانية‭ ‬بالقاهرة‭ ‬2020‭ ‬عدد‭ ‬بارز‭ ‬من‭ ‬السمات‭ ‬والخصائص‭ ‬الجمالية‭ ‬والقيم‭ ‬الدلالية‭ ‬التى‭ ‬تؤشر‭ ‬لكونها‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬المجموعات‭ ‬الشعرية‭ ‬وأكثرها‭ ‬ثراء،‭ ‬وتبرهن‭ ‬بقوة‭ ‬على‭ ‬خصوصية‭ ‬الصوت‭ ‬الشعرى‭ ‬للشهاوي،‭ ‬وأنه‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬أحوال‭ ‬شعرية‭ ‬تتسم‭ ‬بالكثافة‭ ‬والثقل،‭ ‬وتبتعد‭ ‬تماما‭ ‬عن‭ ‬الافتعال،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بالتشعير‭ ‬الاضطراري،‭ ‬بل‭ ‬نجد‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬أحوال‭ ‬شعرية‭ ‬تتدفق‭ ‬فى‭ ‬سلاسة‭ ‬وعذوبة‭ ‬نادرة،‭ ‬كأنها‭ ‬تجبر‭ ‬صاحبها‭ ‬على‭ ‬البوح‭ ‬بها،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬يقول‭ ‬نفسه‭ ‬عبره،‭ ‬وما‭ ‬الشاعر‭ ‬إلا‭ ‬ذات‭ ‬مضطرة‭ ‬؛‭ ‬لأن‭ ‬تفيض‭ ‬بما‭ ‬يعتمل‭ ‬بداخلها،‭ ‬وتتمثله‭ ‬الذهنية‭ ‬الشاعرة‭ ‬والروح‭ ‬لديه‭ ‬وفق‭ ‬جسد‭ ‬شعرى‭ ‬خاص‭ ‬فى‭ ‬لغته‭ ‬وصوره‭ ‬وتمثلاته‭ ‬الجمالية،‭ ‬وبخاصة‭ ‬ما‭ ‬يرتبط‭ ‬بالأسطورة‭ ‬أو‭ ‬السرد‭ ‬أو‭ ‬حالات‭ ‬العشق‭ ‬وتجلياته‭ ‬أو‭ ‬أحوال‭ ‬التلاشى‭ ‬والعدمية‭ ‬أحيانا،‭ ‬فكأن‭ ‬الشاعر‭ ‬عبر‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬إنما‭ ‬يرتقى‭ ‬بروحه‭ ‬نحو‭ ‬البناء‭ ‬الشعرى‭ ‬ويصعد‭ ‬فيه‭ ‬تدريجيا‭ ‬مدفوعا‭ ‬بقوة‭ ‬هذه‭ ‬الحالات‭ ‬التى‭ ‬تعيشها‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭. ‬

النمل‭ ‬والملك‭ ‬سليمان

أشجار‭ ‬دم‭ ‬الأخوين

والعشقُ‭ ‬مثل‭ ‬الماءِ‭ ‬

إنْ‭ ‬شابتْهُ‭ ‬شائبةٌ‭ ‬خبا‭ ‬

واختار‭ ‬أن‭ ‬يمشى‭ ‬بعيدًا‭ ‬فى‭ ‬طريقٍ‭ ‬من‭ ‬سرابْ‭.‬

تتجلى‭ ‬حال‭ ‬خاصة‭ ‬من‭ ‬السقوط‭ ‬المثير‭ ‬للشجن‭ ‬والحزن،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يحاول‭ ‬النص‭ ‬الشعرى‭ ‬أن‭ ‬يصطنع‭ ‬منه‭ ‬حالا‭ ‬شعرية،‭ ‬لها‭ ‬قدرة‭ ‬كبيرة‭ ‬على‭ ‬إثارة‭ ‬مشاعر‭ ‬المتلقي،‭ ‬وجعله‭ ‬منحازا‭ ‬لهذه‭ ‬الذات‭ ‬المعذبة‭ ‬بهذا‭ ‬السقوط‭ ‬وآثار‭ ‬الخيبة‭ ‬المضنية‭. ‬

فى‭ ‬نصوص‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬الشعرية‭ ‬نحن‭ ‬أمام‭ ‬حال‭ ‬أقرب‭ ‬لمواجهة‭ ‬الذات‭ ‬مع‭ ‬نفسها،‭ ‬أو‭ ‬المصارحة‭ ‬والمحاسبة‭ ‬النهائية‭ ‬أو‭ ‬الختامية‭ ‬فى‭ ‬وقفة‭ ‬قوية‭ ‬تجعل‭ ‬الصوت‭ ‬الشعرى‭ ‬أقرب‭ ‬لانفجارات‭ ‬غضب‭ ‬أحيانا،‭ ‬ولهذا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬ثمة‭ ‬نسقا‭ ‬من‭ ‬التبديل‭ ‬فى‭ ‬الضمير‭ ‬بين‭ ‬المتكلم‭ ‬والمخاطب،‭ ‬لنكون‭ ‬أمام‭ ‬تحول‭ ‬بين‭ ‬البوح‭ ‬والمواجهة،‭ ‬أو‭ ‬محاسبة‭ ‬النفس‭ ‬ومحاكمتها‭ ‬أو‭ ‬مراجعة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬مضى‭ ‬من‭ ‬تاريخها‭. ‬

هذا‭ ‬التنوع‭ ‬فى‭ ‬الضمير‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الجمالية،له‭ ‬أدوار‭ ‬وظيفية‭ ‬عدة،‭ ‬أهمها‭ ‬اصطناع‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬البوليفونية‭ ‬أو‭ ‬تعدد‭ ‬الأصوات‭ ‬فى‭ ‬القصيدة،‭ ‬بأن‭ ‬تضحى‭ ‬الذات‭ ‬الواحدة‭ ‬منقسة‭ ‬إلى‭ ‬ذاتين،‭ ‬إحداهما‭ ‬تتحدث،‭ ‬والأخرى‭ ‬تستمتع،‭ ‬إحداهما‭ ‬تحاسب،‭ ‬وترى،‭ ‬وتراجع،‭ ‬والأخرى‭ ‬هى‭ ‬من‭ ‬ينصب‭ ‬عليها‭ ‬هذا‭ ‬الحساب،‭ ‬وتلك‭ ‬المراجعة‭ ‬والرؤية،‭ ‬وهذا‭ ‬النسق‭ ‬يمنح‭ ‬القصيدة‭ ‬بعدا‭ ‬دراميا،‭ ‬ويشكل‭ ‬صورة‭ ‬يُحتمل‭ ‬فيها‭ ‬القسوة‭ ‬من‭ ‬الذات‭ ‬المحاسِبة،أو‭ ‬التى‭ ‬تؤدى‭ ‬دور‭ ‬المراجعة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يورث‭ ‬لدى‭ ‬المتلقى‭ ‬شعورا‭ ‬بالانحياز‭ ‬للذات‭ ‬الشاعرة‭ ‬؛‭ ‬لأنها‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬إنما‭ ‬تقسو‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬وفق‭ ‬هذه‭ ‬التركيبة‭ ‬الشعرية،‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬وفق‭ ‬هذه‭ ‬الحال‭ ‬الشعرية‭ ‬التى‭ ‬تجد‭ ‬نفسها‭ ‬مضطرة‭ ‬إليها‭.‬

‭>>>‬

وليس‭ ‬تعدد‭ ‬الذوات‭ ‬الفاعلة‭ ‬فى‭ ‬القصيدة‭ ‬مقصورا‭ ‬على‭ ‬اصطناع‭ ‬تلك‭ ‬الحال‭ ‬من‭ ‬المراوحة‭ ‬بين‭ ‬الضمائر،‭ ‬أو‭ ‬التحول‭ ‬إلى‭ ‬مخاطبة‭ ‬الذات،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬تنشأ‭ ‬التعددية‭ ‬من‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬فواعل‭ ‬غامضة‭ ‬حاضرة‭ ‬فى‭ ‬النص‭ ‬بأثرها‭ ‬السلبي،‭ ‬كأنها‭ ‬وراء‭ ‬هذا‭ ‬السقوط،‭ ‬أو‭ ‬فاعلة‭ ‬فى‭ ‬إحداث‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الخيبة‭ ‬التى‭ ‬تعانيها‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة،‭ ‬ومثال‭ ‬هذا‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬السؤال‭ ‬ما‭ ‬نجده‭ ‬متحققا‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬حين‭ ‬يقول‭:‬

من‭ ‬ذا‭ ‬الذى‭ ‬سيَّبَ‭ ‬الخيلَ‭ ‬لتعدُو‭ ‬

‭  ‬والفَراشَ‭ ‬ليومضَ‭ ‬فى‭ ‬سمائى‭ ‬

‭  ‬والنحلَ‭ ‬ليطنَّ‭ ‬داخلي

‭  ‬والأفاعى‭ ‬لتفحَّ‭ ‬سُمُومَها‭ ‬فى‭ ‬لساني

‭ ‬والصُّقُورَ‭ ‬أتتْ‭ ‬من‭ ‬عالمٍ‭ ‬قديمٍ‭ ‬لتقنصَنِى‭ ‬فى‭ ‬المنام‭ ‬

‭  ‬والأفيالَ‭ ‬لتدُوسَنِى‭ ‬فى‭ ‬الحُلم

فى‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬الشعرية‭ ‬المتفجرة‭ ‬فى‭ ‬الأصل‭ ‬عن‭ ‬السؤال،‭ ‬نلمح‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬فاعلا‭ ‬خفيا‭ ‬وراء‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأفعال‭ ‬المعطوفة‭ ‬على‭ ‬بعضها،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الفاعل‭ ‬مجهول،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬فى‭ ‬الحيرة‭ ‬والألم،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬القدر‭ ‬أو‭ ‬الزمن،‭ ‬أو‭ ‬شىء‭ ‬ما‭ ‬غامض‭ ‬هو‭ ‬السبب،‭ ‬كأن‭ ‬يكون‭ ‬حدثا‭ ‬مهملا‭ ‬أو‭ ‬منسيا،أو‭ ‬تتعمد‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭ ‬الهرب‭ ‬منه‭ ‬أو‭ ‬تجاهله،‭ ‬أو‭ ‬تتجنبه‭ ‬برغم‭ ‬كونها‭ ‬فى‭ ‬الظاهر‭ ‬تسأل‭ ‬عنه‭ ‬أو‭ ‬تفتش‭ ‬عنه‭ ‬عبر‭ ‬السؤال،‭ ‬فتلك‭ ‬هى‭ ‬إحدى‭ ‬حيل‭ ‬الذات‭ ‬لمجرد‭ ‬البوح،‭ ‬أو‭ ‬هى‭ ‬الحيل‭ ‬الشعرية‭ ‬بالأساس،‭ ‬وليست‭ ‬حيلا‭ ‬حياتية‭ ‬أو‭ ‬حقيقية،‭ ‬بل‭ ‬هى‭ ‬حقيقة‭ ‬من‭ ‬حقائق‭ ‬عالم‭ ‬الشعر‭ ‬فقط‭.‬

‭ ‬حتى‭ ‬فى‭ ‬الصور‭ ‬التى‭ ‬يكون‭ ‬فيها‭ ‬الفاعل‭ ‬واضحا‭ ‬مثل‭ ‬النحل‭ ‬الذى‭ ‬يطن،‭ ‬والأفاعى‭ ‬التى‭ ‬تفح‭ ‬سمومها‭ ‬أو‭ ‬القصور‭ ‬التى‭ ‬تقنصه‭ ‬فى‭ ‬المنام‭ ‬أو‭ ‬الأفيال‭ ‬التى‭ ‬تدوسه‭ ‬فى‭ ‬الحلم،‭ ‬هى‭ ‬بالأساس‭ ‬مرسلة‭ ‬أو‭ ‬وراءها‭ ‬قوة‭ ‬أخرى‭ ‬أكبر‭ ‬منها،‭ ‬فما‭ ‬هى‭ ‬إلا‭ ‬جنود‭ ‬ذلك‭ ‬الفاعل‭ ‬الخفي،‭ ‬أو‭ ‬ذلك‭ ‬الحدث‭ ‬الأبعد‭ ‬والأعمق‭ ‬والأكثر‭ ‬غموضا،‭ ‬القابع‭ ‬فى‭ ‬أعماق‭ ‬اللاوعى‭ ‬الشعرى‭. ‬

وهذا‭ ‬الغموض‭ ‬يجعل‭ ‬النص‭ ‬الشعرى‭ ‬أمامه‭ ‬مساحات‭ ‬مهولة‭ ‬من‭ ‬الخفى‭ ‬الذى‭ ‬يحاول‭ ‬مقاربته‭ ‬ويبدو‭ ‬القول‭ ‬الشعرى‭ ‬متمركزا‭ ‬بإزاء‭ ‬خفايا‭ ‬وخبايا‭ ‬كثيرة،‭ ‬يحاول‭ ‬اقتناصها‭ ‬وهذا‭ ‬فى‭ ‬ذاته‭ ‬يمثل‭ ‬زادا‭ ‬له‭ ‬أو‭ ‬يجعله‭ ‬أكثر‭ ‬تشويقا‭ ‬وتحققا‭.‬

‭ ‬فهذه‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭ ‬التى‭ ‬تقول‭ ‬أو‭ ‬تبوح‭ ‬بأوجاعها‭ ‬مازال‭ ‬لديها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬غامض،‭ ‬وترجو‭ ‬العثور‭ ‬عليه،أو‭ ‬ترجو‭ ‬أن‭ ‬يعينها‭ ‬القول‭ ‬الشعرى‭ ‬أو‭ ‬الشعر‭ ‬وحال‭ ‬البوح‭ ‬على‭ ‬كشفها،‭ ‬وهنا‭ ‬يكتسب‭ ‬الصوت‭ ‬الشعرى‭ ‬طاقة‭ ‬ملحمية‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬أو‭ ‬التنقيب‭ ‬عن‭ ‬الخفى‭ ‬لديه‭ ‬أو‭ ‬فى‭ ‬أعماقه‭ ‬وأحيانا‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬البحث‭ ‬فى‭ ‬تاريخ‭ ‬الشخصية‭ ‬أو‭ ‬مسيرتها،‭ ‬لأن‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬الشعرية‭ ‬المكثفة‭ ‬إنما‭ ‬هى‭ ‬اختزال‭ ‬لتاريخ‭ ‬كامل‭ ‬وحياة‭ ‬حافلة‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬وثرية‭ ‬بالتحولات‭.‬

على‭ ‬أننا‭ ‬لن‭ ‬نكون‭ ‬فى‭ ‬كامل‭ ‬الوعى‭ ‬النقدى‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬أهملنا‭ ‬الناتج‭ ‬الجمالى‭ ‬المتحقق‭ ‬عن‭ ‬حضور‭ ‬هذه‭ ‬الوحوش‭ ‬الغامضة‭ ‬والظاهرة‭ ‬فى‭ ‬فضاء‭ ‬حياة‭ ‬الشاعر‭ ‬بمسحاتها‭ ‬المختلفة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الصحو‭ ‬والنوم،‭ ‬بين‭ ‬اليقظة‭ ‬والحلم،‭ ‬فلدينا‭ ‬النحل،‭ ‬والأفاعي،‭ ‬والصقور‭ ‬والأفيال،‭ ‬وكلها‭ ‬لها‭ ‬وجه‭ ‬من‭ ‬وجوه‭ ‬الشراسة،‭ ‬يتحقق‭ ‬هذا‭ ‬فى‭ ‬مساحة‭ ‬شعرية‭ ‬صغيرة‭ ‬وفى‭ ‬صورة‭ ‬شعرية‭ ‬مكثفة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعلنا‭ ‬فى‭ ‬المجمل‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أننا‭ ‬أمام‭ ‬ذاتٍ‭ ‬تتعاورها‭ ‬وتتصارع‭ ‬عليها‭ ‬كل‭ ‬طاقات‭ ‬القوة‭ ‬والعنف‭ ‬والشر‭ ‬التى‭ ‬فى‭ ‬الكون،‭ ‬فتخلق‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭ ‬حدودا‭ ‬لعالم‭ ‬درامى‭ ‬يصبح‭ ‬فيه‭ ‬الشاعر‭ ‬بطلا‭ ‬يتحتم‭ ‬عليه‭ ‬مواجهة‭ ‬هذه‭ ‬القوى‭ ‬ويحتمل‭ ‬الانتصار‭ ‬أو‭ ‬الانهزام،‭ ‬وهو‭ ‬فى‭ ‬الغالب‭ ‬ما‭ ‬تصمت‭ ‬عنه‭ ‬نهايات‭ ‬القصائد،‭ ‬فنكون‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬نص‭ ‬شعرى‭ ‬جديد‭ ‬متشوقين‭ ‬لحسم‭ ‬هذا‭ ‬المصير‭.‬

‭>>>‬

وهكذا‭ ‬فإننا‭ ‬نجد‭ ‬النصوص‭ ‬مترابطة‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬برباط‭ ‬الشعور،‭ ‬وبأنساق‭ ‬كثيرة‭ ‬ممتدة‭ ‬منها‭ ‬هذا‭ ‬الغامض‭ ‬المجهول،‭ ‬الذى‭ ‬يرغب‭ ‬دائما‭ ‬فى‭ ‬معرفة‭ ‬ولو‭ ‬اسمه،‭ ‬فقال‭ ‬فى‭ ‬قصيدة‭ ‬أخرى‭:‬

آهٍ‭ ‬لو‭ ‬قُلتَ‭ ‬لى‭ ‬ما‭ ‬اسمُه‭ ‬؟

ومن‭ ‬أينَ‭ ‬جاء‭ ‬؟

لكنتُ‭ ‬دفعتُ‭ ‬عنكَ‭ ‬الأذى‭ ‬

‭ ‬زرعتُ‭ ‬أمام‭ ‬البيتِ‭ ‬شجرةً‭ ‬

‭ ‬لا‭ ‬تطرحُ‭ ‬سوى‭ ‬التُوتِ‭ ‬والذَّهب‭ .‬

فيكون‭ ‬دفاعه‭ ‬عن‭ ‬ابنه‭ ‬الذى‭ ‬هو‭ ‬ذات‭ ‬ظل‭ ‬وامتداد‭ ‬لذاته‭ ‬مرت‭ ‬هنا‭ ‬بأن‭ ‬يعرف‭ ‬اسم‭ ‬هذا‭ ‬الفاعل‭ ‬الغامض‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬جاء‭ ‬ومتوقفا‭ ‬عليه،‭ ‬وكأنه‭ ‬وحش‭ ‬يتربص‭ ‬بهما‭. ‬

والأمر‭ ‬كذلك‭ ‬بالنسبة‭ ‬لزراعة‭ ‬شجرة‭ ‬لا‭ ‬تطرح‭ ‬سوى‭ ‬التوت‭ ‬والذهب‭ ‬أمام‭ ‬البيت،‭ ‬ليجتمع‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الشجرة‭ ‬الأسطورية‭ ‬الغرائبية‭ ‬إنتاج‭ ‬الطعام‭ ‬والمال،‭ ‬فهى‭ ‬رمز‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يحتاجه‭ ‬الإنسان‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬رخية،‭ ‬رمز‭ ‬لمستقبل‭ ‬هانئ‭ ‬تظلله‭ ‬الرفاهية‭ ‬والسعادة‭. ‬

وهكذا‭ ‬نلمس‭ ‬أن‭ ‬النص‭ ‬الشعرى‭ ‬دائما‭ ‬قادر‭ ‬وفق‭ ‬سيرورة‭ ‬تخييلية‭ ‬خاصة‭ ‬على‭ ‬تمديد‭ ‬الصورة،‭ ‬وجعلها‭ ‬عالما‭ ‬كاملا‭ ‬عبر‭ ‬ما‭ ‬تكتنز‭ ‬من‭ ‬دلالات‭ ‬وترميزات‭ ‬غير‭ ‬مباشرة‭ ‬تستمدها‭ ‬من‭ ‬علاقتها‭ ‬ببقية‭ ‬العناصر‭ ‬الشعرية‭ ‬فى‭ ‬النص‭.‬

وظلال‭ ‬هذا‭ ‬الفاعل‭ ‬المجهول‭ ‬حاضرة‭ ‬باستمرار،‭ ‬وعبر‭ ‬تنويعات‭ ‬عديدة،‭ ‬هذه‭ ‬التنويعات‭ ‬بذاتها‭ ‬كاشفة‭ ‬عن‭ ‬قدرات‭ ‬شعرية‭ ‬كبيرة‭ ‬تجعل‭ ‬المعنى‭ ‬الواحد‭ ‬يتمثل‭ ‬فى‭ ‬حالات‭ ‬عديدة،‭ ‬وهى‭ ‬كذلك‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الشحنات‭ ‬الشعورية‭ ‬والعاطفية‭ ‬الضاغطة‭ ‬لإنتاج‭ ‬القول‭ ‬الشعرى‭ ‬هى‭ ‬من‭ ‬الثقل‭ ‬والقوة‭ ‬بما‭ ‬يجعل‭ ‬انعكاسه‭ ‬الشعرى‭ ‬ممتدا‭ ‬بهذه‭ ‬الكيفية،‭ ‬يقول‭ ‬فى‭ ‬موضع‭ ‬آخر‭: ‬

ومُنذئذٍ‭ ‬تحاولُ‭ ‬شتلَ‭ ‬كُرُومٍ‭ ‬جديدة‭ ‬

فى‭ ‬أراضٍ‭ ‬لا‭ ‬تعرفُ‭ ‬من‭ ‬سَرَقَها‭ ‬منكَ‭ ‬ليلا‭ ‬

وأنا‭ ‬بعيدٌ‭.‬

فالنص‭ ‬الشعرى‭ ‬عبر‭ ‬طريقته‭ ‬الترميزية‭ ‬فى‭ ‬إنتاج‭ ‬المعانى‭ ‬والصور‭ ‬الشعرية‭ ‬عبر‭ ‬عن‭ ‬الأمنيات‭ ‬الضائعة‭ ‬ومصادر‭ ‬الخوف‭ ‬على‭ ‬الابن‭/ ‬الذات‭ ‬الظل‭ ‬الذى‭ ‬لم‭ ‬يأخذ‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬ويرجو‭ ‬له،‭ ‬وعبر‭ ‬عنها‭ ‬بنبيذ‭ ‬العمر‭ ‬وزجاجاته‭ ‬المتتابعة‭ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬ينه‭ ‬منها‭ ‬سوى‭ ‬واحدة،‭ ‬وهكذا‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬زرع‭ ‬شتل‭ ‬كروم‭ ‬جديدة،‭ ‬وهكذا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬فعل‭ ‬الزرع‭ ‬يأتى‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬معناه‭ ‬المعجمى‭ ‬بكثير،‭ ‬فهو‭ ‬سبيل‭ ‬دفاعية‭ ‬ومواجهة‭ ‬أمام‭ ‬ذلك‭ ‬الفاعل‭ ‬الغامض‭ ‬الذى‭ ‬يتموضع‭ ‬بوصفه‭ ‬ذاتا‭ ‬عدائية‭ ‬بشكل‭ ‬ممتد‭.‬

تعد‭ ‬الحال‭ ‬الشعرية‭ ‬التالية‭ ‬حالا‭ ‬مركزية‭ ‬ومهمة‭ ‬وكاشفة‭ ‬فى‭ ‬مسار‭ ‬القراءة‭ ‬التأويلية‭ ‬لنصوص‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة،‭ ‬ذلك‭ ‬لأنها‭ ‬تعد‭ ‬نموذجا‭ ‬بلاغيا‭ ‬فى‭ ‬تجسيد‭ ‬السقوط‭ ‬والفشل‭ ‬الذى‭ ‬تشعره‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭ ‬وتعيشه،‭ ‬وذلك‭ ‬حين‭ ‬يقول‭:‬

لكنَّ‭ ‬اليومَ‭ ‬الأسوأَ‭ ‬

يوم‭ ‬سقطتُ‭ ‬واهنًا

لا‭ ‬جيبَ‭ ‬لى‭ ‬

لا‭ ‬سريرَ‭ ‬

لا‭ ‬طريقَ‭ ‬يدلُّنِى‭ ‬علىَّ

لا‭ ‬امرأة‭ ‬فى‭ ‬رأسى‭ ‬أشتهيها‭ ‬

ولا‭ ‬غُرباءَ‭ ‬مثلى‭ ‬يهتِفُونَ‭ ‬للفَشَل

هنا‭ ‬فى‭ ‬تكثيف‭ ‬وسرعة‭ ‬وبعيدا‭ ‬عن‭ ‬الانزلاق‭ ‬إلى‭ ‬الميلودراما‭ ‬ولغة‭ ‬الاستجداء‭ ‬الرخيص،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭ ‬جمعت‭ ‬الأبعاد‭ ‬كافة‭ ‬التى‭ ‬مثلت‭ ‬فشلها‭ ‬أو‭ ‬سقوطها،‭ ‬لا‭ ‬جيب‭ ‬لي،‭ ‬وهى‭ ‬صورة‭ ‬تملك‭ ‬قدرة‭ ‬كبيرة‭ ‬التلميح‭ ‬وتملك‭ ‬انفتاحا‭ ‬وثراء‭ ‬تأويليا‭ ‬هو‭ ‬بالأساس‭ ‬نابع‭ ‬من‭ ‬التوظيف‭ ‬الشعري،‭ ‬فكلمة‭ ‬جيب‭ ‬هنا‭ ‬دالة‭ ‬على‭ ‬التجرد‭ ‬من‭ ‬المال‭ ‬نقدا‭ ‬أو‭ ‬عيبا،‭ ‬فغياب‭ ‬المفردة‭ ‬الدالة‭ ‬على‭ ‬الاكتناز،أو‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬دالة‭ ‬على‭ ‬غياب‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬المال،‭ ‬وليس‭ ‬دالة‭ ‬على‭ ‬النقدى‭ ‬فقط،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الغياب،ربما‭ ‬يكون‭ ‬لزهد‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬خاص،‭ ‬أو‭ ‬غياب‭ ‬الرغبة‭ ‬فيه،‭ ‬وغياب‭ ‬الأمل‭. ‬

أما‭ ‬ولا‭ ‬سرير،‭ ‬فهى‭ ‬دالة‭ ‬على‭ ‬السكن‭ ‬والبيت‭ ‬والشريك‭ ‬ولو‭ ‬بغير‭ ‬حب‭. ‬

ولا‭ ‬طريق‭ ‬يدلنى‭ ‬إليَّ،‭ ‬تجعل‭ ‬المقولات‭ ‬والجمل‭ ‬الشعرية‭ ‬السابقة‭ ‬أكثر‭ ‬منطقية‭ ‬واتصالا‭ ‬ببعضها‭ ‬أو‭ ‬ذات‭ ‬تراتب‭ ‬دلالى‭ ‬ظاهر،‭ ‬لأن‭ ‬التيه‭ ‬أو‭ ‬الضياع‭ ‬الكامل‭ ‬عن‭ ‬ذاته‭ ‬يجعله‭ ‬بلا‭ ‬جيب‭ ‬أو‭ ‬سرير،‭ ‬وتمثل‭ ‬الجملة‭ ‬الشعرية‭ ‬بغياب‭ ‬المرأة‭ ‬التى‭ ‬يشتهيها‭ ‬هى‭ ‬قمة‭ ‬المعاناة،‭ ‬فغياب‭ ‬العشق‭ ‬أو‭ ‬انطفائه‭ ‬هو‭ ‬غياب‭ ‬للقلب‭ ‬وربما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬ذروة‭ ‬العدمية‭ ‬كأننا‭ ‬أمام‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الموات‭ ‬لديه‭ ‬وهو‭ ‬حيِّ‭.‬

وهكذا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الخسارة‭ ‬تتجلى‭ ‬فى‭ ‬نصوص‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬الشعرية‭ ‬عبر‭ ‬تنويعات‭ ‬عديدة،‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬ضياع‭ ‬العشق،أو‭ ‬خسارة‭ ‬الرأس،‭ ‬وضياع‭ ‬الطريق،‭ ‬يخسر‭ ‬قلبه‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬على‭ ‬العشق‭ ‬الذى‭ ‬هو‭ ‬ذاته‭ ‬وكيانه،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يفقد‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬نفسه‭ ‬وإلى‭ ‬العالم،‭ ‬ويصبح‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬غريبا‭ ‬عنه‭. ‬

‭>>>‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬عرض‭ ‬المعنى‭ ‬الواحد‭ ‬بتنويعات‭ ‬قولية‭ ‬وتصويرية‭ ‬كثيرة‭ ‬هو‭ ‬بالأساس‭ ‬كاشف‭ ‬عن‭ ‬القدرات‭ ‬الشعرية‭ ‬والتخيليية‭ ‬الكبيرة‭ ‬التى‭ ‬تجعل‭ ‬للذهنية‭ ‬الشاعرة‭ ‬طرائقها‭ ‬فى‭ ‬التعبير‭ ‬وتشقيق‭ ‬المعانى‭ ‬وتفسيخها‭ ‬لحالات‭ ‬عدة‭ ‬وتنغيمات‭ ‬ذات‭ ‬مستويات‭ ‬متفاوتة‭ ‬تكسر‭ ‬حدة‭ ‬الملل،‭ ‬برغم‭ ‬كونها‭ ‬فى‭ ‬الأساس‭ ‬إنما‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬روح‭ ‬واحدة،‭ ‬ولها‭ ‬دور‭ ‬وظيفى‭ ‬مهم‭ ‬وهو‭ ‬أنها‭ ‬تجعل‭ ‬نصوص‭ ‬المجموعة‭ ‬ذات‭ ‬ارتباط‭ ‬وتماسك‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭. ‬

ومن‭ ‬الطريف‭ ‬والمدهش‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬حالات‭ ‬الضياع‭ ‬والخسارة‭ ‬قابلا‭ ‬لأن‭ ‬ينتج‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬القدر‭ ‬من‭ ‬الجمال‭ ‬الشعرى‭ ‬عبر‭ ‬تحييز‭ ‬المتلقي،واجتذاب‭ ‬انتباهه،‭ ‬واستقطاب‭ ‬حواسه،‭ ‬ولا‭ ‬أقول‭ ‬اللعب‭ ‬على‭ ‬مشاعره،‭ ‬أو‭ ‬استجدائها؛‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬غير‭ ‬حاضر،‭ ‬فهذه‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭ ‬المزدحمة‭ ‬روحها‭ ‬بطعنات‭ ‬الخسارة‭ ‬والخيبة،‭ ‬هى‭ ‬بالأساس‭ ‬ذات‭ ‬مازالت‭ ‬بكامل‭ ‬اعتدادها‭ ‬بذاتها،وبكامل‭ ‬صرامتها‭ ‬ووقارها،‭ ‬تجد‭ ‬فى‭ ‬القول‭ ‬الشعرى‭ ‬كل‭ ‬عتادها‭ ‬وعدتها؛‭ ‬لأن‭ ‬تتحقق‭ ‬ولو‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مباشر،‭ ‬فهى‭ ‬وإن‭ ‬تشككت‭ ‬فيما‭ ‬أنتجت‭ ‬أو‭ ‬طرحت،‭ ‬وتشعر‭ ‬بخيانات‭ ‬كل‭ ‬عناصر‭ ‬الوجود‭ ‬من‭ ‬حولها‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬اللغة‭ ‬ذاتها‭ ‬تظل‭ ‬منطوية‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الإباء‭ ‬والشعور‭ ‬بالقوة،‭ ‬ربما‭ ‬هى‭ ‬بقايا‭ ‬الطفولة‭ ‬أو‭ ‬متعة‭ ‬ما‭ ‬عاشت‭ ‬من‭ ‬أحلام‭ ‬الطفولة‭ ‬ودفعاتها‭ ‬وطموحها‭.‬

الجزء‭ ‬المهم‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬الشعرية‭ ‬ويكسبها‭ ‬روافد‭ ‬جمالية‭ ‬عديدة،‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬الجزء‭ ‬المتمثل‭ ‬فى‭ ‬توظيف‭ ‬الأسطورة‭ ‬بأشكالها‭ ‬ومستوياتها‭ ‬كافة،‭ ‬وبخاصة‭ ‬الأسطورة‭ ‬الدينية‭ ‬والتراث‭ ‬الإبراهيمى‭ ‬فى‭ ‬قصة‭ ‬نوح‭ ‬وسليمان‭ ‬وداود‭ ‬وقصة‭ ‬النمل‭ ‬وأشجار‭ ‬دم‭ ‬الأخوين،‭ ‬وحوت‭ ‬يونس‭ ‬الذى‭ ‬يصبح‭ ‬حيتانا،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأساطير‭ ‬والقصص‭ ‬الدينية‭ ‬التى‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬قائمة‭ ‬بذاتها،‭ ‬أما‭ ‬ما‭ ‬يشغلنا‭ ‬هنا‭ ‬فهو‭ ‬أن‭ ‬نشير‭ ‬إلى‭ ‬جماليات‭ ‬حضور‭ ‬الأسطورة‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬الشعرية،‭ ‬أولها‭ ‬أنها‭ ‬منحتها‭ ‬طاقات‭ ‬سردية‭ ‬عظيمة،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬جعلت‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬بطل‭ ‬ملحمى‭ ‬يتجلل‭ ‬بقدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬القداسة‭ ‬والهيبة‭ ‬ربما‭ ‬هى‭ ‬النابعة‭ ‬من‭ ‬الشعرية،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬يجابه‭ ‬كونا‭ ‬كاملا‭ ‬يبدو‭ ‬متحاملا‭ ‬عليه،‭ ‬أو‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬الشاعر‭ ‬نموذجا‭ ‬للبطل‭ ‬الأسطورى‭ ‬البحار‭ ‬أو‭ ‬الرحال‭ ‬المتجول‭ ‬الذى‭ ‬يتنقل‭ ‬فى‭ ‬الأماكن‭ ‬والفضاءات‭ ‬البعيدة‭ ‬والغابات‭ ‬المأهولة‭ ‬بالقوى‭ ‬الخفية‭ ‬والشياطين‭ ‬والمردة‭ ‬والوحوش‭ ‬ليجابهها‭ ‬ويدافع‭ ‬عن‭ ‬امتداده‭ ‬وظله‭ ‬ويحاول‭ ‬استنقاذ‭ ‬أحلام‭ ‬طفولته‭ ‬وخططها‭ ‬النبيلة‭ ‬منها‭. ‬

تنفى‭ ‬الذات‭ ‬الشاعرة‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬العظمة‭ ‬أحيانا،‭ ‬وتحاول‭ ‬أن‭ ‬تثبت‭ ‬عاديتها،‭ ‬وأنها‭ ‬ليست‭ ‬كالأنبياء‭ ‬أو‭ ‬الأبطال‭ ‬الأسطوريين،‭ ‬وفى‭ ‬الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النفى‭ ‬هو‭ ‬بالأساس‭ ‬يفضى‭ ‬إلى‭ ‬الإثبات،‭ ‬لأنه‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬النفى‭ ‬الاستنكارى‭ ‬الهادف‭ ‬لإثبات‭ ‬الدهشة‭ ‬من‭ ‬كون‭ ‬الدنيا‭ ‬كلها‭ ‬تعانده،‭ ‬أو‭ ‬تختبره‭ ‬وتمتحنه‭ ‬بكامل‭ ‬قسوتها،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يحقق‭ ‬للنص‭ ‬الشعرى‭ ‬قدرا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬موضوعية‭ ‬الرصد،‭ ‬ويجعل‭ ‬المتلقى‭ ‬متعاطفا‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬الذات‭ ‬التى‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تستشعر‭ ‬فى‭ ‬نفسها‭ ‬العادية‭ ‬لكن‭ ‬المتلقى‭ ‬يراها‭ ‬جديرة‭ ‬بكل‭ ‬هذه‭ ‬الحروب‭ ‬والمتاهات‭ ‬والامتحانات‭ ‬القاسية‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬ضدها‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الكم‭ ‬من‭ ‬معاندة‭ ‬الأقدار‭ ‬أو‭ ‬القوى‭ ‬الخفية‭. ‬

تتخذ‭ ‬المفارقات‭ ‬مسارا‭ ‬تكوينيا‭ ‬خاصا،‭ ‬وتصبح‭ ‬مشكلة‭ ‬ومنتجة‭ ‬لنوع‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬الشعرية‭ ‬الجديدة‭ ‬تماما،‭ ‬هى‭ ‬صورة‭ ‬شعرية‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬الحال‭ ‬الشعرية‭ ‬الخاصة‭ ‬والمغايرة‭ ‬التى‭ ‬تصبح‭ ‬الذهنية‭ ‬الشاعرة‭ ‬خاضعة‭ ‬لها‭ ‬ومتحركة‭ ‬بسيرورة‭ ‬ضغط‭ ‬تلك‭ ‬الحال،‭ ‬فإحساس‭ ‬الخسارة‭ ‬والتهشم‭ ‬والتلاشى‭ ‬مثلا،‭ ‬يدفع‭ ‬إلى‭ ‬إنتاج‭ ‬صور‭ ‬طازجة،‭ ‬ربما‭ ‬يشعر‭ ‬القارئ‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يصادف‭ ‬مثلها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬لدى‭ ‬أى‭ ‬شاعر‭ ‬آخر،‭ ‬أو‭ ‬أى‭ ‬نص‭ ‬آخر،‭ ‬وذلك‭ ‬لأنها‭ ‬ابنة‭ ‬الحال‭ ‬الشعرية‭ ‬كما‭ ‬ذكرت،‭ ‬وهى‭ ‬صور‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬نسق‭ ‬من‭ ‬القلب‭ ‬والتضاد‭ ‬والتبديل‭ ‬التام،‭ ‬ومثلها‭ ‬أربى‭ ‬الخسارات‭ ‬وأرعى‭ ‬الخسائر،‭ ‬وأبكى‭ ‬صامتا،‭ ‬وعقلى‭ ‬جسر‭ ‬معلق،‭ ‬وصار‭ ‬الخوف‭ ‬سلطان‭ ‬حروفي،‭ ‬وأختبئ‭ ‬فى‭ ‬جيب‭ ‬قميصى‭.‬

وهذه‭ ‬الصور‭ ‬تبدو‭ ‬أحيانا‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬غرائبية‭ ‬العالم‭ ‬الشعرى‭ ‬الذى‭ ‬تقيمه‭ ‬وتنشئه‭ ‬نصوص‭ ‬أحمد‭ ‬الشهاوى‭ ‬الشعرية،‭ ‬تتحكم‭ ‬فى‭ ‬تكوينها‭ ‬أنساق‭ ‬من‭ ‬العكس‭ ‬والقلب‭ ‬والتصغير‭ ‬والتضخيم‭ ‬والتفتيت‭ ‬والمفاجأة‭ ‬وكسر‭ ‬التوقع،‭ ‬وكلها‭ ‬تقود‭ ‬نحو‭ ‬كون‭ ‬عجائبى‭ ‬أو‭ ‬يخالف‭ ‬السائد‭ ‬ويحطم‭ ‬المألوف،‭ ‬والأجمل‭ ‬فى‭ ‬تقديرنا‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬يتم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشعر‭ ‬المتلقى‭ ‬بأدنى‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬التعسف‭ ‬أو‭ ‬الإقحام‭ ‬أو‭ ‬مجرد‭ ‬الرغبة‭ ‬فى‭ ‬التغريب،‭ ‬بل‭ ‬يبدو‭ ‬ذلك‭ ‬جزءا‭ ‬طبيعيا‭ ‬ومتناسقا‭ ‬مع‭ ‬بقية‭ ‬العناصر‭ ‬الشعرية‭ ‬وجزءا‭ ‬من‭ ‬الحال‭ ‬الشعرية‭ ‬التى‭ ‬يقاربها‭ ‬النص‭ ‬وجزءا‭ ‬من‭ ‬الشعور‭ ‬الكلى‭ ‬المهيمن‭ ‬على‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬بدايته‭ ‬إلى‭ ‬آخره‭. ‬

والحقيقة‭ ‬هى‭ ‬مجموعة‭ ‬شعرية‭ ‬ثرية،‭ ‬وتحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تعدد‭ ‬فى‭ ‬زوايا‭ ‬النظر‭ ‬والتأويل،‭ ‬ومستويات‭ ‬كثيرة‭ ‬فى‭ ‬المقاربة‭ ‬لمعطياتها‭ ‬ونواتجها‭ ‬الجمالية‭ ‬والدلالية،وتحتاج‭ ‬إلى‭ ‬دراسات‭ ‬مُطوَّلة‭ ‬تملك‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬والأمثلة‭ ‬ما‭ ‬يكفى‭ ‬للتدليل‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المسارات‭ ‬والأنساق‭ ‬المذكورة،وبخاصة‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية‭ ‬وحدود‭ ‬الأسطورة‭ ‬وتوظيفاتها‭.‬

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة