بطاقة الاتحاد الاشتراكى
بطاقة الاتحاد الاشتراكى


فن جدير بلحظة لم تولد بعد

أخبار الأدب

الخميس، 31 ديسمبر 2020 - 03:24 م

محمد شعير

فى الاجتماعات التأسيسية لجماعة «الفن والحرية»، كان أنور كامل يردد دائماً: «أنا القلق الدائم».. ويرد عليه جورج حنين: «والثورة الدائمة». لم تستغرق الاجتماعات طويلا، ثلاثة أسابيع تقريبا ليعلن بعدها تأسيس جماعة «الفن والحرية» الجماعة التى تسعى إلى فن بلا سقوف، وتركت، رغم أنها كانت لحظة خاطفة، تأثيرا كبيرا فى الفن والثقافة والأدب فى مصر.
> > >
كنت قد بدأت رحلة فى تاريخ السريالية المصرية، بحثا عن ناس الظل لا النجوم المؤثرين، ولكن فى كل خطوات الرحلة لم يكن ممكناً تجاهل أسماء مثل جورج حنين أو رمسيس يونان أو كامل التلمسانى، أو أنور كامل رغم أنهم النجوم الذين كنت أتحاشى، بل لم أسع للكتابة عنهم.
كان أنور كامل (1913- 1991) حالة خاصة، هو الأكثر حضوراً فى رحلة البحث، لكنه ليس نجما كُتبت عنه الدراسات والأبحاث مثل حنين أو يونان، لكنه أيضا لم يكن مجهولاً بل هو أحد الآباء المؤسسين للحركة، ليس فقط من خلال إسهامه فى تأسيس جماعة «الفن والحرية»، أو رئاسة تحرير مجلة «التطور» التى اعتبرت بوابة لأدب وفكر جديد، أو «فن جدير بلحظة لم تولد بعد» حسب تعبير الفنان التشكيلى فؤاد كامل فى وصفه للسريالية، ولكن عبر إصداره «الكتاب المنبوذ» (1936) والذى اُعتبر وقتها بمثابة تعبير عن الطليعة المصرية أو الكتاب الذى يحمل سرا حسب وصف توفيق الحكيم. كان الكتاب المنبوذ سريالياً قبل أن يتحدث أحد فى مصر عن السريالية، ربما باستثناء محاولة جورج حنين «التذكير بالقذارة» (1934).
> > >
كانت السريالية كحركة عالمية تسعى إلى تحرير الفكر، والنضال ضد الأفكار والقيم الموروثة، وكان سلاحها لذلك اللجوء إلى الأحلام واللاوعى.. وشعارها تغيير الحياة. ورغم أن السريالية كانت بمثابة حركة احتجاج ضد وحشية الحرب العالمية، إلا أن السريالية المصرية لم تكن نتاج حرب، حتى وإن بدت كذلك، إذ كانت حسب لويس عوض ردا فنيا على معاهدة 1936 التى أدت إلى انفصال السلطة عن الشعب الذى رأى بعد المعاهدة الجمود فى كل شىء، وأن نضاله وكفاحه من أجل التحرر قد تم إحباطهما، فكان لابد من التحديث، وثورة فى الفكر والفن والحياة تعبر عن الروح المصرية. كانت سريالية أنور كامل ابنه للواقع المصرى، حسب تعبيره فى حوار صحفى مع: «السريالية كانت رفضا لبشاعة الحرب، ولكن البشاعة موجودة فى العالم كله بصور مختلفة، البشاعة متعددة الأوجه، إنها ليست فقط بشاعة الحرب، ولكن بشاعة الفقر والمرض والجهل، لم تكن السريالية المصرية حركة منقولة، إذ أن السرياليين المصريين كانوا سرياليين قبل أن يدرسوا السريالية كمدرسة». ولكن من هو أنور كامل الذى وصفه لويس عوض بأنه مسيح لم يُصلب بعد.
> > >
إلى أمشاط من ماس مكسور
وطفل صغير يصرخ فى هلع
من نعال ظالمة تسقط فوق جسم لا يحتمل
فتعلم حرفا فى معنى العدل
إلى طريق ببنى سويف
وطفل يخوض المستنقع فزعا حتى الركب
من وجوه حمر ورصاص منطلق
فتعلم حرفا فى معنى الوطن
إلى الدكتور حسين همت
وطفل تتردد فى وجدانه أصداء من المنفى
والدم المسفوك لم يرحم شعبا ولا وطنا
فتعلم حرفا فى أن العالم للإنسان هو الوطن الأكبر

كتب أنور كامل هذه الأبيات عام 1986، وتمنى أن يتمكن من إنجاز كتاب جديد حتى يضعها كإهداء، ولكنه لم يكتب كتابه المأمول، بل وضعها فى أول أعداد الفسائل. القصيدة القصيرة هى تعبير عن رحلة أنور كامل بحثا عن العدل والحرية. رحلة بدأت منذ الطفولة. يحكى أنور كامل تفسيرا لهذه الأبيات أنه كان كان فى السادسة، عائدا من مدرسته، كان وقتها مع والده مقيما فى بنى سويف، فوجد طريق العودة مسدوداً بالثائرين، وأصوات الرصاص المنطلق عليهم تثير الرعب. اضطر أن يسير فى طريق آخر، ليجد بركة ماء، ولكن أصوات الرصاص لا تزال تثير رعبه، يضطر أن يخوض فى المياه حتى تصل تصل ركبتيه.. لم يفارق خياله هذا المشهد، الذى تعلم من خلاله ماذا يعنى الوطن والعدل. أما حسين همت خاله فهو صاحب التأثير الأكبر عليه، كان طبيبا، وثائرا، ترك مصر متنقلا بين تركيا والنمسا وألمانيا هروباً من الاعتقال فى رحلة اعتبرها رحلة منفى ذاتى استمرت سبع سنوات، وكانت جدته تحكى عنه كثيراً، فتشكلت فى ذهنه صورة الثائر المناضل. وعندما عاد من رحلة المنفى كان يجمع أطفال العائلة ليحكى لهم عن أحداث الحركة الوطنية فى مصر. هكذا وعى طفل السادسة معنى الوطنية، ولكنه عندما انتقل إلى القاهرة مع والده ليسكن فيلا فى الهرم بدأ إدراكه لما يعنيه الوعى الاجتماعى.
كانت فيلا التى يسكنها تطل على حديقة صغيرة، بها تكعيبة عنب، كان يدرس له أحد المدرسين اللغة العربية، فى أحد الأيام، استأذن من أستاذه لدخول دورة المياه، وعندما عاد كان الأستاذ يخبئ عنقود عنب أسفل ملابسه. كان سؤال الطفل: لمذا يفعل ذلك؟ ربما لا يجد نقوداً ليشترى لأولاده.. ربما.. وربما وهكذا بدأ بشكل فطرى السؤال الاجتماعى لدى أنور كامل.
> > >
ارتبطت بداية الصبا عند أنور كامل بكتابات برتراند راسل، توفيق الحكيم، كانا الملهمين له فى فترة فوران، ورغبة لتغيير العالم، قادته «عودة الروح» باتجاه الأفكار الاشتراكية (كما قال)، وقاده أحمد كامل مرسى (شيخ المخرجين) إلى الفن والأدب. وبعد صدور الكتاب المنبوذ تكونت جماعة المنبوذين التى ضمت كامل التلمسانى وآخرين. فى الوقت ذاته كان رمسيس يونان يقود مع يوسف العفيفى جماعة الدعاية الفنية وجورج حنين جماعة المحاولين، من الروافد الثلاثة تشكلت جماعة الفن والحرية، لم يستغرق النقاش حول الدمج سوى ثلاثة أسابيع وهو ما فسره المترجم الراحل بشير السباعى بأن «سهولة الالتقاء الذى حدث تكمن فى توافر درجة عالية من تقارب تلك الروافد فى فهم دور الانتلجنسيا الإبداعية الثورية فى تلك الحقبة الرجعية، أدرك ممثلو تلك الروافد أن معطيات حقبة الرجعية تدمر شروط الإبداع الثقافى، ولذا فإن دور الانتلجنسيا الإبداعية الثورية يتمثل فى نبذ موقف اللامبالاة تجاة معطيات الحقبة المذكورة». نتج عن هذا التجمع العديد من البيانات التى تدافع عن حرية الرأى والتعبير وحرية الإبداع، كما سعت مجلة التطور إلى التعبير عن الحركة الجديدة. ولكن الوضع لم يستمر طويلا إذ أن أنور كامل آثر الابتعاد من أجل تأسيس «الخبز والحرية».. والتى اختار اسمها فتحى الرملى، وكانت التسمية مشتقة من الأدب الاشتراكى الفرنسى الخبز والسلم والحرية، فتم اختصار الاسم الى الخبز والحرية.
 بعد إغلاق مجلة التطور، بدأت رحلة أنور كامل فى التنقل بين المعتقلات وسجون مصر، مرات بتهمة الكتابة، مرات أخرى بتهمة الانضمام إلى تنظيمات يسارية، حتى كانت حملة صدقى باشا عام 1946.. والتى قرر بعدها كامل أن يتوقف، وينتقل للعيش فى أسوان. قدم نصائحه لمن عرف من ثوار يوليو أملا فى أن تتحقق أحلامه، وانزوى نهائيا مؤثراً الصمت الذى عبر عنه نجيب محفوظ فى روايته «ثرثرة فوق النيل»، إذ لم يكن مفضلا أن يتحدث المثقفون.
وصف فؤاد كامل شقيقه أنور بأنه مثل «قطعة الفلين، إذا سقطت فى البحر غطست تحت الموج، ولكنها سرعان ما تطفو إلى السطح». وهكذا أطل أنور كامل بأناقته فى أواخر الثمانينيات، موزعا فسائله ومحبته على الجميع. هنا، فى هذا الملف بعض تفاصيل الرحلة، وبعض من حكاياتها.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة