للفنان فريد فاضل
للفنان فريد فاضل


غضب.. وجَلَد.. وأمل

العقد الثانى من الألفية الثانية

أخبار الأدب

الإثنين، 25 يناير 2021 - 01:18 م

 

 د. أحمد زايد

لا سبيل إلى فهم عميق للعقد الثانى من الألفية دون أن ننظر فيما قبله. صحيح أنه عقد ملئ بالأحداث والانكسارات والانتصارات؛ ولكنه يظل يشكل امتداداً زمنياً لما قبله. لقد كانت الأحداث فى هذا العقد عديدة ومعقدة على نحو كبير؛ جعلت الناظر فى طبيعة الاجتماع الإنسانى لا يستطيع أن يلم بكل التفاصيل وهو فى عجالة من أمره. ولذلك فليس أمامه من طريق إلا أن يلتقط موضوعات عامة يستطيع أن يلتف حولها الحديث دون الغوص فى التفاصيل، ودون الوقوع فى مشكلات سوء الفهم. وفى هذا السياق سوف أحاول أن أتخذ ثلاثة موضوعات لكى أنسج حولها حديثى عن هذا العقد الهام فى تاريخنا المعاصر. والمتأمل لهذه الموضوعات قد يجد أن ثمة إمكانية لوضعها فى سياق تاريخى متتابع بحيث يمكن أن نقول أن الحقبة بدأت بالغضب، الذى صار إلى صبر وجلد، وانتهت إلى بصيص من الأمل يبرق فى الأفق وتتعلق به العقول والإفادة.
نعم، لقد كان الغضب يتربع فى أركان المجتمع وزواياه مع نهاية العقد الأول من الألفية الثانية. ولن أذهب فى تبرير ذلك إلى كثرة الاحتياجات أو صور النقد السياسى والاجتماعي، ولكنى سوف أذهب إلى نتائج بحوث أجريت فى نهاية العقد أكدت أن هناك شعوراً عميقاً لدى الناس بعدم العدالة، وأن معدلات الثقة تنخفض إلى أدنى حدودها، وأن هناك جماعات كبيرة من الشباب تسد أمامها فرص الحراك الاجتماعى أو حتى فرص الاستقرار فى الحياة عبر عمل منتظم أو أسرة مستقرة، وأن المجتمع ينقسم بوضوح إلى فئات آكلة وفئات ناظرة، مع جرأة كبيرة على الفساد والاستحواذ على المكاسب والفرص من جانب الفئات الآكلة. ولقد حدث كل هذا على أصداء تحولات كبيرة فى بنية الطبقة الوسطى التى تفككت من الداخل فصعد فيها من استطاع إلى أعلى، وهبط الجزء الأكبر منها إلى أسفل ليدخل فى نطاق الجماعات المحرومة، وظل جزء منها فى المنتصف يعول على ممارسة المهنة صابرا منتظرا أو منجرفًا إلى أمور حياته الشخصية والأسرية ضارباً عرض الحائط بكل ما هو عام.
وإذا ما اكتفينا بهذا الرصد نستطيع أن نطرح السؤال: ماذا عسى أن تولد مثل هذه البنية الاجتماعية المكبوحة من الخارج القابلة للتفكيك والحرمان من الداخل؟ والإجابة حاضرة، إنها لا تولد إلا الغضب. لقد تربع الغضب فى أنحاء البنية الاجتماعية، مولدا قدرا كبيرًا من عدم الرضا والحنق والامتعاض، بل ومولداً قدراً كبيراً، مما أطلقنا عليه فى سياق سابق، العنف المخزون؛ ذلك النوع من العنف الذى يقبع داخل الذات ويخرج عندما يخبو العدل وتنداح فى الحياة صور من التهميش والابتعاد والاستعلاء والسعى تحو التراكمات المادية على حساب الآخرين. وقد استدعى هنا الفلسفة الأفلاطونية التى علمتنا أن قوة الغضب فى النفس البشرية هى القوة التى تحرس وتحمي، فهى المولدة لفضيلة الشجاعة التى تعمل على درء الظلم والدفاع عن الفضيلة الأولى (العدل الذى يمثل نقطة الوسط المعبرة عن رجحان العقل وحكمته).
لقد كان الخروج الغاضب فى بداية العام الثانى من العقد الثانى من الألفية الثانية هو خير تعبير عن هذه الحالة من ميل ميزان العدل. ولقد كان الغضب عاماً وغير منظم، فتم ضربه من ناحية، ثم سرقته وتوجيه من ناحية أخرى. ولذلك فما لبث أن تحول إلى جلّد (صبر وتحمل وانتظار). كان من أهم مظاهر هذا الجلد تحمل الشعب الانكسارات الاقتصادية التى ترتبت على الأحداث حيث صدق الناس أن «الثورات» لا تأتى بثمار خيرة فى كثير من الأحيان، وأن عليهم أن يتحملوا النتائج الخطيرة التى صاحبت الصراعات ومحاولات التغلب والاستيلاء، وأن يدفعوا الكثير من قوت يومهم ومن صبرهم على تدهور الخدمات. وامتد الجلد على تحمل الأعباء الاقتصادية إلى الجلد على تحمل الأعباء النفسية المرتبطة بفقدان الأمن وعدم انتظام الحياة والغموض الشديد الذى يتشكل فى أفق الحياة. وارتبط الجلد الأكبر بتحمل عبء الوصاية الذى فرضته جماعة غاشمة استخدمت الدين والمشاعر الفطرية للناس للاستيلاء على الحكم. ولا سبيل هنا إلى بحث تفاصيل النزعة الاستعلائية الوصائية المنغلقة التى صاحبت هذا الحكم، ولكن السبيل يكون مفتوحاً للنظر فى حجم المشقة النفسية والاجتماعية التى شعر بها الناس تحت وطأة هذا الحكم، والتى نتجت عن انسداد الأفق وانغلاق الأمل، والخوف على المجتمع من أن يدخل فى آتون صراع لا نهاية له. وأحسب أن هذا الجانب النفسى الاجتماعى للجلد الذى فرضته هذه الفترة من الحكم يعتبر أشد وطأة وأكثر مشقة من جانبه الاقتصادي. لقد تعود الشعب أن يصبر على الحرمان الاقتصادي، ولكنه لم يتعود على اليأس والاستسلام. لقد أوشك الشعب على أن يخرج تماماً من المعادلة، وأن يترك وشأنه فى عراك لا ينقطع، كما أوشك الوطن نفسه على أن يتحول إلى فكرة هامشية. ومن المتوقع أن يؤدى هذا الظرف إلى تأجج الغضب من جديد. فقد ضاعف الخروج الغاضب، الذى نادى بالعدل والكرامة والعيش الكريم، ضاعف من الشعور بالظلم وعدم العدالة، ليس فقط لظروف الحرمان الاقتصادي، ولكن للمشاعر العميقة بالخروج من معادلة الحياة تماماً، ومن معادلة الحضارة، ومن أى معادلة لمستقبل آمن.
ولم يكن الخروج الغاضب فى الثلاثين من يونيو 2013م خروجاً عشوائياً بدون هدف. لقد كان خروجاً باحثاً عن الأمل، يفتح الأفق الذى انغلق ويكشف الغموض الذى سيطر على العقول والأفئدة، ويبحث عن أمل فى مستقبل كاد نوره أن يتحول إلى ظلام. وبعد نجاح هذا الخروج، وتحقيق أهدافه على نحو سريع، بدأ المجتمع يسترد روحه، ويلملم جراحه، تحت مظلة قيادة جديدة. ولم يكن البحث عن الأمل والتمسك به سهلاً، فقد كان على المجتمع أن يعود إلى جلده وصبره، ولكن فى إطار أفق مفتوح وأمل متجدد فى إقامة مجتمع مدنى ناهض ومتكامل. فلم يكن الأمر سهلاً إذ يحاول المجتمع إعادة بناء مؤسساته، السياسية والاجتماعية، ولم يكن الأمر سهلاً إذ يحاول المجتمع أن يتدبر لنفسه أموالاً لتمويل مشروعات مؤقتة عملاقة، ولم يكن الأمر سهلاً إذ يتحمل المجتمع نتائج إصلاحات اقتصادية تعمل على تحرير الصرف وتخلق أشكالاً جديدة للتعامل مع عالم الأسواق، ولم يكن الأمر سهلاً إذا يخوض المجتمع حرباً ضروساً ضد الإرهاب الذى يحاول أن يزرع الخوف ويقوض معالم الاستقرار، ولم يكن سهلاً أن يتحمل المجتمع آثار مؤامرات تحاك فى الداخل والخارج من أجل الزج به فى صراعات وفوضى. كل هذا وغيره لم يكن سهلاً، ولكن المجتمع- إزاء ذلك كله- يستعيد جلده متسرباً هذه المرة بأمل كبير فى مستقبل أفضل. الجلد هذه المرة هو جلد العمل والإنجاز والإدارة والتنمية، وليس جلد الكبد والمشقة. وإذ يدخل الإنسان المصرى إلى العقد الثالث من الألفية الثانية متسلحاً بالأمل والعمل والإرادة، فربما يكون هنا العقد الجديد هو عقد السعادة والازدهار بحق، والأمل معقود على أن تكون هذه رسالة لنا جميعاً.

 

 

الكلمات الدالة

مشاركه الخبر :

 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 

 
 
 

مشاركة