كتاب
كتاب


ماهر حسن .. وجدلية الاستغناء والاحتياج

أخبار الأدب

الإثنين، 01 فبراير 2021 - 02:20 م

د. رضا عطية

ماهر حسن أحد أصوات جيل الثمانينيات الشعرى فى مصر، شاعر ينوِّع فى قوالبه الشعرية بين النوع التفعيلى ونوع قصيدة النثر، فى قصيدة «شاعر فى غبار الحياة» من ديوان «يمر بيننا»، يطرح الخطاب الشعرى رؤية لعلاقة الذات بالآخر/ المرأة والعالم فى آنٍ، وكأنَّ ثمة خيطًا ما يربط بين الوجود والمرأة فى علاقة الشاعر بالحياة.
فى رؤية الذات لأحوالها تستعيد تاريخها القديم وتسترجع ماضيها البعيد وتستعيد بداياتها الأولى:
بدأت بداية الرهبان/ والزهاد/ وصغت عبارتى الأخرى/ بلا خبر ومبتدأ/ وفوقى فرشت ملاءة السموات/ ومن تحتى جعلت العشب مفترشي/ ولى كل التفاسير يباب تنبت الأفكار فيه/ ولى جسر مغطى بالظلال/ وبالكلام العاطفى/ عن الهوى والذكريات.
يثير الإعلان عن البداية الزاهدة التساؤل حول مسارات الذات وتحولاتها ما يحفِّز التوقعات المتعددة حول مآلات الذات، أما عن بدايات الذات فى التعبير عن نفسها وعن العالم: (وصغت عبارتى الأخرى/ بلا خبر ومبتدأ)  فتعكس مغامرة جمالية ومرواغة تعبيرية، فتبدو العبارة بلا حدود تفصلها بلا خبر أو مبتدأ، عبارة عصية على التحديد، وهو ما يتساوق مع تموضع الذات الوجودى: (وفوقى فرشت ملاءة السموات/ ومن تحتى جعلت العشب مفترشي)، يتبدى شعور الذات بالامتلاء واستيعاب الوجود وهو ما يفسر تفلُّت عبارتها الأخرى من التحديد بمبتدأ أو خبر، ما جعل لها رؤية خاصة بالعالم: (ولى كل التفاسير يباب تنبت الأفكار فيه)، فالأفكار هى التى تنبت بيباب التفاسير فى شعور بادٍ بمركزية الذات وأصالة أفكارها، كذلك تكشف هذه الصورة عن الصراع المطمور فى وعى الذات بين الأفكار التى هى بمثابة نباتات والتفاسير التى هى بمثابة يباب وأرض بور بدون الأفكار، وكأنَّ الذات تضمر نفورًا ما من التفاسير. التفسير يعنى تأويلاً شبه نهائى أو اقتراحاً شبه مغلق، ما يسفر عن رفض الذات لكل تأويل جاهز للعالم.
ولئن كانت الذات ترفض الجمود والثبوتية فإنَّ ثمة حضورًا للجسر كمعطٍ مكانى له رمزيته كما فى صورة: (ولى جسر مغطى بالظلال/ وبالكلام العاطفي/ عن الهوى والذكريات)، الجسر يعنى التموضع العابرى للذات، فهو مكان وسيط يعنى انتقال الذات من ضفة إلى أخرى، من موضع لآخر، من حال إلى حال آخر مغاير. أنا غطاء الجسر بالظلال وبالكلام العاطفى عن الهوى والذكريات فيعكس ملاحقة تاريخ الذات وتجاربها العاطفية الملازمة لها حال انتقالها العابر.
ثمة إلحاح لعهد الطفولة بما تعنيه من بكارة الحس وصفاء الروح على وعى الذات فى وجودها الآنى:
ولى طفولة/ لكنها كانت كصيف عابر/ ولى شتاء/ تهطل الأمطار فيه/ فلم تبك عليَّ أرض أو سماء/ ولى قمر سيقرأنى على كل الغياب/ ولى خطر يداهمنى بشىء من يقين الموت/ ولى أرجوحة تعبت من الأفكار واللعب اليتيم/ ولى أفكارى الخرقاء ولى زمن شريد لايفيء لرشده أبدًا/ أحلامى مؤجلة لحين وأحلامى تؤجلنى إلى موتى
تبدو الطفولة كصيف عابر، فى تأكيد آخر لشعور العابرية الذى يلازم الذات، وحالة العابرية تعنى موقف البحث واللا اطمئنان وعدم الرضا بما هو قائم، ذات كأنَّها تبحث عن غرض ما مفقود أو تلاحق حلمًا غامضًا أو فردوسًا منشودًا، وإذا كان الشتاء يهطل بالأمطار فالذات لا تحس أنَّ السماء أو الأرض تبكى عليها وكأنَّها تشعر ضمنيًّا بعدم تضامن العالم معها. لكن يبقى خطر الموت يعاكس الذات فى حياتها كنقيض للحياة نفسها.
وتعكس التشكيلات الاستعارية حالة الذات المضطربة: (ولى أرجوحة تعبت من الأفكار واللعب اليتيم)، فتبدو الأفكار سبب تأرجح الذات التى تعيش قلقًا وجوديًّا مستدامًا، وحالة من عدم الاستقرار ما يشكِّل تحولاً فى رؤية الذات للأفكار التى أمست كأنّها عبء يثقل كاهل هذه الذات. لكنَّ الصورة التالية تفسِّر سابقتها: (ولى أفكارى الخرقاء ولى زمن شريد لايفيء لرشده أبدًا)، فتبدو الأفكار المارقة بالتوازى مع جموح الزمن الخاص بالذات سببًا فى أزمتها الوجودية. وهو ما يجعل الأحلام مؤجلة، بلا تحقق أو تنازل عنها.
تدخل الذات فى توتر مع نفسها كشكل من أشكال الوعى الشقى الذى تحاسب عبره الذات نفسها على تطلعاتها وإخفاقاتها:
لم أعد أحتمل أن أرانى ثانية/... أحب الوجود وأكرهنى دائما
... لا أستحق الحياة/... ولا أنتظر ما أريد/ كما  لن أربى احتياجى إليك
وصور الطفولة سوف أعلقها/فوق هذا الهواء/وسوف أنقى الهواء / من الذكريات  تمامًا/ لكى اتنفس من حر مالى /من حب هذى الحياة.
ثمة صدام نفسى عارم يعصف بالذات التى تحاسب نفسها بشدة وتختلط مواقفها من نفسها والحياة بعلاقتها بآخرها/ المرأة، فيشاطر الذات شعوران متضادان: محبة الوجود وكراهية نفسها، فى لحظات قنوط، ما يدفعها فى مسلك انكسارى للحكم على نفسها بعدم استحقاقيتها الحياة، والتخلى عن انتظار ما تريد. ويتبدى هنا دور التشكيل الخطى لثلاثة أسطر شعرية متتالية بالابتداء بشريط منقوط قبل التلفظ القولى يعكس ترددات الذات ويعد تمثيلاً لبرهة وجيزة صامتة تعبِّر عن مكبوتاتها.
تعلن الذات عن استغنائها عن الآخر وسعيها لأن تلفظ الذكريات وتتخلص من تحنانها وتكبح احتياجها للآخر/ المرأة فى فعل متأبٍ ومنحى متعال على الآخر، لكن ما تلبث الذات فى النهاية أن تتراجع نسبيًّا عن موقفها هذا وتخفف من تشددها:
لكننى فى النهاية أحتاج حبًا/يرمم هذى الحياة ويمنحنى منطقًا للخلود/ ويخدش المسلمات/يضيء  جبهتى... / ويرتق هذا الوجود.
 يبدو الحب هو المنطق أو الغاية التى تمنح الذات خلودها وتبرر استمراريتها فى هذه الحياة، وهو كذلك وقود التمرُّد على المسلَّمات تأكيدًا لرفض الذات لكل التابوهات ورغبتها الدائمة فى التغيير، فعل تغيير العالم وتثوير الوجود باستمداد طاقة لاهبة تؤجج إرادة الحياة لدى الذات فى نشاط لجدلية الاستغناء والاحتياج المعبِّرة عن صراع خيارات وأفكار تدخل الذات فى أتونه حتى تحسمه. ولعلنا نلاحظ كثافة الفعل المضارع خصوصًا فى النصف الأخير من القصيدة على عكس الحضور اللافت للفعل الماضى فى بداياتها ما يعكس تغليب الذات لاحتياجها الآنى على ماضيها وذكرياتها بكل ما تحمله.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة