هشام مبارك
هشام مبارك


احم احم !

عبد المنعم نور.. وداعًا

هشام مبارك

الأربعاء، 10 فبراير 2021 - 10:15 م

كنت طفلا صغيرا عندما رأيته لأول مرة وهو يزورنا فى شقتنا بالأقصر.. طرق الباب بعد الفجر بقليل قادما من القاهرة فانتفضنا جميعا لنرى من الطارق. فتحت أنا الباب فلم أعرفه. بينما هرول أبى الحاج أحمد مبارك الذى كان فى غرفته عندما سمع صوته مجلجلا ضاحكا وهو يلقى علينا السلام وفى ثوان قليلة ارتمى فى حضن ذلك الزائر ليعتصره بشدة وهو يغالب دموعه

ويصرخ: وحشتنى يا منعم فيرد الضيف: وانت وحشتنى قوى يا خال!

خال؟ كيف يكون أبى خالا لشخص يبدو أنه فى نفس سنه تقريبا؟ هكذا لمحت أمى رحمها الله السؤال فى عينى فمالت على أذنى هامسة: ده عبد المنعم نور أكبر أولاد عمتك هند وهو يكبر أباك بعام والعلاقة بينهما كما ترى علاقة صداقة وأخوة وليست علاقة خال بابن أخته!

منذ تلك اللحظة عرفت قيمتك يا منعم وعرفت كيف يكون ابن الأخت بمثابة الأخ الشقيق وربما أكثر لخاله. ثم رأيت بعد ذلك صديقكما الثالث انت وأبى وكان هو شقيقك الحبيب عبد اللطيف نور أو لطيف كما كان يحلو لأبى أن يناديه. انت منعم وهو لطيف، بينما أنتما رغم الأخوة الحقيقية الصادقة لم ترفعا الكلفة يوما بينكما وبين خالكما وظللتما حتى آخر أنفاسكما تناديانه يا خال، حتى السجائر امتنعتما عن تدخينها أمامه.

ثم فعلت الغربة فعلتها يا منعم، سافرت أنت للسعودية وسافر لطيف للسويس وبقى خالكما وحده فى البياضية غريبا أيضأ بدونكما، من قال إن الغربة غربة المكان فقط بل غربة الروح والنفس أشد أنواع الغربة، فعلى كثرة ما كان يحيط بأبى من أهل وأحباب إلا أنه ظل يكابد فراق نديميه منعم ولطيف وظل لآخر لحظات حياته معتقدا أنه سيجيء يوم يلتقى فيه الأشقاء.

أذكر أنه وهو يبنى لنا بيتا فى البياضية حرصه الشديد على تخصيص الدور الأرضى ليكون ديوانا. كان يقول لي: طالت الغربة أم قصرت سيعود عبد المنعم وعبد اللطيف وسنحتاج وقتها لهذا الديوان لنتسامر ونضحك ونلعب الدومينو والكوتشينة زى زمان. وعندما عاد لطيف من السويس ظن أبى أن حلمه على وشك التحقق ولكنك تعرف يا منعم أن الغربة لا تعيدنا لأوطاننا إلا بعد أن تمتص رحيقنا فقد مرض عبد اللطيف ورحل قبل أن يجتمع الشمل ثم رحل خالك وها أنت ترحل يا منعم وبقيت البيوت تبكى فراقكم وهى تحمل بين جدرانها أحلاما لم تتحقق ولكنها إرادة الله الذى لا راد لحكمه.

مهما كتبت فيك يا منعم ومهما قلت سيظل الحرف فيك ضنين.. منعم صاحب أصفى وأطيب ضحكة ممكن أن تسمعها فى حياتك، ابتسامته تختلط بكلامه فلا تفسر كثيرا مما يقول، أكثر كلماته وضوحا كلما رحب بى عندما جذبتنى الغربة إلى السكن جواره فى الهرم هى: إزيك يا خويا.. عامل إيه يا هشام وعامل إيه خالى على حسك؟ ثم بعدت المسافات فلم أكن ألتقيه إلا قليلا. أذهب إليه لأشم رائحة أبى وعطر الصعيد حتى أتصبر بهما على قسوة الغربة. ومنذ يومين سمعت صوت ابنه أحمد وهو يقول لى فى التليفون: بابا يا عمو هشام دخل فى غيبوبة..

سبحان الله كنت لتوى قد وصلت البياضية ودخلت فى الديوان الذى أعده أبى ليكون ملتقى الأحبة. وفى نفس المكان بالأمس تلقيت خبر رحيل منعم نور الرجل الطيب الجدع المبتسم ليلحق بخاله وبعبد اللطيف وحتما سيكون السمر والسهر فى الجنة أحلي.

إلى جنة الخلد يا منعم أقرئ خالك ولطيف وكل الأحبة السلام وعزاؤنا أنك تركت لنا الكثير ليس فقط ثروتك من الأبناء والبنات أحمد وكاريمان ورانيا ونهى ووالدتهم النفسية السيدة نفيسة كريمة العالم الجليل الراحل عبد الرحيم نصير ولكن تركت لنا الكثير من روحك الجميلة التى لم تتصف إلا بكل ما هو جميل ولا نقول فى وداعك إلا ما يرضى ربنا.. إنا لله وإنا إليه راجعون.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة