تصوير:محمود شوقي
تصوير:محمود شوقي


حصل على أغلى شهاداته من أبيه:

أحمد شافعى: أنا فى حالة انتظار دائم

بوابة أخبار اليوم

الأحد، 14 فبراير 2021 - 05:25 م

كتب: حسن عبدالموجود

"لماذا‭ ‬لا‭ ‬تزرع‭ ‬شجرة"‭ ‬ليس‭ ‬عنواناً‭ ‬عادياً‭ ‬لرواية،‭ ‬ولكنه‭ ‬سؤال‭ ‬أحمد‭ ‬شافعى‭ ‬لنفسه،‭ ‬أو‭ ‬اقتراحه‭ ‬عليها،‭ ‬أو‭ ‬إدانته‭ ‬لها‭. ‬فبرغم‭ ‬قضائه‭ ‬نصف‭ ‬حياته‭ ‬فى‭ ‬المدينة،‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬الريفى‭ ‬الذى‭ ‬نشأ‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬الزرع،‭ ‬ووسط‭ ‬غيطان‭ ‬حدودها‭ ‬السحاب‭ ‬والسماء‭ ‬والأحلام‭. ‬ابتعد‭ ‬شافعى‭ ‬عن‭ ‬بلدته‭ ‬لأسباب‭ ‬تخصُّ‭ ‬الحياة،‭ ‬ولقمة‭ ‬العيش،‭ ‬والرغبة‭ ‬فى‭ ‬التغيير،‭ ‬ترك‭ ‬قريته‭ ‬الصغيرة‭ ‬"طحانوب"،‭ ‬وجاء‭ ‬إلى‭ ‬مدينته‭ ‬الكبرى‭ ‬"القاهرة"،‭ ‬ثم‭ ‬تركها‭ ‬إلى‭ ‬سلطنة‭ ‬عمان‭ ‬التى‭ ‬أتاحت‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بمفرده‭ ‬إذا‭ ‬شاء،‭ ‬مع‭ ‬بحر‭ ‬كامل،‭ ‬أو‭ ‬مع‭ ‬جبل،‭ ‬أو‭ ‬قطعة‭ ‬فضاء‭ ‬تناهز‭ ‬"طحانوب" ‬نفسها،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يخدش‭ ‬وحدته‭ ‬عابر،‭ ‬شخص‭ ‬أو‭ ‬حيوان،‭ ‬أو‭ ‬يحلِّق‭ ‬فوقه‭ ‬طائر،‭ ‬أو‭ ‬تضايقه‭ ‬ذبابة،‭ ‬وهذه‭ ‬هى‭ ‬الجنة‭ ‬لشخص‭ ‬متعته‭ ‬الكبرى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بمفرده‭.‬

شافعى‭ ‬صاحب‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬زراعة‭ ‬الشجر،‭ ‬إن‭ ‬صدقنا‭ ‬عنوان‭ ‬الرواية،‭ ‬وصاحب‭ ‬الصرخة‭ ‬الإنسانية‭ ‬فى‭ ‬متنها،‭ ‬فيه‭ ‬إنسان‭ ‬وديع‭ ‬أحياناً،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتخيله‭ ‬خارجا‭ ‬من‭ ‬بيته‭ ‬فى‭ ‬القاهرة،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬روايته‭ ‬فى‭ ‬رفِّ‭ ‬مكتبتك،‭ ‬فلاحاً‭ ‬يمسك‭ ‬بفأس،‭ ‬يطمئن‭ ‬أبو‭ ‬قردان‭ ‬على‭ ‬كتفه،‭ ‬ينهمك‭ ‬فى‭ ‬حرث‭ ‬الأرض‭ ‬وتعميرها‭ ‬بالشجر‭ ‬والسنابل‭ ‬والورد‭. ‬لكنَّ‭ ‬فيه‭ ‬كذلك‭ ‬غضباً‭ ‬قد‭ ‬يجعلك‭ ‬تتخيله‭ ‬مكفهر‭ ‬الملامح،‭ ‬خارجاً‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬وفى‭ ‬يده‭ ‬بلطة،‭ ‬قاتلاً‭ ‬لا‭ ‬تحركه‭ ‬الكراهية،‭ ‬ولكن‭ ‬الرغبة‭ ‬فى‭ ‬العزلة‭. ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬يحملك‭ ‬على‭ ‬الظن‭ ‬بأنه‭ ‬لو‭ ‬سنحت‭ ‬له‭ ‬فرصة‭ ‬للخلاص‭ ‬من‭ ‬البشرية،‭ ‬فلن‭ ‬يفلتها،‭ ‬ليبقى‭ ‬بمفرده،‭ ‬مؤتنساً‭ ‬بما‭ ‬يؤنسه‭. ‬لعله‭ ‬الصمت،‭ ‬أو‭ ‬صفير‭ ‬الريح،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬موسيقى‭ ‬شجر‭ ‬عملاق‭ ‬غير‭ ‬مهذب‭ ‬تتخلله‭ ‬تلك‭ ‬الريح،‭ ‬شجر‭ ‬سيبقى‭ ‬سنين‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تلمسه‭ ‬يد‭ ‬سوى‭ ‬يده‭ ‬هو،‭ ‬االخالقب‭ ‬الصغير،‭ ‬المولود‭ ‬فى‭ ‬"77"‭. ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬يحب‭ ‬شافعى‭ ‬الناس،‭ ‬بطريقته،‭ ‬أو‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تسمح‭ ‬له‭ ‬نفسه،‭ ‬لكن‭ ‬المؤكد‭ ‬أنه‭ ‬يفضل‭ ‬الشجر‭.‬

ولهذا‭ ‬قصة‭ ‬قديمة‭..‬

كان‭ ‬لقرابة‭ ‬سبع‭ ‬سنوات،‭ ‬على‭ ‬خلاف‭ ‬يومى،‭ ‬أو‭ ‬أسبوعى‭ ‬فى‭ ‬أحسن‭ ‬الحالات‭ ‬مع‭ ‬أبيه،‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬دراسته‭ ‬الثانوية‭ ‬تقريباً‭. ‬كان‭ ‬أحمد‭ ‬يتردد‭ ‬على‭ ‬زاوية‭ ‬السنية‭ (‬حتى‭ ‬قدموه‭ ‬لإمامتهم‭ ‬فى‭ ‬الصلاة‭ ‬ظناً‭ ‬منهم‭ ‬أنه‭ ‬أحفظهم‭ ‬للقرآن‭) ‬فيغضب‭ ‬أبوه‭ ‬ويحاول‭ ‬أن‭ ‬يكشف‭ ‬له‭ ‬ضحالة‭ ‬خطابهم‭ ‬وخطورته‭ ‬أيضاً‭. ‬كان‭ ‬أحمد‭ ‬كذلك‭ ‬يقضى‭ ‬وقت‭ ‬فراغه‭ ‬مع‭ ‬شعراء‭ ‬يتصادف‭ ‬أن‭ ‬منهم‭ ‬المكوجى‭ ‬والحلوانى‭ ‬ومدرس‭ ‬الابتدائى‭ ‬فيتذمر‭ ‬أبوه‭ ‬ويطالبه‭ ‬بالاقتصار‭ ‬على‭ ‬مخالطة‭ ‬أمثاله‭. ‬يكتشف‭ ‬الأب‭ ‬أن‭ ‬ابنه‭ ‬مستمر‭ ‬فى‭ ‬التدخين‭ ‬فيثور‭. ‬يراه‭ ‬يشترى‭ ‬الدواوين‭ ‬والروايات‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬الكلية‭ ‬فيضيِّق‭ ‬عليه‭ ‬فى‭ ‬المصروف‭. ‬المهم‭ ‬أنهما‭ ‬لم‭ ‬يعدما،‭ ‬أحمد‭ ‬وأبوه،‭ ‬سبباً‭ ‬للخلاف‭ ‬طوال‭ ‬سنوات،‭ ‬وفى‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬توطدت‭ ‬علاقته‭ ‬بالخلاء‭. ‬واالخلاء‭ ‬فى‭ ‬طحانوب‭ ‬ليس‭ ‬قفراً‭ ‬بأى‭ ‬حال،‭ ‬وإنما‭ ‬جنة‭ ‬حقيقية،‭ ‬أو‭ ‬هكذا‭ ‬كانب‭. ‬

يحكى‭: ‬اكنت‭ ‬إما‭ ‬فى‭ ‬غرفتى‭ ‬المنفصلة‭ ‬عن‭ ‬شقة‭ ‬الأسرة،‭ ‬أو‭ ‬فى‭ ‬الخلاء‭. ‬لأسبوع‭ ‬مثلاً،‭ ‬ربما‭ ‬فى‭ ‬الصف‭ ‬الثانى‭ ‬الثانوى،‭ ‬لم‭ ‬آكل‭ ‬وجبة‭ ‬واحدة‭ ‬فى‭ ‬البيت،‭ ‬ولم‭ ‬يرنى‭ ‬أحد‭ ‬إلا‭ ‬عابراً،‭ ‬وصامتاً‭. ‬معتمداً‭ ‬على‭ ‬مدخرات‭ ‬قليلة،‭ ‬بعضها‭ ‬من‭ ‬مصروفى‭ ‬وبعضها‭ ‬من‭ ‬مسابقات‭ ‬مدرسية‭ ‬كنت‭ ‬كثير‭ ‬الفوز‭ ‬بها،‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أبرهن‭ ‬لأبى‭ ‬أننى‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬برغم‭ ‬أى‭ ‬تضييق‭ ‬اقتصادى‭ ‬منه،‭ ‬فبدأت‭ ‬أشترى‭ ‬أرخص‭ ‬الطعام،‭ ‬والسجائر،‭ ‬وأحملها‭ ‬مع‭ ‬سجادة‭ ‬صلاة‭ ‬صغيرة،‭ ‬وأسير‭ ‬إلى‭ ‬أراضٍ‭ ‬كانت‭ ‬يوماً‭ ‬ما‭ ‬ملكاً‭ ‬لإقطاعى،‭ ‬وتحت‭ ‬صفصافة‭ ‬مجوَّفة‭ ‬الساق،‭ ‬قائمة‭ ‬عند‭ ‬تقاطع‭ ‬مسارات‭ ‬ضيقة‭ ‬وسط‭ ‬حقول‭ ‬ممتدة‭ ‬من‭ ‬العطر‭ ‬والياسمين،‭ ‬أجلس‭ ‬هناك،‭ ‬آكل‭ ‬وأدخن‭ ‬وأقرأ،‭ ‬ما‭ ‬بقى‭ ‬نور‭ ‬الشمس‭. ‬كان‭ ‬بجوار‭ ‬تلك‭ ‬الصفصافة‭ ‬دائما‭ ‬آثار‭ ‬نار،‭ ‬فكنت‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬أننى‭ ‬أرث‭ ‬بالنهار‭ ‬ما‭ ‬يملكه‭ ‬حارس‭ ‬بالليل،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬لصب‭. ‬

أًصبحت‭ ‬تلك‭ ‬البقعة‭ ‬مكانه،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يستقبل‭ ‬فيها‭ ‬زواراً‭ ‬من‭ ‬أصدقائه‭ ‬وزملائه‭. ‬وهناك‭ ‬نشأت‭ ‬علاقة‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الشجر‭ ‬والزرع‭ ‬واليمام‭ ‬والغربان،‭ ‬وأهم‭ ‬منها‭ ‬جميعاً‭ ‬السكون‭. ‬علاقة‭ ‬تركت‭ ‬فى‭ ‬نفسه‭ ‬حنيناً‭ ‬لا‭ ‬علاج‭ ‬له،‭ ‬وإحساساً‭ ‬دائماً‭ ‬ولا‭ ‬علاج‭ ‬له‭ ‬أيضاً‭ ‬بأنه‭ ‬فى‭ ‬المدينة،‭ ‬أى‭ ‬مدينة،‭ ‬ليس‭ ‬فى‭ ‬مكانه‭. ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬وضع‭ ‬مؤقت‭. ‬عارض‭. ‬خطأ‭: ‬اتلك‭ ‬السنوات‭ ‬جعلت‭ ‬عينى‭ ‬شديدة‭ ‬الحساسية‭ ‬للقبح،‭ ‬والتلوث،‭ ‬أعنى‭ ‬الأرواح‭ ‬الملوثة،‭ ‬بالكراهية،‭ ‬بالحقد،‭ ‬وبالطموح‭ ‬أيضاً‭ ‬أو‭ ‬الانشغال‭ ‬بالمساعى‭ ‬التافهةب‭.‬

الأرض‭ ‬والأب‭ ‬والشجر‭ ‬والثعابين

يكتب‭ ‬شافعى‭ ‬امن‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬حقاً‭ ‬فى‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬الأرض‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬الحق‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬يزرع‭ ‬شجرةب‭. ‬واأنا‭ ‬يا‭ ‬سيدى‭ ‬لا‭ ‬أملك‭ ‬حتى‭ ‬مساحة‭ ‬المتر‭ ‬فى‭ ‬متر‭ ‬التى‭ ‬ستتسع‭ ‬لجثتى‭. ‬سأكون‭ ‬فى‭ ‬موتى‭ ‬عالة‭ ‬على‭ ‬أبىب،‭ ‬وفى‭ ‬هذين‭ ‬المقطعين‭ ‬من‭ ‬الرواية‭ ‬تبدو‭ ‬تلك‭ ‬الثنائية‭ ‬البارزة‭ ‬فيها،‭ ‬وكذلك‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬أحمد‭ ‬نفسه،‭ ‬ثنائية‭ ‬االأرض‭ ‬والأبب‭ ‬وبينهما‭ ‬االشجرب‭.‬

يقول‭ ‬شافعى‭: ‬اأظن‭ ‬أن‭ ‬جان‭ ‬جاك‭ ‬روسو‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬مشكلة‭ ‬الإنسانية‭ ‬بدأت‭ ‬بأول‭ ‬شخص‭ ‬أقام‭ ‬سوراً‭ ‬حول‭ ‬قطعة‭ ‬أرض‭ ‬وادَّعى‭ ‬أنها‭ ‬ملكه‭. ‬لكن،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬طعن‭ ‬روسو‭ ‬فى‭ ‬الملكية،‭ ‬عندى‭ ‬يقين‭ ‬ـ‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬أى‭ ‬علم‭ ‬ـ‭ ‬بأن‭ ‬الأرض‭ ‬كانت‭ ‬ولم‭ ‬تزل‭ ‬كافية‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬عليها‭. ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يضمن‭ ‬ألا‭ ‬يوجد‭ ‬جائع‭ ‬أو‭ ‬عارٍ‭ ‬أو‭ ‬شريد،‭ ‬لولا‭ ‬تدخل‭ ‬الناس،‭ ‬واستغلال‭ ‬الأقوى‭ ‬قوته،‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬المستقبل‭ ‬الذى‭ ‬يدفع‭ ‬بعضنا‭ ‬إلى‭ ‬الجور‭ ‬على‭ ‬البعضب‭. ‬

توهم‭ ‬الرواية‭ ‬بأن‭ ‬مشكلة‭ ‬بطلها‭ ‬كامل‭ ‬كانت‭ ‬ستنتهى‭ ‬لو‭ ‬زرع‭ ‬شجرة،‭ ‬لكن‭ ‬شافعى‭ ‬لا‭ ‬يوافق‭ ‬على‭ ‬هذا،‭ ‬فلا‭ ‬أحد‭ ‬فى‭ ‬رأيه‭ ‬املزم‭ ‬أو‭ ‬مضطر‭ ‬إلى‭ ‬زرع‭ ‬شجرة،‭ ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬بصمته‭ ‬فى‭ ‬حياتهب،‭ ‬وفى‭ ‬الرواية‭ ‬يستخدم‭ ‬الأقوياء‭ ‬الشجر‭ ‬لعزل‭ ‬أنفسهم‭ ‬خلف‭ ‬أسوار‭ ‬خضراء،‭ ‬لكن‭ ‬شافعى‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬الأمر‭ ‬أيضاً‭ ‬بهذه‭ ‬الصورة،‭ ‬فالشجر‭ ‬بالنسبة‭ ‬له‭ ‬اليس‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬مؤامرة‭ ‬على‭ ‬الإنسان،‭ ‬لأنه‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬مؤامرة‭ ‬أصلاً‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭. ‬طبعا‭ ‬هناك‭ ‬محاولات‭ ‬من‭ ‬الجميع‭ ‬لاستعمال‭ ‬الجميع،‭ ‬لسرقة‭ ‬أعمارهم،‭ ‬لكنها‭ ‬محاولات‭ ‬مفضوحة‭ ‬بصورة‭ ‬بائسة‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يستعمل‭ ‬عينيه‭ ‬وعقله‭ ‬ويرفض‭ ‬أن‭ ‬يسلم‭ ‬قياده‭ ‬لأحدب‭.‬

لشافعى،‭ ‬مثل‭ ‬بطله‭ ‬كامل،‭ ‬ولع‭ ‬بشجرة‭ ‬الكافور‭: ‬"أعرفها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أعرف‭ ‬الكلام،‭ ‬أعرفها‭ ‬برائحتها،‭ ‬فى‭ ‬ازدهارها‭ ‬وشيخوختها،‭ ‬أعرف‭ ‬حتى‭ ‬التراب‭ ‬المحيط‭ ‬بجذوعها‭ ‬وأميِّزه‭ ‬عن‭ ‬أى‭ ‬تراب‭ ‬آخر،‭ ‬والمفارقة‭ ‬المؤلمة‭ ‬هى‭ ‬أن‭ ‬أحبَّ‭ ‬الشجر‭ ‬إلى‭ ‬نفسى‭ ‬تحبه‭ ‬أيضاً‭ ‬أبغض‭ ‬الكائنات‭ ‬إلى‭ ‬نفسى‭ ‬وبطلة‭ ‬كوابيسى،‭ ‬"عنى‭ ‬الثعابين،‭ ‬فمن‭ ‬المؤسف‭ ‬أنه‭ ‬لو‭ ‬أتيح‭ ‬لى‭ ‬يوماً‭ ‬أن‭ ‬أزرع‭ ‬شجرة‭ ‬فلن‭ ‬تكون‭ ‬شجرة‭ ‬كافور"‭.‬

ومثل‭ ‬كامل‭ ‬أيضاً،‭ ‬يمثل‭ ‬الأب‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬شافعى‭ ‬شخصاً‭ ‬مركزياً‭: ‬الم‭ ‬يحدث‭ ‬أن‭ ‬استقامت‭ ‬علاقتى‭ ‬بأبى‭ ‬إلا‭ ‬متأخراً‭ ‬للغاية‭. ‬ذهبت‭ ‬وأبى‭ ‬لخطبة‭ ‬زوجتى‭ ‬باعتبار‭ ‬ما‭ ‬سيكون‭. ‬كنا‭ ‬معاً،‭ ‬أنا‭ ‬وهو‭ ‬فقط،‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬منذ‭ ‬سنين‭. ‬وفى‭ ‬طريق‭ ‬رجوعنا،‭ ‬قال‭ ‬لى‭ ‬فور‭ ‬أن‭ ‬استقررنا‭ ‬فى‭ ‬السيارة‭: ‬أريد‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬لك‭ ‬إنك‭ ‬كنت‭ ‬على‭ ‬حق‭. ‬طوال‭ ‬سنين‭ ‬وأنت‭ ‬تختار‭ ‬بعناد‭ ‬عكس‭ ‬ما‭ ‬أختاره‭ ‬لك‭ ‬أو‭ ‬أنصحك‭ ‬به،‭ ‬أدعوك‭ ‬أن‭ ‬تتخصَّص‭ ‬فى‭ ‬الفرنسية‭ ‬وأنت‭ ‬فى‭ ‬الثانوى‭ ‬لأعينك‭ ‬على‭ ‬التفوق‭ ‬فيها،‭ ‬فتهرب‭ ‬منى‭ ‬إلى‭ ‬الألمانية،‭ ‬أختار‭ ‬لك‭ ‬الالتحاق‭ ‬بكلية‭ ‬التربية‭ ‬فتصر‭ ‬على‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬أوفر‭ ‬لك‭ ‬عملاً‭ ‬كمدرس‭ ‬للإنجليزية‭ ‬فتؤثر‭ ‬عناء‭ ‬العمل‭ ‬مع‭ ‬لصوص‭ ‬مكاتب‭ ‬الترجمة،‭ ‬ألح‭ ‬عليك‭ ‬فى‭ ‬الزواج‭ ‬فترفض‭ ‬وتصر‭ ‬لسنوات‭ ‬على‭ ‬الرفض‭. ‬لكننى‭ ‬بمرور‭ ‬السنوات،‭ ‬رأيتك‭ ‬تلتحق‭ ‬بعمل‭ ‬ثابت‭ ‬وترتقى‭ ‬فيه‭ ‬بسرعة،‭ ‬رأيتك‭ ‬تنشر‭ ‬ترجماتك‭ ‬وقصائدك‭ ‬فى‭ ‬الصحف،‭ ‬وتصدرها‭ ‬كتباً،‭ ‬رأيتك‭ ‬تختار‭ ‬فى‭ ‬الوقت‭ ‬الذى‭ ‬يناسبك‭ ‬من‭ ‬تريدها‭ ‬زوجة‭ ‬وتحسن‭ ‬الاختيار‭. ‬أريد‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬لك‭ ‬إنك‭ ‬كنت‭ ‬محقاً،‭ ‬كنت‭ ‬تعرف‭ ‬ما‭ ‬تريده‭ ‬وما‭ ‬تقدر‭ ‬على‭ ‬عمله‭. ‬أنا‭ ‬مطمئن‭ ‬عليكب‭.‬

يضيف‭: ‬الم‭ ‬أجد‭ ‬ما‭ ‬أردّ‭ ‬به‭. ‬وإلى‭ ‬الآن،‭ ‬بينما‭ ‬أحكى‭ ‬لك‭ ‬هذا،‭ ‬تسرى‭ ‬قشعريرة‭ ‬فى‭ ‬بدنى‭ ‬كله‭. ‬الآن‭ ‬أفهم‭ ‬أننى‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬لتعنينى‭ ‬شهادة‭ ‬كتلك‭ ‬من‭ ‬كائن‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأرض‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬أحصل‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬أبى‭ ‬فى‭ ‬عصر‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬البعيد‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬2005‭. ‬تلتْ‭ ‬ذلك‭ ‬سنوات‭ ‬صفاء‭ ‬قليلة،‭ ‬ولو‭ ‬كثرت‭ ‬لبقيت‭ ‬قليلة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬رحل‭ ‬أبى‭ ‬فى‭ ‬أواخر‭ ‬سنة‭ ‬الثورة‭. ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬أقول‭ ‬لنفسى‭ ‬إن‭ ‬أبى‭ ‬هو‭ ‬الحائل‭ ‬العظيم‭ ‬بينى‭ ‬وبين‭ ‬أن‭ ‬أرضى‭ ‬عن‭ ‬نفسى‭ ‬كأب‭ ‬لولدىّ‭. ‬مهما‭ ‬بذلت‭ ‬من‭ ‬أجلهما‭ ‬يا‭ ‬أخى‭ ‬أظل‭ ‬أقول‭ ‬لنفسى‭: ‬ليس‭ ‬بعد،‭ ‬حاول‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬لم‭ ‬تزل‭ ‬المسافة‭ ‬بعيدة‭ ‬بينك‭ ‬وبين‭ ‬الرجل‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬أباك‭. ‬صورته‭ ‬وهو‭ ‬يُجلِس‭ ‬خالى‭ ‬الميت‭ ‬بجواره‭ ‬فى‭ ‬السيارة‭ ‬لا‭ ‬تبارح‭ ‬خيالى،‭ ‬هذا‭ ‬رجل‭ ‬قادر‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬مجالسة‭ ‬جثة‭ ‬ليؤدى‭ ‬واجبه‭ ‬ويفى‭ ‬بالتزامه‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬أظن‭ ‬أننى‭ ‬قد‭ ‬أقدر‭ ‬عليه‭ ‬يوماًب‭.‬

أَجْلَسَ‭ ‬الجثة‭ ‬بجواره‭ ‬كأنها‭ ‬شخص‭ ‬حى

وراء‭ ‬إشارة‭ ‬شافعى‭ ‬إلى‭ ‬خاله‭ ‬قصة‭ ‬فارقة‭ ‬فى‭ ‬حياته‭. ‬كانت‭ ‬االسبعينياتب،‭ ‬وهى‭ ‬بالنسبة‭ ‬له‭ ‬اعقد‭ ‬البهجة‭ ‬فى‭ ‬العالمب،‭ ‬قد‭ ‬انتهت‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعيشها‭ ‬شافعى‭ ‬بوعى‭ ‬كافٍ،‭ ‬إذ‭ ‬ولد‭ ‬سنة‭ ‬77،‭  ‬لكنه‭ ‬رآها‭ ‬مجسدة‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬الخال‭: ‬شديد‭ ‬الوسامة،‭ ‬غزير‭ ‬الشعر،‭ ‬الضاحك‭ ‬المضحك‭. ‬حدث‭ ‬يوماً،‭ ‬ربما‭ ‬كما‭ ‬يليق‭ ‬بشخص‭ ‬يجسِّد‭ ‬جموح‭ ‬السبعينيات،‭ ‬أن‭ ‬استعار‭ ‬ذلك‭ ‬الخال‭ ‬دراجة‭ ‬نارية‭ ‬من‭ ‬صديق‭ ‬ليذهب‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬محافظة‭ ‬أخرى،‭ ‬ومات‭ ‬على‭ ‬الطريق‭. ‬يحكى‭ ‬شافعى‭: ‬اسمعت‭ ‬وصف‭ ‬أبى‭ ‬للمشهد،‭ ‬عثر‭ ‬عليه‭ ‬طريحاً‭ ‬وسط‭ ‬شجر،‭ ‬لم‭ ‬أزل‭ ‬أتخيل‭ ‬أنه‭ ‬شجر‭ ‬كافور‭ ‬صغير‭ ‬ونحيل‭ ‬مثلما‭ ‬ظهر‭ ‬فى‭ ‬أحلامى‭ ‬كثيراً‭. ‬حكى‭ ‬أبى‭ ‬أيضاً‭ ‬عن‭ ‬شيخ‭ ‬أشفق‭ ‬على‭ ‬الشاب‭ ‬فنقل‭ ‬جثته‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الطريق،‭ ‬وتدبر‭ ‬الاتصال‭ ‬بأهله‭. ‬وحكى‭ ‬أبى‭ ‬أيضا‭ ‬المشهد‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬أنساه،‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬خشية‭ ‬أن‭ ‬تستوقفهم‭ ‬الشرطة،‭ ‬فتؤخر‭ ‬تكريم‭ ‬الراحل،‭ ‬أَجْلَسَ‭ ‬الجثة‭ ‬بجواره‭ ‬فى‭ ‬السيارة‭ ‬كأنها‭ ‬شخص‭ ‬حىب‭.‬

سمع‭ ‬شافعى‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬تعبير‭ ‬اابن‭ ‬الموتب‭ ‬الذى‭ ‬يوصف‭ ‬به‭ ‬الهائمون‭ ‬حباً‭ ‬فى‭ ‬الحياة،‭ ‬ويصف‭ ‬كيف‭ ‬ظل‭ ‬يستحضر‭ ‬صورة‭ ‬أبيه‭ ‬جالساً‭ ‬بجوار‭ ‬الخال‭ ‬الميت‭. ‬يقول‭: ‬اانتظرت‭ ‬لحظة‭ ‬اتحولب‭ ‬ما‭ ‬فى‭ ‬حياتى‭ ‬تنقلنى‭ ‬إلى‭ ‬طور‭ ‬االرجلب‭. ‬ظل‭ ‬تصورى‭ ‬عن‭ ‬النضج‭ ‬أو‭ ‬الرشد‭ ‬أو‭ ‬الرجولة‭ ‬مرتبطاً‭ ‬بشىء‭ ‬كالقدرة‭ ‬على‭ ‬السفر‭ ‬مع‭ ‬جثة،‭ ‬بحدث‭ ‬جلل،‭ ‬بخبرة‭ ‬فارقة‭. ‬شىء‭ ‬ما‭ ‬أقول‭ ‬لنفسى‭ ‬بعده‭: ‬أنا‭ ‬الآن‭ ‬كبرت‭ ‬وأصبحت‭ ‬رجلاً‭. ‬ولم‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك‭. ‬كل‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬أننى‭ ‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬االرجلب‭ ‬الذى‭ ‬أنتظر‭ ‬أن‭ ‬أتحول‭ ‬إليه‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬طفلاً‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬الناس،‭ ‬لسبب‭ ‬يخصهم،‭ ‬يرونه‭ ‬طفلاًب‭. ‬

غيّرت‭ ‬تلك‭ ‬الوفاة‭ ‬عالم‭ ‬شافعى‭ ‬الصغير‭. ‬كان‭ ‬عمر‭ ‬الخال‭ ‬عند‭ ‬وفاته‭ ‬23‭ ‬عاماً،‭ ‬فقسّمت‭ ‬شقيقاته‭ ‬عمره‭ ‬عليهن،‭ ‬وأخذت‭ ‬كل‭ ‬واحدة‭ ‬تقضى‭ ‬عنه‭ ‬الصلوات‭ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬يصلها،‭ ‬وتصوم‭ ‬عنه‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يصمه‭. ‬ثم‭ ‬اختفت‭ ‬من‭ ‬الجدران‭ ‬فى‭ ‬بيت‭ ‬شافعى‭ ‬لوحات‭ ‬الكنفاه‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تحيكها‭ ‬أمه،‭ ‬ولم‭ ‬يحل‭ ‬محلها‭ ‬أى‭ ‬شىء،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬آيات‭ ‬من‭ ‬القرآن‭. ‬توقفت‭ ‬إذاعة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬عن‭ ‬ملء‭ ‬صباحات‭ ‬البيت‭ ‬بالبهجة،‭ ‬لصالح‭ ‬إذاعة‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭. ‬ولما‭ ‬حدث‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت‭ ‬أن‭ ‬رجعت‭ ‬حياة‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الخالات‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬عليه،‭ ‬بقيت‭ ‬أمُّ‭ ‬شافعى‭ ‬مع‭ ‬إذاعة‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬وهو‭ ‬معها،‭ ‬يكتسبان‭ ‬مهارة‭ ‬تمييز‭ ‬أصوات‭ ‬المقرئين‭. ‬ولم‭ ‬يتغير‭ ‬هذا‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬سنوات،‭ ‬على‭ ‬عتبة‭ ‬المراهقة،‭ ‬عندما‭ ‬أضيف‭ ‬إلى‭ ‬هيامه‭ ‬بالمنشاوى‭ ‬هياماً‭ ‬موازياً‭ ‬بأم‭ ‬كلثوم‭ ‬وعبدالوهاب‭.‬

بإمكان‭ ‬القصص‭ ‬السابقة‭ ‬أن‭ ‬تعطى‭ ‬لمحة‭ ‬عن‭ ‬مصادر‭ ‬الكتابة‭ ‬لدى‭ ‬أحمد،‭ ‬لكننا‭ ‬فى‭ ‬احتياج‭ ‬إلى‭ ‬قصص‭ ‬أخرى‭ ‬لإكمال‭ ‬الصورة‭. ‬كان‭ ‬شافعى‭ ‬ربما‭ ‬الطفل‭ ‬الوحيد‭ ‬فى‭ ‬العالم‭ ‬الذى‭ ‬يلحُّ‭ ‬عليه‭ ‬أبواه‭ ‬كى‭ ‬يلعب‭ ‬فى‭ ‬الشارع‭. ‬يحكى‭: ‬الم‭ ‬ألعب‭ ‬فى‭ ‬الشارع‭ ‬لسبب‭ ‬يحلو‭ ‬لى‭ ‬أن‭ ‬أرجعه‭ ‬إلى‭ ‬حرصى‭ ‬على‭ ‬ألا‭ ‬أكسر‭ ‬نظارتى‭. ‬كنت‭ ‬أعزف‭ ‬عن‭ ‬الألعاب‭ ‬الحركية‭ ‬عموماً،‭ ‬والمصادفات‭ ‬البحتة‭ ‬جعلت‭ ‬خالاً‭ ‬لى‭ ‬يرجع‭ ‬من‭ ‬العراق‭ ‬بكتب‭ ‬بديعة‭ ‬للأطفال‭ ‬من‭ ‬إصدارات‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬العراقية،‭ ‬أتذكر‭ ‬منها‭ ‬بشكل‭ ‬جيد‭ ‬كتاباً‭ ‬مصوَّراً‭ ‬بقصائد‭ ‬أحمد‭ ‬شوقى‭ ‬للأطفال،‭ ‬وآخر‭ ‬للشاعر‭ ‬سليمان‭ ‬العيسى،‭ ‬وكتابا‭ ‬آخر‭ ‬عنوانه‭ ‬اأبو‭ ‬أحمد‭ ‬والتمورب‭. ‬لم‭ ‬يستهلك‭ ‬أحد‭ ‬فى‭ ‬بيتنا‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬غيرى،‭ ‬ومبكراً‭ ‬جداً‭ ‬قرأت‭ ‬الروايات‭ ‬القليلة‭ ‬التى‭ ‬عثرت‭ ‬عليها‭ ‬وسط‭ ‬كتب‭ ‬أبى،‭ ‬ومنها‭ ‬روايات‭ ‬محفوظ‭ ‬التاريخية،‭ ‬ونسخة‭ ‬من‭ ‬الطبعة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬اقصاقيص‭ ‬ورقب‭ ‬لصلاح‭ ‬جاهين‭ ‬وارباعيات‭ ‬الخيامب‭ ‬بترجمة‭ ‬أحمد‭ ‬رامى‭. ‬رأى‭ ‬أبى‭ ‬أننى‭ ‬لا‭ ‬أنزل‭ ‬للعب‭ ‬فى‭ ‬الشارع،‭ ‬فاشترى‭ ‬لى‭ ‬كتباً‭ ‬من‭ ‬االمكتبة‭ ‬الخضراءب‭ ‬وعشراً‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬االمكتب‭ ‬رقم‭ ‬19ب‭ ‬لشريف‭ ‬شوقى،‭ ‬لكننى‭ ‬أيضاً‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬اكتشفت‭ ‬مكتبة‭ ‬المدرسة،‭ ‬وفى‭ ‬قرية‭ ‬مثل‭ ‬قريتنا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬مكتبة‭ ‬عامة‭ ‬إلا‭ ‬مكتبة‭ ‬المدرسة‭ ‬وكانت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كافية،‭ ‬وبخاصة‭ ‬فى‭ ‬وجود‭ ‬أمينات‭ ‬مكتبة،‭ ‬دائماً‭ ‬كن‭ ‬نساء،‭ ‬ودائماً‭ ‬كن‭ ‬طيبات‭ ‬معى‭ ‬وشديدات‭ ‬الحزم‭ ‬مع‭ ‬الآخرين،‭ ‬يحمين‭ ‬الكتب‭ ‬من‭ ‬أصابع‭ ‬زملائى‭ ‬الجاهلة‭ ‬ويقدمنها‭ ‬لى‭ ‬عن‭ ‬طيب‭ ‬خاطر،‭ ‬حتى‭ ‬الإنجيل‭ ‬عندما‭ ‬سألت‭ ‬عنه‭ ‬أمينة‭ ‬المكتبة‭ ‬وأنا‭ ‬فى‭ ‬ابتدائى‭ ‬جاءتنى‭ ‬به،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬على‭ ‬الرف‭ ‬مثل‭ ‬بقية‭ ‬الكتب،‭ ‬جاءتنى‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬خزانة،‭ ‬وفقط،‭ ‬كما‭ ‬أوضحتْ‭ ‬لى،‭ ‬لأننى‭ ‬أحفظ‭ ‬القرآن‭ ‬فهى‭ ‬لا‭ ‬تخشى‭ ‬علىَّ‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬الإنجيل،‭ ‬ولكننى‭ ‬لم‭ ‬أقرأه‭ ‬فعلاً‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬سنينب‭.‬

حين‭ ‬شاع‭ ‬فى‭ ‬العائلة‭ ‬أن‭ ‬شافعى‭ ‬أديب

بدأ‭ ‬شافعى‭ ‬يكتب‭ ‬حكايات‭ ‬وهو‭ ‬ربما‭ ‬فى‭ ‬الصف‭ ‬الثالث‭ ‬الابتدائى،‭ ‬وفى‭ ‬تلك‭ ‬السن‭ ‬المبكرة‭ ‬حقق‭ ‬أعظم‭ ‬ما‭ ‬يحلم‭ ‬به‭ ‬كاتب‭: ‬جماهيرية‭ ‬مطلقة‭ ‬فى‭ ‬اصالة‭ ‬بيتناب‭. ‬لم‭ ‬يعش‭ ‬لحظة‭ ‬نجاح‭ ‬ككاتب‭ ‬كالتى‭ ‬عاشها‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الأيام،‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬إخوته‭ ‬ينتظرون‭ ‬ـ‭ ‬بمثل‭ ‬اللهفة‭ ‬التى‭ ‬ينتظرون‭ ‬بها‭ ‬حلقة‭ ‬مسلسل‭ ‬البرادعى‭ ‬ـ‭ ‬الحلقة‭ ‬الجديدة‭ ‬التى‭ ‬سيكتبها‭ ‬أخوهم‭ ‬من‭ ‬امغامرات‭ ‬عاصم‭ ‬وهاديةب‭ ‬وهى‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬نسخة‭ ‬من‭ ‬األف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلةب‭ ‬كما‭ ‬شاهدها‭ ‬فى‭ ‬التليفزيون‭. ‬شاع‭ ‬عنه‭ ‬فى‭ ‬العائلة‭ ‬أنه‭ ‬اأديبب‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬جدته‭ ‬لأمه‭ ‬هنأته‭ ‬شخصياً‭ ‬بحصول‭ ‬محفوظ،‭ ‬باعتباره‭ ‬زميلاً،‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭. ‬يقول‭: ‬اظللت‭ ‬لسنين‭ ‬مطالباً‭ ‬بنوبل‭ ‬فى‭ ‬الأدب‭. ‬جدتى‭ ‬نفسها‭ ‬انتهزت‭ ‬الفرصة‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬لتؤكد‭ ‬مطالبتها‭ ‬لى‭ ‬بنوبل‭ ‬حينما‭ ‬فاز‭ ‬أحمد‭ ‬برادة‭ ‬بكأس‭ ‬العالم‭ ‬فى‭ ‬الإسكواش‭. ‬قالت‭ ‬إنها‭ ‬تنتظر‭ ‬منى‭ ‬بطولة‭ ‬العالم‭ ‬فى‭ ‬الأدبب‭.‬

مع‭ ‬حرب‭ ‬العراق‭ ‬والكويت‭ ‬كتب‭ ‬قصيدتين‭ ‬بالعامية‭ ‬كانت‭ ‬الموسيقى‭ ‬فيهما‭ ‬منضبطة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬بعيد،‭ ‬لكنه‭ ‬تفرغ‭ ‬بعدهما‭ ‬مباشرة‭ ‬للمسرح‭ ‬الشعرى‭ ‬الفصيح،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬قرأ‭ ‬مسرحية‭ ‬شعرية‭ ‬أصلاً،‭ ‬وأيضاً‭ ‬جاءت‭ ‬مسرحيته‭ ‬الأولى‭ ‬فى‭ ‬أربع‭ ‬صفحات‭ ‬فولسكاب،‭ ‬مستوحاة‭ ‬من‭ ‬المأزق‭ ‬العربى‭ ‬بعد‭ ‬غزو‭ ‬العراق‭ ‬للكويت،‭ ‬وأقرب‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬إلى‭ ‬قمة‭ ‬عربية‭ ‬شعرية‭. ‬اهتم‭ ‬أبوه‭ ‬بكتابته‭ ‬للشعر‭ ‬مثل‭ ‬اهتمامه‭ ‬بتحفيظه‭ ‬القرآن،‭ ‬فاصطحبه‭ ‬إلى‭ ‬مدرِّس‭ ‬فى‭ ‬القرية‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬أنه‭ ‬شاعر‭ ‬وله‭ ‬كتب‭ ‬مطبوعة‭ ‬وسلمه‭ ‬له،‭ ‬فتعهده‭ ‬هذا‭ ‬المدرس‭ ‬بالرعاية‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬البعيد‭ ‬فى‭ ‬أوائل‭ ‬التسعينيات‭ ‬وحتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭. ‬هو‭ ‬الشاعر‭ ‬والناقد‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬السيد‭ ‬إسماعيل‭ ‬الذى‭ ‬ظل‭ ‬أستاذه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬أستاذه‭ ‬وصديقه‭.‬

تعلم‭ ‬من‭ ‬مشاهدة‭ ‬التليفزيون‭ ‬ما‭ ‬يجعله‭ ‬يدين‭ ‬بالفضل‭ ‬فى‭ ‬تكوين‭ ‬جزء‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬وعيه‭ ‬لمسلسلات‭ ‬أسامة‭ ‬أنور‭ ‬عكاشة‭ ‬المبكرة،‭ ‬وبرامج‭ ‬تيلى‭ ‬سينما‭ ‬ونادى‭ ‬السينما‭ ‬وأوسكار،‭ ‬والشيخ‭ ‬الشعراوى‭ ‬وندوة‭ ‬للرأى‭ ‬وحديث‭ ‬الروح‭. ‬يقول‭ ‬شافعى‭ ‬إنه‭ ‬تعلم‭ ‬من‭ ‬التليفزيون‭ ‬والكتب‭ ‬ما‭ ‬يتعلمه‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬والشارع،‭ ‬وربما‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬الوضع‭ ‬هكذا‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭. ‬يقول‭: ‬افى‭ ‬أولى‭ ‬ثانوى‭ ‬أهدتنى‭ ‬جدتى‭ ‬لأمى‭ ‬ترانزستور‭ ‬أحمر‭ ‬صغيراً‭ ‬سونى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أغناها‭ ‬عنه‭ ‬التليفزيون‭ ‬فأغنانى‭ ‬أنا‭ ‬عن‭ ‬التليفزيون‭. ‬ارتبطت‭ ‬سنين‭ ‬بهذا‭ ‬المذياع‭ ‬الصغير‭. ‬اكتشفت‭ ‬إذاعة‭ ‬البرنامج‭ ‬الثانى،‭ ‬الثقافى‭ ‬لاحقاً،‭ ‬وتقديم‭ ‬دكتور‭ ‬حسين‭ ‬فوزى‭ ‬للموسيقى‭ ‬الكلاسيكية،‭ ‬والمسرحيات‭ ‬العالمية‭ ‬التى‭ ‬أخرجها‭ ‬بهاء‭ ‬طاهر‭ ‬ومحمود‭ ‬مرسى‭ ‬وآخرون‭ ‬للإذاعة،‭ ‬اكتشفت‭ ‬برامج‭ ‬منتصف‭ ‬الليل‭ ‬فى‭ ‬إذاعة‭ ‬البرنامج‭ ‬العام،‭ ‬غواص‭ ‬فى‭ ‬بحر‭ ‬النغم‭ ‬لعمار‭ ‬الشريعى،‭ ‬وزيارة‭ ‬لمكتبة‭ ‬فلان‭ ‬لنادية‭ ‬صالح،‭ ‬وشاهد‭ ‬على‭ ‬العصر‭ ‬لعمر‭ ‬بطيشة،‭ ‬وصحبة‭ ‬وأنا‭ ‬معهم‭ ‬لآمال‭ ‬العمدة،‭ ‬وكتاب‭ ‬عربى‭ ‬علم‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬إعداد‭ ‬الشاعر‭ ‬فوزى‭ ‬خضر،‭ ‬وبجانب‭ ‬الكتب‭ ‬طبعاً،‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬جميعاً‭ ‬مصادر‭ ‬تثقيف‭ ‬حقيقية‭ ‬عالجت‭ ‬مشكلة‭ ‬ندرة‭ ‬الكتب‭ ‬وصعوبة‭ ‬الحصول‭ ‬عليهاب‭.‬

ليس‭ ‬ذلك‭ ‬فقط‭: ‬اكان‭ ‬صدور‭ ‬أخبار‭ ‬الأدب‭ ‬إضافة‭ ‬أخرى‭. ‬الملفات‭ ‬التى‭ ‬أعدتها‭ ‬الجريدة‭ ‬عن‭ ‬الأدب‭ ‬الصوفى‭ ‬مثلاً،‭ ‬وتحقيقات‭ ‬نهاية‭ ‬العام‭ ‬عن‭ ‬أهم‭ ‬الكتب‭ ‬الصادرة،‭ ‬وحوارات‭ ‬كتّاب‭ ‬الستينيات‭ ‬وشعراء‭ ‬السبعينيات،‭ ‬أرشدتنى‭ ‬إلى‭ ‬وضع‭ ‬مناهج‭ ‬للقراءة‭. ‬أغلفة‭ ‬أخبار‭ ‬الأدب‭ ‬بدأت‭ ‬تثقيفى‭ ‬بصرياً‭ ‬وتعريفى‭ ‬بفنانين‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬بعضهم‭ ‬من‭ ‬الأثيرين‭ ‬عندى،‭ ‬بوتيرو،‭ ‬وماتيس،‭ ‬ومودليانى،‭ ‬وهوبر،‭ ‬كما‭ ‬منحتنى‭ ‬مجلة‭ ‬العربى‭ ‬مصدراً‭ ‬آخر،‭ ‬كنت‭ ‬أقص‭ ‬منها‭ ‬ومن‭ ‬مجلات‭ ‬زهيدة‭ ‬الأسعار‭ ‬جيدة‭ ‬الطباعة‭ - ‬مثل‭ ‬مجلة‭ ‬الكويت‭ ‬أو‭ ‬الصين‭ ‬الشعبية‭ ‬وغيرهما‭ ‬من‭ ‬الإصدارات‭ ‬النادرة‭ ‬التى‭ ‬كان‭ ‬تشق‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬الريف‭ - ‬صور‭ ‬لوحات‭ ‬لأعد‭ ‬كتالوجات‭ ‬لنفسىب‭.‬

قصيدة‭ ‬مطوية‭ ‬فى‭ ‬جيب‭ ‬قميصه

عرف‭ ‬من‭ ‬أخبار‭ ‬الأدب‭ ‬أن‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬شبين‭ ‬القناطر‭ ‬القريبة‭ ‬منه‭ ‬بيت‭ ‬ثقافة‭ ‬فيه‭ ‬ناد‭ ‬للأدب،‭ ‬وعرف‭ ‬موعد‭ ‬اجتماعه‭ ‬الأسبوعى،‭ ‬فذهب،‭ ‬بقصيدة‭ ‬مطوية‭ ‬فى‭ ‬جيب‭ ‬قميصه،‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أنه‭ ‬افسكوزب‭ ‬على‭ ‬الموضة‭ ‬فى‭ ‬النصف‭ ‬الثانى‭ ‬من‭ ‬التسعينيات‭. (‬شاهدتُ‭ ‬صورة‭ ‬لأحمد‭ ‬يرتدى‭ ‬فيها‭ ‬اقميص‭ ‬فسكوزب،‭ ‬وابنطلون‭ ‬بكسرب‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أنه‭ ‬استعطف‭ ‬الترزى‭ ‬ليزيدها‭ ‬بقدر‭ ‬المستطاع‭ ‬كما‭ ‬كنا‭ ‬نفعل‭ ‬جميعاً‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬لنباهى‭ ‬بها‭ ‬بعضنا‭ ‬البعض‭) ‬هناك‭ ‬تعرف‭ ‬بالشاعر‭ ‬مسعود‭ ‬شومان‭. ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬فى‭ ‬انادى‭ ‬الأدب‭ ‬المزعومب‭ ‬شخصاً‭ ‬غيره‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭. ‬جلسا‭ ‬يتكلمان‭ ‬ويتعارفان،‭ ‬ثم‭ ‬انتقلا‭ ‬إلى‭ ‬المقهى،‭ ‬وفى‭ ‬آخر‭ ‬السهرة‭ ‬تصافحا‭ ‬والتفت‭ ‬كل‭ ‬إلى‭ ‬طريقه،‭ ‬ثم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬افترقا‭ ‬ببضعة‭ ‬أمتار،‭ ‬ناداه‭ ‬شومان‭ ‬فالتفت‭ ‬إليه،‭ ‬صاح‭ ‬برقم‭ ‬هاتفه‭ ‬الأرضى،‭ ‬فحفظه‭ ‬شافعى‭. ‬يقول‭: ‬اربما‭ ‬لا‭ ‬ألتقى‭ ‬الآن‭ ‬بمسعود‭ ‬إلا‭ ‬نادراً،‭ ‬لكننى‭ ‬لم‭ ‬أزل‭ ‬أحفظ‭ ‬رقم‭ ‬هاتفه‭ ‬الأرضى‭ ‬القديم،‭ ‬بأرقامه‭ ‬الستة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أنها‭ ‬زيدت‭ ‬رقماًب‭.‬

صارا‭ ‬صديقين‭ ‬على‭ ‬الفور،‭ ‬رافقه‭ ‬إلى‭ ‬مقاهى‭ ‬وسط‭ ‬البلد،‭ ‬وتعرف‭ ‬على‭ ‬أصدقائه،‭ ‬كما‭ ‬عرفه‭ ‬شومان‭ ‬بالشاعر‭ ‬الراحل‭ ‬الكبير‭ ‬رفعت‭ ‬سلام‭ ‬فأتاح‭ ‬له‭ ‬تعلم‭ ‬بعض‭ ‬أهم‭ ‬دروس‭ ‬حياته‭ ‬فى‭ ‬الترجمة‭. ‬عرَّفه‭ ‬شومان‭ ‬أيضاً‭ ‬بالراحل‭ ‬الكبير‭ ‬طلعت‭ ‬الشايب‭ ‬فعرض‭ ‬عليه‭ ‬شافعى‭ ‬قصائد‭ ‬ترجمها‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الأفروأمريكى،‭ ‬وبدلاً‭ ‬من‭ ‬ملاحظات‭ ‬الشايب‭ ‬التى‭ ‬طلبها‭ ‬شافعى،‭ ‬فوجئ‭ ‬الأخير‭ ‬بترجماته‭ ‬منشورة‭ ‬فى‭ ‬االديوان‭ ‬الصغيرب‭ ‬وهو‭ ‬باب‭ ‬عظيم‭ ‬الأهمية‭ ‬فى‭ ‬اأدب‭ ‬ونقدب‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الإصدارات‭ ‬الأدبية‭ ‬فى‭ ‬مصر‭. ‬اكان‭ ‬مسعود‭ ‬شومان‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬الصديق‭ ‬ابن‭ ‬البلد‭ ‬المحرِّض‭ ‬على‭ ‬العملب‭.‬

مضت‭ ‬الخطوات‭ ‬سلسة،‭ ‬تفضى‭ ‬إحداها‭ ‬إلى‭ ‬الأخرى،‭ ‬القصائد‭ ‬التى‭ ‬يترجمها‭ ‬للجرائد‭ ‬والمجلات‭ ‬تتراكم‭ ‬وتطالب‭ ‬بأن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬كتب،‭ ‬الوقت‭ ‬الطويل‭ ‬الذى‭ ‬يضيع‭ ‬فى‭ ‬عمله‭ ‬الحكومى‭ ‬يضغط‭ ‬عليه‭ ‬كى‭ ‬يحسن‭ ‬استغلال‭ ‬سويعات‭ ‬الليل‭ ‬ليكتب‭ ‬ويترجم‭ ‬ما‭ ‬يعنيه،‭ ‬الإحباطات‭ ‬والتناقضات‭ ‬والتعاسات‭ ‬تتحول‭ ‬بسرعة‭ ‬إلى‭ ‬فن،‭ ‬فلا‭ ‬تتعفن‭ ‬بداخله‭. ‬أصبحت‭ ‬القاهرة‭ ‬مدينة‭ ‬عمله‭ ‬وأصدقائه‭ ‬وحبيبته،‭ ‬وكل‭ ‬خيط‭ ‬كان‭ ‬يُضاف‭ ‬إلى‭ ‬الخيوط‭ ‬التى‭ ‬تربطه‭ ‬بهذه‭ ‬المدينة‭ ‬كان‭ ‬ينقطع‭ ‬من‭ ‬الخيوط‭ ‬التى‭ ‬تربطه‭ ‬بقريته‭. ‬احينما‭ ‬أرجع‭ ‬النظر‭ ‬أجد‭ ‬أن‭ ‬أغلب‭ ‬سعيى‭ ‬فى‭ ‬سنوات‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬99‭ ‬و2005‭ ‬كان‭ ‬هرباً‭ ‬من‭ ‬مصائر‭ ‬لا‭ ‬تحقيقاً‭ ‬لأهداف،‭ ‬كنت‭ ‬مرعوباً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أتحول‭ ‬إلى‭ ‬موظف‭ ‬فى‭ ‬هيئة‭ ‬الاستعلامات،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬صعلوك‭ ‬فى‭ ‬وسط‭ ‬البلد‭. ‬كنت‭ ‬أخاف‭ ‬أن‭ ‬يلهينى‭ ‬الضجيج‭ ‬عن‭ ‬الإنصات‭ ‬للصوت‭ ‬الذى‭ ‬يتردد‭ ‬داخل‭ ‬كل‭ ‬شاعر،‭ ‬الهمس‭ ‬الذى‭ ‬على‭ ‬الشاعر‭ ‬أن‭ ‬يرهف‭ ‬السمع‭ ‬كى‭ ‬يقتنصه‭. ‬قصرت‭ ‬علاقتى‭ ‬بأصدقائى‭ ‬وبالمقاهى‭ ‬وبعالم‭ ‬وسط‭ ‬القاهرة‭ ‬كله‭ ‬على‭ ‬يوم،‭ ‬بل‭ ‬سويعات‭ ‬من‭ ‬يوم‭ ‬عمل‭ ‬عادى‭. ‬واستطعت‭ ‬أن‭ ‬أصدر‭ ‬فى‭ ‬نهاية‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬خمسة‭ ‬كتب،‭ ‬ديوانى‭ ‬الأول‭ ‬اطريق‭ ‬جانبى‭ ‬ينتهى‭ ‬بنافورةب،‭ ‬وروايتى‭ ‬الأولى‭ ‬"رحلة‭ ‬سوسوب،‭ ‬وثلاثة‭ ‬كتب‭ ‬مترجمة‭ ‬ضمن‭ ‬المشروع‭ ‬القومى‭ ‬للترجمة"‭.‬

ثم‭ ‬جاء‭ ‬تغيير‭..‬

حدث‭ ‬يوماً‭ ‬أن‭ ‬خرج‭ ‬شافعى‭ ‬غاضباً‭ ‬من‭ ‬مكتب‭ ‬رئيس‭ ‬الهيئة‭ ‬العامة‭ ‬للاستعلامات،‭ ‬وكان‭ ‬سفيراً‭ ‬انتدب‭ ‬من‭ ‬الخارجية‭ ‬لرئاسة‭ ‬الهيئة،‭ ‬وشافعى‭ ‬ـ‭ ‬برغم‭ ‬صغر‭ ‬سنه‭ ‬نسبياً‭ ‬ـ‭ ‬كان‭ ‬أقدم‭ ‬الموظفين‭ ‬فى‭ ‬مكتبه‭. ‬خرج‭ ‬من‭ ‬مكتبه‭ ‬غاضباً‭ ‬فكتب‭ ‬أول‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬فى‭ ‬حياته،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬تكتب‭ ‬أصلاً‭. ‬فقط‭ ‬كتب‭ ‬بياناته‭ ‬وثبْتاً‭ ‬بأعماله‭ ‬المنشورة،‭ ‬وبعث‭ ‬السيرة‭ ‬إلى‭ ‬أهم‭ ‬الجرائد‭ ‬فى‭ ‬أربعة‭ ‬بلاد‭ ‬خليجية‭ ‬تَصوَّر‭ ‬أنه‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬فيها،‭ ‬ولم‭ ‬تمض‭ ‬أسابيع‭ ‬إلا‭ ‬وقد‭ ‬تلقى‭ ‬عرضاً‭ ‬للعمل‭ ‬مترجماً‭ ‬فى‭ ‬جريدة‭ ‬عمان‭.‬

يحكى‭: ‬افاجأتنى‭ ‬مسقط‭ ‬بأنها‭ ‬حالة‭ ‬وسطى‭ ‬بين‭ ‬طحانوب‭ ‬والقاهرة‭. ‬هى‭ ‬مدينة‭ ‬طبعاً،‭ ‬لكنها‭ ‬ليست‭ ‬بهمجية‭ ‬القاهرة‭. ‬مدينة‭ ‬لكنها‭ ‬جميلة‭. ‬مدينة‭ ‬لكن‭ ‬لها‭ ‬قلب‭. ‬مدينة‭ ‬بوسعك‭ ‬فيها‭ ‬أن‭ ‬تنفرد‭ ‬بنفسك‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬بين‭ ‬أربعة‭ ‬جدران‭. ‬منحتنى‭ ‬مسقط‭ ‬العزلة‭ ‬بلا‭ ‬كفاح‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العزلة‭. ‬وفيها،‭ ‬استعدت‭ ‬علاقتى‭ ‬بالهواء‭ ‬الطلق‭ ‬بعد‭ ‬تنفس‭ ‬الهواء‭ ‬المستعمل‭ ‬فى‭ ‬القاهرة‭ ‬لسنوات‭. ‬وبرغم‭ ‬أى‭ ‬عناء‭ ‬مما‭ ‬يعرفه‭ ‬المصريون،‭ ‬بالذات،‭ ‬بسبب‭ ‬الغربة‭ ‬أبقى‭ ‬مديناً‭ ‬لمسقط‭ ‬بأنها‭ ‬أتاحت‭ ‬لى‭ ‬كل‭ ‬وقت‭ ‬الدنيا‭ ‬لأقرأ‭ ‬وأترجم‭ ‬وأتعلم،‭ ‬ولأتواصل‭ ‬مع‭ ‬جنسيات‭ ‬كثيرة،‭ ‬فتغيَّر‭ ‬فى‭ ‬وعيى‭ ‬الكثير‭. ‬لعل‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الدروس‭ ‬التى‭ ‬تعلمتها‭ ‬فى‭ ‬مسقط‭ ‬درساً‭ ‬سيجعلنى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ألقى‭ ‬الله‭ ‬لا‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬باعتباره‭ ‬ممثلاً‭ ‬لبلد‭ ‬أو‭ ‬لعرق‭ ‬أو‭ ‬دين،‭ ‬وألا‭ ‬أقبل‭ ‬أبداً‭ ‬بمقولات‭ ‬عامة‭ ‬تنتقص‭ ‬من‭ ‬جماعة‭ ‬من‭ ‬البشر‭. ‬فقدت‭ ‬بذوراً‭ ‬لشوفينية‭ ‬مقيتة‭ ‬كانت‭ ‬مغروسة‭ ‬فى‭ ‬نفسى‭ ‬فبت‭ ‬أمقت‭ ‬حتى‭ ‬ذكرها‭. ‬تكسرت‭ ‬لدىَّ‭ ‬الصور‭ ‬النمطية‭ ‬الشائعة‭ ‬عن‭ ‬االخلايجةب‭ ‬مثلاً،‭ ‬أو‭ ‬"الهنادوةب،‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬شديد‭ ‬الأهمية‭ ‬لا‭ ‬أغالى‭ ‬إذا‭ ‬قلت‭ ‬إنه‭ ‬يصلح‭ ‬حكماً‭ ‬على‭ ‬إنسانية‭ ‬أى‭ ‬إنسان"‭.‬

دقة‭ ‬أيوب‭ ‬

بعد‭ ‬سنوات‭ ‬شارفت‭ ‬على‭ ‬العقد،‭ ‬عاد‭ ‬شافعى‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭: ‬الا‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬شيئاً‭ ‬جوهرياً‭ ‬تغيّر‭ ‬فى‭ ‬حياتى‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬السبع‭ ‬الماضية‭ ‬منذ‭ ‬رجوعى‭ ‬إلى‭ ‬القاهرة‭. ‬لم‭ ‬أزل‭ ‬أقضى‭ ‬أغلب‭ ‬وقتى‭ ‬فى‭ ‬العمل،‭ ‬وبقيته‭ ‬مع‭ ‬أسرتى‭. ‬أتواصل‭ ‬مع‭ ‬أغلب‭ ‬أصدقائى‭ ‬عبر‭ ‬فيسبوك‭ ‬وما‭ ‬يماثله‭. ‬طبعاً‭ ‬صرت‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬أصدقائى‭ ‬فى‭ ‬مصر،‭ ‬لكن‭ ‬لقاءاتنا‭ ‬نادرة‭ ‬للغاية‭. ‬وهذا‭ ‬لا‭ ‬يمثل‭ ‬مشكلة‭ ‬حقيقية‭ ‬حينما‭ ‬تكون‭ ‬الصداقات‭ ‬نفسها‭ ‬حقيقية‭. ‬صدقنى‭ ‬حينما‭ ‬أقول‭ ‬لك‭ ‬عن‭ ‬إن‭ ‬إيمان‭ ‬مرسال‭ ‬مثلاً،‭ ‬وهى‭ ‬من‭ ‬أثمن‭ ‬الصداقات‭ ‬فى‭ ‬حياتى،‭ ‬إننى‭ ‬أعرف‭ ‬أخبارها‭ ‬أولاً‭ ‬فى‭ ‬أحلامى،‭ ‬ثم‭ ‬أتثبت‭ ‬من‭ ‬صحة‭ ‬هذه‭ ‬الأخبار‭ ‬عبر‭ ‬رسائل‭ ‬نتبادلها،‭ ‬أو‭ ‬مكالمات‭ ‬أحياناً‭. ‬كذلك‭ ‬لا‭ ‬ألتقى‭ ‬بكرم‭ ‬يوسف‭ ‬كثيراً،‭ ‬فقد‭ ‬تمر‭ ‬أسابيع‭ ‬دون‭ ‬تواصل،‭ ‬لكننى‭ ‬بطريقة‭ ‬غريبة‭ ‬حقاً‭ ‬لم‭ ‬أبحث‭ ‬لها‭ ‬أبداً‭ ‬عن‭ ‬تفسير،‭ ‬أجدها‭ ‬حاضرة‭ ‬فور‭ ‬أن‭ ‬يلزمنى‭ ‬صديق‭ ‬أبوح‭ ‬له‭ ‬بما‭ ‬يثقلنى‭. ‬يفاجئنى‭ ‬اتصال‭ ‬منها،‭ ‬أو‭ ‬رسالة‭. ‬وحتى‭ ‬تامر‭ ‬الصباغ،‭ ‬برغم‭ ‬صداقة‭ ‬عمرها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬قرن،‭ ‬لا‭ ‬أكاد‭ ‬أقابله‭ ‬أصلاً،‭ ‬لكننا‭ ‬معاً‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬بطريقتنا‭ ‬التى‭ ‬نعرفها‭. ‬حتى‭ ‬أنا‭ ‬وأنت،‭ ‬فقدنا‭ ‬فى‭ ‬الوباء‭ ‬وتيرة‭ ‬لقاءاتنا‭ ‬المنتظمة،‭ ‬ولكننا‭ ‬لم‭ ‬نفقد‭ ‬حوارنا‭ ‬القائم‭ ‬منذ‭ ‬سنين‭ ‬قبل‭ ‬هذا‭ ‬الـ"حوارب‭ ‬وبعده‭ ‬وبغض‭ ‬النظر‭ ‬عنه"‭.‬

لكن‭ ‬المفاجأة‭ ‬الكبيرة‭ ‬التى‭ ‬وجدها‭ ‬شافعى‭ ‬فى‭ ‬انتظاره‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬عمان‭ ‬هى‭ ‬عماد‭ ‬أبو‭ ‬صالح‭: ‬الم‭ ‬نصبح،‭ ‬عماد‭ ‬وأنا،‭ ‬صديقين‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬عودتى‭ ‬للاستقرار‭ ‬فى‭ ‬مصر‭. ‬قابلته‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬قبل‭ ‬سفرى‭ ‬فى‭ ‬2005،‭ ‬وفى‭ ‬حين‭ ‬أتذكر‭ ‬تلك‭ ‬المقابلة‭ ‬تماماً،‭ ‬فإن‭ ‬عماد‭ ‬لا‭ ‬يتذكرها‭ ‬نهائياً‭! ‬علاقتى‭ ‬بعماد‭ ‬فريدة‭ ‬بحق‭. ‬هى‭ ‬ليست‭ ‬صداقة‭ ‬وحسب‭. ‬كلمة‭ ‬الصداقة‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬فى‭ ‬حياتى‭ ‬تبدو‭ ‬قليلة‭. ‬علاقة‭ ‬فيها‭ ‬الأبوة،‭ ‬وفيها‭ ‬الأخوة،‭ ‬وفيها‭ ‬الزمالة‭. ‬لا‭ ‬نلتقى‭ ‬كثيراً،‭ ‬ليس‭ ‬كل‭ ‬أسبوع‭ ‬مثلاً،‭ ‬ولا‭ ‬نتكلم‭ ‬كثيراً،‭ ‬ليس‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬لكننا‭ ‬بمعنى‭ ‬من‭ ‬المعانى،‭ ‬لا‭ ‬نتوقف‭ ‬عن‭ ‬اللقاء‭. ‬عماد‭ ‬أصبح‭ ‬القارئ‭ ‬الذى‭ ‬أتصوره‭ ‬وأنا‭ ‬أكتب،‭ ‬أو‭ ‬أترجم،‭ ‬ولا‭ ‬أرضى‭ ‬عن‭ ‬عمل‭ ‬لى‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يجتز‭ ‬امتحان‭ ‬قراءته‭. ‬وأهم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬يتجاوز‭ ‬أسئلة‭ ‬الكتابة‭ ‬والقراءة‭ ‬إلى‭ ‬أسئلة‭ ‬الحياة،‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬والوجود،‭ ‬يتجاوز‭ ‬علاقة‭ ‬كاتب‭ ‬بكاتب،‭ ‬إلى‭ ‬رفقة‭ ‬ومحبة‭ ‬بين‭ ‬إنسان‭ ‬وإنسان"‭. ‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬شافعى‭ ‬قد‭ ‬تعلَّم‭ ‬شيئاً‭ ‬عبر‭ ‬سنوات‭ ‬عمره‭ - ‬التى‭ ‬جاوزت‭ ‬الأربعين‭ - ‬فهو‭ ‬أننا‭ ‬مساكين‭. ‬وإن‭ ‬بدا‭ ‬هذا‭ ‬بسيطاً‭ ‬جداً،‭ ‬وقليلا،‭ ‬قياساً‭ ‬إلى‭ ‬رحلة‭ ‬إنسان‭ ‬فى‭ ‬الحياة‭. ‬احتاج‭ ‬وقتاً‭ ‬طويلاً‭ ‬ليعرف‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬إنسان،‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأرض،‭ ‬يغلق‭ ‬فى‭ ‬نهاية‭ ‬اليوم‭ ‬عينيه‭ ‬على‭ ‬حقيقته‭ ‬العارية،‭ ‬على‭ ‬رفقته‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬مهرب‭ ‬له‭ ‬منها،‭ ‬على‭ ‬خطاياه‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬يعرفها‭ ‬غيره،‭ ‬ونقائصه‭ ‬التى‭ ‬لم‭ ‬يطلع‭ ‬عليها‭ ‬سواه‭. ‬يسأل‭: ‬"من‭ ‬الذى‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يفوز‭ ‬بجائزة‭ ‬أحط‭ ‬إنسان‭ ‬بين‭ ‬بنى‭ ‬البشر؟‭ ‬هتلر‭ ‬مثلاً؟‭ ‬هولاكو؟‭ ‬لعل‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬تعلمته‭ ‬إن‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬تعلمت‭ ‬شيئاً‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬خبرته‭ ‬فى‭ ‬حياتى‭ ‬فهو‭ ‬هذا‭: ‬أن‭ ‬أكره‭ ‬أعمال‭ ‬هتلر،‭ ‬وأشفق‭ ‬على‭ ‬هتلر‭. ‬أشفق‭ ‬عليه‭ ‬لأنه،‭ ‬مثل‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬آخر،‭ ‬بقى‭ ‬حتى‭ ‬اللحظة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬يخفى‭ ‬بكلامه‭ ‬وأفعاله‭ ‬وحركاته‭ ‬وسكناته‭ ‬حقيقة‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬يبكى‭ ‬منذ‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬أمه،‭ ‬يخفى‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬يعانى‭ ‬تلك‭ ‬الصدمة،‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬يعرف‭ ‬فى‭ ‬قرارة‭ ‬نفسه‭ ‬أنه‭ ‬صغير‭ ‬جداً‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬وحده‭ ‬هكذا‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬غريب‭ ‬كهذا‭ ‬اسمه‭ ‬الدنيا"‭.‬

يتميز‭ ‬شافعى‭ ‬فى‭ ‬عمله‭ ‬بالدقة،‭ ‬وهذه‭ ‬الدقة‭ ‬وراءها‭ ‬صبر‭ ‬أيوب،‭ ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يرضى‭ ‬عن‭ ‬شىء‭ ‬لمجرد‭ ‬أنه‭ ‬بذل‭ ‬فيه‭ ‬جهداً‭ ‬كبيراً‭ ‬أو‭ ‬مضنياً،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقبل‭ ‬بأول‭ ‬نتيجة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬بالنتيجة‭ ‬العاشرة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يشعر‭ ‬بالألفة‭ ‬معها،‭ ‬بأنها‭ ‬أقرب‭ ‬شىء‭ ‬يستطيعه‭ ‬إلى‭ ‬الكمال،‭ ‬يحكى‭: ‬"كنت‭ ‬دون‭ ‬السادسة‭ ‬حينما‭ ‬قرأت‭ ‬سيرة‭ ‬ذاتية‭ ‬قصيرة‭ ‬لأحمد‭ ‬شوقى،‭ ‬وحفظتها‭ ‬مثلما‭ ‬حفظت‭ ‬قصائده‭ ‬للأطفال‭. ‬ثم‭ ‬حدث‭ ‬فى‭ ‬الثانوية‭ ‬العامة‭ ‬أن‭ ‬درست‭ ‬كتاب‭ ‬د‭. ‬شوقى‭ ‬ضيف‭ ‬عن‭ ‬أحمد‭ ‬شوقى،‭ ‬ووجدت‭ ‬العالم‭ ‬الجليل‭ ‬يثبت‭ ‬لأمير‭ ‬الشعراء‭ ‬سنة‭ ‬ميلاد‭ ‬غير‭ ‬التى‭ ‬حفظتها‭ ‬وأنا‭ ‬ولد‭ ‬صغير‭. ‬وصدقنى‭: ‬صعب‭ ‬علىَّ‭ ‬كثيراً‭ ‬أن‭ ‬أقبل‭ ‬صواب‭ ‬شوقى‭ ‬ضيف‭ ‬بديلاً‭ ‬لخطأ‭ ‬طفولتى‭. ‬وهذا‭ ‬تحديداً‭ ‬ما‭ ‬يجعلنى‭ ‬أشقى‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أنشر،‭ ‬محاولاً‭ ‬قدر‭ ‬استطاعتى‭ ‬أن‭ ‬أضبط‭ ‬لغتى‭ ‬وأوثِّق‭ ‬معلوماتى،‭ ‬خوفاً‭ ‬على‭ ‬طفل‭ ‬صغير‭ ‬لعله‭ ‬فى‭ ‬قرية‭ ‬بعيدة‭ ‬يقرأ‭ ‬ما‭ ‬أكتبه‭ ‬ويثق‭ ‬فيه‭ ‬باعتباره‭ ‬االحقيقةب‭. ‬خوفى‭ ‬من‭ ‬سلطة‭ ‬الكلمة‭ ‬المطبوعة‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬هو‭ ‬سر‭ ‬كل‭ ‬الوسوسة‭ ‬التى‭ ‬تسيطر‭ ‬علىَّ"‭.‬

بصحبة‭ ‬كائنات‭ ‬مسحورة‭ ‬وأم‭ ‬كلثوم

يستيقظ‭ ‬أحمد‭ ‬فى‭ ‬الفجر‭ ‬تقريباً،‭ ‬يستمع‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬أحبَّته‭ ‬من‭ ‬الشيوخ،‭ ‬الحصرى،‭ ‬المنشاوى،‭ ‬البنّا،‭ ‬ثم‭ ‬يبدأ‭ ‬الترجمة،‭ ‬هائماً‭ ‬بين‭ ‬أرض‭ ‬غير‭ ‬الأرض،‭ ‬وسماء‭ ‬غير‭ ‬السماء،‭ ‬وبشر‭ ‬غير‭ ‬البشر،‭ ‬يعيش‭ ‬مع‭ ‬كائنات‭ ‬مسحورة،‭ ‬ويواجه‭ ‬مع‭ ‬أبطال‭ ‬مؤلفين‭ ‬غيره‭ ‬أهوالاً،‭ ‬ويدخل‭ ‬معهم‭ ‬مغامرات،‭ ‬وقد‭ ‬يتعذب‭ ‬ساعات‭ ‬ليجد‭ ‬معنى‭ ‬هارباً،‭ ‬أو‭ ‬ليصطاد‭ ‬تشبيهاً،‭ ‬أو‭ ‬ليشعر‭ ‬بأن‭ ‬الرائحة‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الكلمة‭ ‬هى‭ ‬رائحة‭ ‬زقاق‭ ‬فى‭ ‬حى‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬فى‭ ‬بلد‭ ‬فى‭ ‬قارة‭ ‬بعيدة،‭ ‬ثم‭ ‬يمنح‭ ‬نفسه‭ ‬بعد‭ ‬ساعات‭ ‬من‭ ‬المشقة‭ ‬مكافأة،‭ ‬تبلغ‭ ‬ذروتها‭ ‬فى‭ ‬أكلة‭ ‬سمك،‭ ‬وأغنية‭ ‬لأم‭ ‬كلثوم،‭ ‬وقيلولة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لبشرى‭ ‬أو‭ ‬جنىّ‭ ‬أن‭ ‬يوقظه‭ ‬منها،‭ ‬إذ‭ ‬يغلق‭ ‬هاتفه،‭ ‬ولو‭ ‬قامت‭ ‬القيامة‭ ‬فلن‭ ‬يعرف‭ ‬إلا‭ ‬حينما‭ ‬يستيقظ‭. ‬لكن‭ ‬شافعى‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬غرابة،‭ ‬فقد‭ ‬يستيقظ‭ ‬متضايقاً،‭ ‬غاضباً،‭ ‬وحانقاً،‭ ‬وساخطاً،‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شىء،‭ ‬على‭ ‬أوضاعه،‭ ‬وربما‭ ‬على‭ ‬أوضاع‭ ‬البشر،‭ ‬وهو‭ ‬شديد‭ ‬الحساسية‭ ‬فى‭ ‬التعاملات،‭ ‬ولا‭ ‬يقبل‭ ‬أبداً‭ ‬بخدش‭ ‬احترامه،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬بدا‭ ‬للبعض‭ ‬أنه‭ ‬يبالغ،‭ ‬وبسبب‭ ‬شىء‭ ‬بسيط‭ ‬للغاية،‭ ‬موقف‭ ‬عابر،‭ ‬كلمة‭ ‬عابرة،‭ ‬وربما‭ ‬إيماءة‭ ‬لم‭ ‬يحبها،‭ ‬قد‭ ‬يصيبه‭ ‬اكتئاب‭ ‬مزمن‭.. ‬فيبتعد،‭ ‬وتبدأ‭ ‬الهواجس‭ ‬فى‭ ‬محاصرته،‭ ‬عن‭ ‬الفقد،‭ ‬خاصة‭ ‬فقد‭ ‬الأصدقاء‭ ‬فى‭ ‬خلافات‭ ‬الحياة‭ ‬العادية‭. ‬يقول‭: ‬"أظن‭ ‬أن‭ ‬الوضع‭ ‬الطبيعى‭ ‬للإنسان‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬غاضباً،‭ ‬أو‭ ‬لنقل‭ ‬رافضاً‭. ‬فى‭ ‬علاقتى‭ ‬بالناس،‭ ‬ابتداء‭ ‬بأقربها‭ ‬وانتهاء‭ ‬بالمارة‭ ‬الذين‭ ‬أراهم‭ ‬أو‭ ‬يروننى،‭ ‬أعرف‭ ‬أننا‭ ‬جميعاً‭ ‬مؤقتون‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬بعضنا‭ ‬البعض،‭ ‬وأتصور‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬ينبغى‭ ‬أن‭ ‬نترك‭ ‬أثراً‭ ‬سلبياً‭. ‬حين‭ ‬أشعر‭ ‬أننى‭ ‬عبء،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬أحداً‭ ‬يمثل‭ ‬عبئاً‭ ‬على‭ ‬روحى،‭ ‬أو‭ ‬يشتتنى‭ ‬عن‭ ‬نفسى،‭ ‬فإننى‭ ‬أبتعد‭. ‬ولا‭ ‬أجد‭ ‬غضاضة‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬الآخرون‭ ‬هذا‭ ‬معى‭. ‬وأدين‭ ‬بفضل‭ ‬عظيم‭ ‬للنسيان،‭ ‬طبعاً‭ ‬هناك‭ ‬أوجاع‭ ‬تصطفيها‭ ‬الذاكرة‭ ‬وفق‭ ‬قوانين‭ ‬تعلمها‭ ‬هى‭ ‬ولا‭ ‬أعلمها،‭ ‬لكننى‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬أنسى‭. ‬وصدقنى،‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬الأشهر‭ ‬من‭ ‬انقطاع‭ ‬علاقتى‭ ‬بشخص،‭ ‬لن‭ ‬أجد‭ ‬ما‭ ‬أجيب‭ ‬به‭ ‬لو‭ ‬سُئلت‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬هذا‭ ‬الانقطاع‭. ‬أنسى‭ ‬فعلاً‭. ‬لا‭ ‬يبقى‭ ‬فى‭ ‬ذاكرتى‭ ‬إلا‭ ‬علامة‭ ‬إكس‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬الشخص،‭ ‬وطبعاً‭ ‬تكون‭ ‬العلامة‭ ‬بالأحمر"‭.‬

هو‭ ‬كذلك‭ ‬صريح،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬حاد‭ ‬فى‭ ‬صراحته،‭ ‬حاد‭ ‬فى‭ ‬آرائه،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬أغلبها‭ ‬دقيقاً‭ ‬ومبنياً‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬صادقة،‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬ضغينة،‭ ‬أو‭ ‬مواقف‭ ‬سلبية‭ ‬من‭ ‬أصحابها‭. ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬إبداء‭ ‬رأيه‭ ‬فى‭ ‬الكتابة‭ ‬الرديئة،‭ ‬بل‭ ‬يبدو‭ ‬أحياناً‭ ‬كمن‭ ‬يوفر‭ ‬طاقته‭ ‬فيقرر‭ ‬أن‭ ‬يعلن‭ ‬رأيه‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬فى‭ ‬جماعة‭ ‬كاملة‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬الرديئين‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬توفير‭ ‬الوقت‭ ‬والإنجاز‭!‬

حدث‭ ‬أن‭ ‬استيقظتُ‭ - ‬ذات‭ ‬صباح‭ - ‬ووجدت‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬رائحة‭ ‬شياط‭ ‬على‭ ‬الفيسبوك‭. ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الشاعرات‭ ‬الغاضبات،‭ ‬يتوعدن‭ ‬شخصاً‭ ‬ما‭ ‬بالحرق،‭ ‬وعبثاً‭ ‬حاولتُ‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬اسم‭ ‬الشخص‭ ‬المقصود‭ ‬من‭ ‬التعليقات،‭ ‬فاتصلت‭ ‬بشافعى،‭ ‬وحدثته‭ ‬عن‭ ‬ثورة‭ ‬الشاعرات‭ ‬على‭ ‬شخص‭ ‬ما،‭ ‬وسألته‭ ‬بسذاجة‭: ‬اتعرف‭ ‬يقصدوا‭ ‬مين؟‭!‬ب‭ ‬فقال‭ ‬ضاحكاً‭: ‬"أناب‭. ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يتذكر‭ ‬سبب‭ ‬تلك‭ ‬الواقعة‭. ‬يقول‭: ‬العلى‭ ‬على‭ ‬الأرجح‭ ‬كتبت‭ ‬شيئاً‭ ‬عن‭ ‬ندرة‭ ‬الشاعرات‭ ‬فى‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعر‭ ‬العالمى‭. ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬تجاسرت‭ ‬وقلت‭ ‬رأياً‭ ‬فى‭ ‬فروغ‭ ‬فرخزاد‭ ‬مثلاً‭. ‬لا‭ ‬أتذكر‭ ‬فعلاً‭. ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬أنساه‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬قصائد‭ ‬لشمبوركسا‭ ‬وإيميلى‭ ‬ديكنسن‭ ‬وتسفاتييفا‭ ‬وأخماتوفا‭ ‬مهمة‭ ‬لى‭ ‬شخصياً‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬كاتباتها‭ ‬نساء"‭.‬

متعة‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬لأحدهم‭: ‬يا‭ ‬ردىء‭!‬

هناك‭ ‬انطباع‭ ‬بأنه‭ ‬عدو‭ ‬للمرأة،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يفرق‭ ‬فى‭ ‬آرائه‭ ‬بين‭ ‬الجنسين،‭ ‬وقد‭ ‬صار‭ ‬قلمه‭ ‬الأحمر‭ ‬علامة‭ ‬رعب‭ ‬لبعض‭ ‬الكتاب،‭ ‬إذا‭ ‬وضعه‭ ‬مفتوحاً‭ ‬بجوار‭ ‬رواية‭ ‬أو‭ ‬ديوان‭ ‬أو‭ ‬كتاب‭ ‬فى‭ ‬صورة‭ ‬على‭ ‬فيسبوك‭ ‬فهذا‭ ‬يعنى‭ ‬أن‭ ‬صاحبه‭ ‬سيتعرض‭ ‬لحقنة‭ ‬سامة،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يلقى‭ ‬بالاً‭ ‬للمحاولات‭ ‬العكسية‭ ‬للتقليل‭ ‬مما‭ ‬يفعله،‭ ‬ومحاولة‭ ‬الإيحاء‭ ‬بأنه‭ ‬امصححب،‭ ‬لا‭ ‬ناقد،‭ ‬وأنه‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يصير‭ ‬ابعبع‭ ‬الكتّابب،‭ ‬لكنه‭ ‬حين‭ ‬يرى‭ ‬من‭ ‬يلمزه‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الأوصاف‭ ‬لا‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬الضحك،‭ ‬محققاً‭ ‬متعة‭ ‬أخرى،‭ ‬بخلاف‭ ‬متعته‭ ‬الأساسية‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬للكاتب‭ ‬الردىء‭: ‬"يا‭ ‬ردىء"‭!‬

يقول‭ ‬شافعى‭: ‬اليتنى‭ ‬كنت‭ ‬أمتلك‭ ‬من‭ ‬المعرفة‭ ‬والعلم‭ ‬ما‭ ‬يؤهلنى‭ ‬لأن‭ ‬أكون‭ ‬مصححاً‭. ‬أنا‭ ‬للأسف‭ ‬لا‭ ‬أمتلك‭ ‬حيال‭ ‬اللغة‭ ‬إلا‭ ‬ذائقة‭ ‬تكونت‭ ‬من‭ ‬حفظ‭ ‬القرآن‭ ‬فى‭ ‬طفولتى‭. ‬استعمالى‭ ‬للقلم‭ ‬الأحمر‭ ‬مجرد‭ ‬تفضيل‭ ‬شخصى،‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بقلم‭ ‬المعلمين،‭ ‬أحب‭ ‬وأنا‭ ‬أقرأ‭ ‬أن‭ ‬أترك‭ ‬فى‭ ‬كتبى‭ ‬علامات‭ ‬واضحة،‭ ‬وليس‭ ‬أوضح‭ ‬من‭ ‬الأحمر،‭ ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬أشير‭ ‬إلى‭ ‬عبارات‭ ‬جميلة،‭ ‬وأفكار‭ ‬جديرة‭ ‬بالرجوع‭ ‬إليها،‭ ‬وأتصور‭ ‬أحياناً‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬العلامات‭ ‬هى‭ ‬الإرث‭ ‬الوحيد‭ ‬الذى‭ ‬سوف‭ ‬أتركه‭ ‬لأبنائى‭. ‬أشير‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬الأخطاء،‭ ‬وأصححها‭ ‬أحياناً‭ ‬فى‭ ‬الهوامش،‭ ‬أخطاء‭ ‬النحو‭ ‬والإملاء،‭ ‬والعبارات‭ ‬الركيكة‭. ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أحمى‭ ‬ورثة‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬من‭ ‬اعتياد‭ ‬الخطأ‭. ‬صدقنى‭ ‬حينما‭ ‬أقول‭ ‬لك‭ ‬إننى‭ ‬أعتبر‭ ‬الإسراف‭ ‬فى‭ ‬الخطأ‭ ‬إهانة‭ ‬شخصية‭ ‬لى‭. ‬مرة‭ ‬أرسلت‭ ‬لى‭ ‬صديقة‭ ‬مخطوط‭ ‬قصة‭ ‬وبدأت‭ ‬أقرأها،‭ ‬وأنا‭ ‬مخلص‭ ‬جداً‭ ‬عند‭ ‬قراءة‭ ‬المخطوطات،‭ ‬وبعد‭ ‬بضعة‭ ‬سطور‭ ‬مليئة‭ ‬بأخطاء‭ ‬النحو‭ ‬واللغة‭ ‬بعثت‭ ‬أقول‭ ‬لها‭: ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬أنت‭ ‬غير‭ ‬مهتمة‭ ‬بقصتك‭ ‬فلماذا‭ ‬تتوقعين‭ ‬أن‭ ‬أهتم‭ ‬أنا‭ ‬بها؟‭ ‬وفعلاً،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬إهمال‭ ‬الكاتب‭ ‬عدم‭ ‬مبالاةٍ‭ ‬بى‭ ‬كقارئ،‭ ‬فكيف‭ ‬ينتظر‭ ‬منى‭ ‬أن‭ ‬أقابل‭ ‬إساءته‭ ‬هذه‭ ‬بالصمت؟‭ ‬رأيى‭ ‬أننا‭ ‬بحاجة‭ ‬كأدباء‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نقسو‭ ‬قليلاً‭ ‬على‭ ‬كتب‭ ‬بعضنا،‭ ‬لأنها‭ ‬أصبحت‭ ‬تِكْسف"‭.‬

والآن‭ ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تتخيل‭ ‬شافعى‭ ‬فى‭ ‬مشهد‭ ‬من‭ ‬فيلم‭ ‬كلاسيكى،‭ ‬بطلاً‭ ‬يمسك‭ ‬وردة،‭ ‬ينتزع‭ ‬بتلاتها‭ ‬واحدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى،‭ ‬لكن‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تحذف‭ ‬الوردة‭ ‬فى‭ ‬مشهدنا‭ ‬الواقعى‭ ‬وتضع‭ ‬بدلاً‭ ‬منها‭ ‬رواية‭. ‬فهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬بالفعل‭. ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬قرر‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬بشكل‭ ‬روتينى‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬رواية‭ ‬جديدة،‭ ‬قرأ‭ ‬صفحة‭ ‬أو‭ ‬اثنتين،‭ ‬ثم‭ ‬شعر‭ ‬بخفقان‭ ‬زائد‭ ‬عن‭ ‬الحد،‭ ‬وضربه‭ ‬التوتر،‭ ‬ولم‭ ‬يهدأ‭ ‬إلا‭ ‬حينما‭ ‬استقر‭ ‬على‭ ‬الطريقة‭ ‬المثلى‭ ‬لقراءة‭ ‬تلك‭ ‬الرواية‭: ‬أن‭ ‬يقطع‭ ‬كل‭ ‬صفحة‭ ‬يقرأها‭ ‬ويرميها‭ ‬فى‭ ‬سلة‭ ‬القمامة،‭ ‬وحين‭ ‬ينتهى‭ ‬من‭ ‬القراءة‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬رواية‭. ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬أن‭ ‬يكمل‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬نصفها،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬النصف‭ ‬الناجى‭ ‬منها‭ ‬فى‭ ‬مكتبته‭ ‬إلى‭ ‬الآن،‭ ‬يستقر‭ ‬مائلاً‭ ‬مثل‭ ‬شخص‭ ‬معطوب‭ ‬نصف‭ ‬عارٍ‭ ‬وسط‭ ‬أشخاص‭ ‬موفورى‭ ‬الصحة‭ ‬لامعى‭ ‬الأغلفة‭! ‬

اختفى‭ ‬مع‭ ‬رواية

ابتعدنا‭ ‬عن‭ ‬رواية‭ ‬شافعى‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬حوارنا‭ ‬انطلق‭ ‬منها،‭ ‬أقول‭ ‬له‭ ‬ذلك‭ ‬فيبتسم،‭ ‬منتظراً‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬أى‭ ‬تسديدة‭ ‬منى‭ ‬ليصدَّها‭ ‬كحارس‭ ‬مرمى‭ ‬محنك‭! ‬

حينما‭ ‬كتب‭ ‬شافعى‭ ‬الماذا‭ ‬لا‭ ‬تزرع‭ ‬شجرةب‭ ‬كان‭ ‬فى‭ ‬أحد‭ ‬اختفاءاته،‭ ‬التى‭ ‬يخمن‭ ‬أصدقاؤه‭ ‬خلالها‭ ‬أنه‭ ‬ربما‭ ‬يصارع‭ ‬أفكاراً‭ ‬مقبضة‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭ ‬والخسة‭ ‬وفقدان‭ ‬الأمل‭ ‬واحتكار‭ ‬السعادة‭ ‬والاستيقاظ‭ ‬هلِعاً‭. ‬لكن‭ ‬تبين‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬مختفياً‭ ‬مع‭ ‬رواية‭. ‬جاءت‭ ‬روايته‭ ‬مثل‭ ‬صرخة‭ ‬غضب،‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬صرخة‭ ‬خوف،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬بطلها‭ ‬كامل‭ ‬كان‭ ‬مقيداً‭ ‬كحيوان‭ ‬فى‭ ‬كرسى،‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬حتى‭ ‬تحريك‭ ‬مقعدته،‭ ‬أو‭ ‬التبرز‭ ‬إلا‭ ‬بمساعدة‭ ‬خاطفه،‭ ‬ووضع‭ ‬كهذا‭ ‬جعلنى‭ ‬أغلق‭ ‬الرواية‭ ‬بعد‭ ‬صفحات،‭ ‬شاعراً‭ ‬بالاختناق،‭ ‬متخيلاً‭ ‬نفسى‭ ‬على‭ ‬كرسى‭ ‬مكبلاً‭ ‬بأغلال‭ ‬ثقيلة‭ ‬تلتف‭ ‬كثعابين‭ ‬حول‭ ‬جسدى‭.‬

تخيلت‭ ‬أن‭ ‬شافعى‭ ‬نقل‭ ‬إلينا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يشعر‭ ‬به،‭ ‬لكن‭ ‬تصورى‭ ‬كان‭ ‬خاطئاً‭: ‬الم‭ ‬يراودنى‭ ‬هذا‭ ‬الإحساس‭ ‬بالاختناق‭ ‬وأنا‭ ‬أكتب،‭ ‬لكنه‭ ‬راودنى‭ ‬ومنعنى‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬روايات‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬لأسباب‭ ‬مماثلة‭ ‬للإحساس‭ ‬بالاختناق،‭ ‬صعب‭ ‬علىَّ‭ ‬أن‭ ‬أقرأ‭ ‬روايات‭ ‬مثل‭ ‬االمسخب‭ ‬لكافكا‭ ‬أو‭ ‬االغريبب‭ ‬لكامو،‭ ‬وللسبب‭ ‬نفسه‭ ‬تصعب‭ ‬علىَّ‭ ‬مشاهدة‭ ‬أفلام‭ ‬بعينها‭. ‬لا‭ ‬يبارح‭ ‬ذاكرتى‭ ‬مثلاً‭ ‬دفن‭ ‬البطلة‭ ‬حيّة‭ ‬فى‭ ‬فيلم‭ ‬لتارنتينو‭. ‬لذلك‭ ‬ألتمس‭ ‬كل‭ ‬العذر‭ ‬لقارئ‭ ‬قد‭ ‬يعجز‭ ‬عن‭ ‬إكمال‭ ‬روايتى‭ ‬لسبب‭ ‬مماثل،‭ ‬رغم‭ ‬أنى‭ ‬أتصور‭ ‬أن‭ ‬النص‭ ‬عندى‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬لحظة‭ ‬الخطف‭ ‬وتفاصيله‭ ‬بسرعة‭ ‬فى‭ ‬صفحات‭ ‬الرواية‭ ‬الأولى،‭ ‬وربما‭ ‬هذه‭ ‬نقطة‭ ‬ضعف،‭ ‬أقول‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬ينبغى‭ ‬إرجاء‭ ‬هذا‭ ‬الوصف،‭ ‬أو‭ ‬توزيعه‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬الرواية‭. ‬برغم‭ ‬هذا،‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬كلمنى‭ ‬عن‭ ‬الرواية‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬أنهاها‭ ‬فى‭ ‬جلسة‭ ‬قراءة‭ ‬واحدة،‭ ‬فهل‭ ‬هذا‭ ‬حدث‭ ‬برغم‭ ‬الإحساس‭ ‬بالاختناق،‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬ينفى‭ ‬الإحساس‭ ‬بالاختناق‭ ‬أصلاً؟‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬ستكون‭ ‬إجابة‭ ‬كل‭ ‬قارئ"‭.‬

واحدة‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬الخطيرة‭ ‬فى‭ ‬الرواية‭ ‬كذلك‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تعطى‭ ‬أى‭ ‬إحساس‭ ‬بالأمل،‭ ‬كأن‭ ‬شافعى‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬روايته‭ ‬متاهة‭ ‬كاملة،‭ ‬أو‭ ‬كابوساً‭ ‬خانقاً،‭ ‬لكنه‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬لا‭ ‬يوافقنى‭. ‬يقول‭: ‬اأتذكر‭ ‬كتاباً‭ ‬حوارياً‭ ‬قال‭ ‬فيه‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬لغالى‭ ‬شكرى‭: ‬إياك‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬إننا‭ ‬باعة‭ ‬أوهام‭. ‬الحقيقة‭ ‬لا‭ ‬أتذكر‭ ‬السؤال‭ ‬أو‭ ‬السياق،‭ ‬لكنى‭ ‬لا‭ ‬أنسى‭ ‬هذه‭ ‬الجملة،‭ ‬ولا‭ ‬أكف‭ ‬عن‭ ‬الاستعانة‭ ‬بها‭. ‬مع‭ ‬ذلك،‭ ‬لست‭ ‬متأكداً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬متشائمة،‭ ‬أو‭ ‬تغلق‭ ‬باب‭ ‬الأمل‭. ‬ما‭ ‬أعرفه‭ ‬يقينا‭ ‬أنها‭ ‬تقول‭ ‬لكل‭ ‬إنسان‭ ‬إن‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يمنح‭ ‬الأمل‭ ‬لنفسه،‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الإله‭ ‬الذى‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يكونه‭ ‬أو‭ ‬يبقى‭ ‬عبداً‭. ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬لكامل‭ ‬فى‭ ‬ظنى‭ ‬فرصة‭ ‬قلّ‭ ‬أن‭ ‬ينالها‭ ‬أحد‭. ‬كان‭ ‬فى‭ ‬يد‭ ‬الخاطف‭ ‬الغاشمة‭ ‬حنان‭ ‬ما‭ ‬حين‭ ‬أتاح‭ ‬له‭ ‬فرصة‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬قيوده،‭ ‬"عنى‭ ‬قيوده‭ ‬الحقيقية‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظره،‭ ‬أى‭ ‬كامل،‭  ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬التخلص‭ ‬منها‭ ‬إن‭ ‬شاء‭. ‬أما‭ ‬المتاهة‭ ‬فلا‭. ‬فى‭ ‬ظنى‭ ‬أن‭ ‬فضيلة‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬بالنسبة‭ ‬لى‭ ‬كإنسان‭ ‬هو‭ ‬وضوحها‭. ‬تسميتها‭ ‬الأشياء‭ ‬بأسمائها،‭ ‬وأنها‭ ‬لا‭ ‬تصنع‭ ‬متاهة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تفضح‭ ‬وجودها"‭. ‬

أقول‭ ‬لشافعى‭ ‬إن‭ ‬الأدب‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬يتخلى‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬أو‭ ‬وظيفة‭ ‬ولو‭ ‬ثانوية،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬تلك‭ ‬الوظيفة‭ ‬البدائية‭ ‬هى‭ ‬منح‭ ‬ذلك‭ ‬الأمل‭ ‬فيرد‭: ‬الا‭ ‬يجب‭ ‬فرض‭ ‬أى‭ ‬وظيفة‭ ‬على‭ ‬الأدب،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يوجد،‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬إضافة‭ ‬للمخزون‭ ‬الإنسانى‭ ‬من‭ ‬الجمال،‭ ‬لكن‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬فعل‭ ‬كتابة‭ ‬الأدب‭ ‬فى‭ ‬ذاته‭ ‬جدير‭ ‬بأن‭ ‬يمنحنا‭ ‬الأمل‭. ‬مجرد‭ ‬اقتطاع‭ ‬إنسان‭ ‬بعضاً‭ ‬من‭ ‬وقته‭ ‬وطاقته‭ ‬وروحه‭ ‬لممارسة‭ ‬عمل‭ ‬لا‭ ‬جزاء‭ ‬له‭ ‬إلا‭ ‬نفسه‭ ‬كأنه‭ ‬الصلاة،‭ ‬هذا‭ ‬ينبغى‭ ‬أن‭ ‬يمنحنا‭ ‬الأمل،‭ ‬فى‭ ‬عالم‭ ‬لا‭ ‬يعترف‭ ‬للأشياء‭ ‬بقيمتها‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬لها‭ ‬إلا‭ ‬أثمانها،‭ ‬ينبغى‭ ‬أن‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬فعل‭ ‬إنتاج‭ ‬الأدب‭ ‬بكتابته‭ ‬وبقراءته‭ ‬لا‭ ‬باعتباره‭ ‬وسيلة‭ ‬فقط‭ ‬لمنح‭ ‬الأمل‭ ‬بل‭ ‬باعتباره‭ ‬أداة‭ ‬يقاوم‭ ‬بها‭ ‬الإنسان‭ ‬تسلط‭ ‬القبح"‭.‬

أسأله‭ ‬عن‭ ‬اللحظة‭ ‬التى‭ ‬خطرت‭ ‬له‭ ‬فيها‭ ‬فكرة‭ ‬الرواية‭: ‬االلحظة‭ ‬واضحة‭ ‬تماماً‭ ‬فى‭ ‬ذاكرتى‭. ‬وجدت‭ ‬نفسى،‭ ‬فى‭ ‬سكون‭ ‬ليلة‭ ‬من‭ ‬رمضان،‭ ‬أتمتم‭ ‬بنص‭ ‬السؤال‭ ‬المتكرر‭ ‬فى‭ ‬الرواية‭. ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬سؤالاً‭ ‬منى‭ ‬لنفسى‭. ‬أظن‭ ‬أننى‭ ‬كان‭ ‬ينبغى‭ ‬أن‭ ‬أحار‭ ‬حيرة‭ ‬"كامل"‭ ‬لولا‭ ‬أننى‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬مخطوفاً‭ ‬ولا‭ ‬مقيداً‭ ‬ولا‭ ‬مهدداً،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬بالمعنى‭ ‬المادى‭ ‬للخطف‭ ‬والتقييد‭ ‬والتهديد‭. ‬خرجت‭ ‬على‭ ‬روتينى‭ ‬المقدس‭ ‬فى‭ ‬ليالى‭ ‬رمضان،‭ ‬وبدأت‭ ‬أكتب،‭ ‬مثلما‭ ‬تُكتب‭ ‬قصيدة‭ ‬لا‭ ‬كما‭ ‬تُكتب‭ ‬رواية،‭ ‬بلا‭ ‬ملامح‭ ‬لحبكة،‭ ‬بلا‭ ‬معرفة‭ ‬لشخصيات‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬تاريخها‭ ‬ومآلاتها‭. ‬كنت‭ ‬أكتب‭ ‬باندفاع،‭ ‬ولليالٍ‭ ‬متتابعة،‭ ‬مضيت‭ ‬أتعرف‭ ‬على‭ ‬كامل‭ ‬وأتوحد‭ ‬به‭ ‬وأتكلم‭ ‬باسمه‭. ‬أصدق‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أقوله‭ ‬عن‭ ‬كتابة‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬قلته‭ ‬للتو‭: ‬أنها‭ ‬كتبت‭ ‬مثلما‭ ‬تكتب‭ ‬قصيدة"‭.‬

تمنح‭ ‬الرواية‭ ‬الخاطف‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬التحكم‭ ‬بالطبع،‭ ‬وتمنحه‭ ‬كذلك‭ ‬صفات‭ ‬كبرى،‭ ‬كالإلمام‭ ‬التام‭ ‬بما‭ ‬يدور‭ ‬فى‭ ‬عقلية‭ ‬البطل،‭ ‬كأنه‭ ‬عالم‭ ‬نفس‭ ‬قدير،‭ ‬تمنحه‭ ‬كذلك‭ ‬قدرة‭ ‬واسعة‭ ‬على‭ ‬الخيال‭ ‬والتجريب،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬تجريب‭ ‬طرق‭ ‬جديدة‭ ‬للتعذيب‭. ‬يستمع‭ ‬شافعى‭ ‬ثم‭ ‬يقول‭: ‬"أظن‭ ‬أن‭ ‬خفاء‭ ‬هذا‭ ‬الخاطف‭ ‬هو‭ ‬أوضح‭ ‬صفاته‭ ‬وأهمها‭ ‬فيما‭ ‬يعنينى،‭ ‬وهى‭ ‬الصفة‭ ‬التى‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ترفعه‭ ‬عن‭ ‬بشريته‭ ‬وتجعله،‭ ‬فى‭ ‬قراءة‭ ‬ما‭ ‬للرواية،‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬قوة‭ ‬مهيمنة،‭ ‬ميتافيزيقية‭ ‬حتى،‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬إنسان‭. ‬كل‭ ‬الصفات‭ ‬الأخرى‭ ‬التى‭ ‬قد‭ ‬يوصف‭ ‬بها‭ ‬الخاطف‭ ‬تكشف‭ ‬شخصية‭ ‬القارئ‭ ‬أو‭ ‬المخطوف‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تكشف‭ ‬شخصية‭ ‬الخاطف‭. ‬هى‭ ‬تصورات‭ ‬القارئ‭ ‬أو‭ ‬كامل‭ ‬عن‭ ‬القوة‭ ‬والسلطة‭ ‬ولا‭ ‬ينبغى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بالضرورة‭ ‬تصورات‭ ‬صحيحة‭. ‬الأمر‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬إلى‭ ‬تصورات‭ ‬المؤمنين‭ ‬بإله‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الإله‭. ‬السلفيون‭ ‬مثلاً‭ ‬فى‭ ‬الإسلام‭ ‬يرون‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الجنة‭ ‬والنار،‭ ‬العصا‭ ‬والجزرة،‭ ‬يعبدون‭ ‬الله‭ ‬خوفاً‭ ‬ورجاء،‭ ‬وهذا‭ ‬مشروع‭ ‬طبعا‭ ‬ومفهوم‭. ‬غيرهم،‭ ‬الصوفية‭ ‬مثلاً،‭ ‬لا‭ ‬يرون‭ ‬الله‭ ‬بهذا‭ ‬الشكل،‭ ‬فهم‭ ‬يعبدونه‭ ‬حباً،‭ ‬يرونه‭ ‬جديراً‭ ‬بالمحبة‭ ‬والعبادة‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يعدهم‭ ‬بجنة‭ ‬أو‭ ‬يخوفهم‭ ‬بنار‭. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬نفس‭ ‬ونفس،‭ ‬بين‭ ‬إنسان‭ ‬يؤمن‭ ‬بأنه‭ ‬مخلوق‭ ‬من‭ ‬طين‭ ‬وإنسان‭ ‬يؤمن‭ ‬بأنه‭ ‬نفخة‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬الله"‭.‬

تُنزع‭ ‬الخصوصية‭ ‬عن‭ ‬بطل‭ ‬شافعى‭ ‬مثل‭ ‬شخصيات‭ ‬بازولينى‭ ‬التى‭ ‬أُجبرت‭ ‬فى‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬على‭ ‬أكل‭ ‬الغائط‭. ‬يقول‭ ‬شافعى‭: ‬اأتفهم‭ ‬تماماً‭ ‬النفور‭ ‬من‭ ‬مشاهد‭ ‬التغوط‭ ‬والتبول‭ ‬فى‭ ‬الرواية،‭ ‬لكنها‭ ‬فى‭ ‬تقديرى‭ ‬شديدة‭ ‬الأهمية‭. ‬فعندما‭ ‬أستعيد‭ ‬الرواية‭ ‬الآن‭ ‬لا‭ ‬أكاد‭ ‬أتذكر‭ ‬غيرها‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬جريمة‭ ‬اختطاف‭ ‬قد‭ ‬ارتُكبت‭. ‬مشاهد‭ ‬الإطعام‭ ‬أيضاً‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬الجريمة‭ ‬وقعت‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬حكاية‭ ‬الخطف‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬وهم‭ ‬توهمه‭ ‬كامل‭. ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬تسعفنى‭ ‬صنعة‭ ‬الروائيين‭ ‬المحترفين،‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أرى‭ ‬نفسى‭ ‬روائياً‭ ‬محترفاً،‭ ‬فأحقق‭ ‬هذا‭ ‬الإيهام‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬الحيل‭ ‬أو‭ ‬بحيل‭ ‬أخرى‭. ‬كنت‭ ‬بحاجة‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أضع‭ ‬"كامل"‭ ‬فى‭ ‬موضع‭ ‬يرى‭ ‬فيه‭ ‬قدر‭ ‬الإهانة‭ ‬الذى‭ ‬يتعرض‭ ‬له‭ ‬عسى‭ ‬أن‭ ‬يغضب‭ ‬ويقلع‭ ‬غماه‭ ‬بتعبير‭ ‬صلاح‭ ‬جاهين‭ ‬ويرفض‭ ‬يلف"‭.‬

حكيت‭ ‬لأدهم‭ ‬ورامة‭ ‬عن‭ ‬بطلى

لم‭ ‬أحب‭ ‬اسم‭ ‬بطل‭ ‬الرواية‭ ‬اكاملب‭ ‬فقد‭ ‬بدا‭ ‬كأن‭ ‬شافعى‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يحقق‭ ‬معنى‭ ‬مباشراً‭ ‬وعكسياً‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬مثل‭ ‬االنقصانب‭. ‬يقول‭: ‬الم‭ ‬يكن‭ ‬بطل‭ ‬الرواية،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يخفى‭ ‬عليك،‭ ‬يحمل‭ ‬اسم‭ ‬كامل‭. ‬عندما‭ ‬خطر‭ ‬لى‭ ‬السؤال‭ ‬المتكرر‭ ‬فى‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬خطر‭ ‬لى‭ ‬باسمك‭ ‬أنت،‭ ‬فقد‭ ‬كنا‭ ‬دائمى‭ ‬التواصل‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭. ‬وظلت‭ ‬الرواية‭ ‬تحمل‭ ‬اسم‭ ‬احسنب‭ ‬حتى‭ ‬فى‭ ‬عنوانها‭ ‬وبهذا‭ ‬الاسم‭ ‬قرأها‭ ‬مراجعى‭ ‬الثلاثة،‭ ‬أنت‭ ‬وعماد‭ ‬أبوصالح‭ ‬وتامر‭ ‬الصباغ‭. ‬وعندما‭ ‬اطمأننت‭ ‬منكم‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬بين‭ ‬يدى‭ ‬رواية‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتلقاها‭ ‬غيرى‭ ‬بدأت‭ ‬أقرأها‭ ‬فعلاً‭ ‬كما‭ ‬قد‭ ‬يقرأها‭ ‬غيرى،‭ ‬ورأيت‭ ‬أن‭ ‬أسخر‭ ‬بطريقتى‭ ‬من‭ ‬البطل،‭ ‬فسميته‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬التهكم‭ ‬باسمه‭ ‬هذا‭ ‬الذى‭ ‬تناقضه‭ ‬شخصيته‭. ‬عندما‭ ‬سألنى‭ ‬أدهم‭ ‬ورامة‭ ‬عن‭ ‬كتابى‭ ‬الجديد‭ ‬حكيت‭ ‬لهما‭ ‬بينما‭ ‬"عد‭ ‬القهوة‭ ‬موجز‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬فسألانى‭ ‬عن‭ ‬رأيى‭ ‬فى‭ ‬كامل‭ ‬الذى‭ ‬لم‭ ‬يرجع‭ ‬فى‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬وأولاده‭. ‬وجدت‭ ‬نفسى‭ ‬أقول‭ ‬لهما‭ ‬ببساطة‭ ‬شديدة‭ ‬إنه‭ ‬شخص‭ ‬غير‭ ‬ناضج،‭ ‬وأوضحت‭: ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬حريته‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يخلَّ‭ ‬بواجباته"‭.‬

كانت‭ ‬رواية‭ ‬شافعى‭ ‬مغرية‭ ‬بأن‭ ‬تكون‭ ‬أكبر‭ ‬حجماً،‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يمنح‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬شخصياتها‭ ‬حق‭ ‬التكلم‭. ‬يقول‭: ‬اهيمنجواى‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬االشيخ‭ ‬والبحرب‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تُكتب‭ ‬فى‭ ‬مثل‭ ‬حجم‭ ‬اموبى‭ ‬ديكب،‭ ‬وبالمثل‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تُكتب‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬فى‭ ‬أضعاف‭ ‬حجمها‭ ‬هذا،‭ ‬لكن‭ ‬بصيغة‭ ‬أخرى،‭ ‬أكثر‭ ‬اتساقاً‭ ‬مع‭ ‬أعراف‭ ‬الرواية‭ ‬التقليدية،‭ ‬وربما‭ ‬كانت‭ ‬فى‭ ‬نسختها‭ ‬المحتملة‭ ‬هذه‭ ‬لتحقق‭ ‬مزايا‭ ‬مهمة‭ ‬تنقصها‭ ‬فى‭ ‬نسختها‭ ‬الحالية،‭ ‬منها‭ ‬مثلاً،‭ ‬وفى‭ ‬المقام‭ ‬الأكبر،‭ ‬كما‭ ‬أشرت،‭ ‬أن‭ ‬يتكلم‭ ‬الآخرون‭. ‬الأم‭ ‬والزوجة‭ ‬والأبناء‭ ‬وكل‭ ‬الذين‭ ‬أخرسهم‭ ‬كامل‭ ‬لينفرد‭ ‬وحده‭ ‬بالحق‭ ‬فى‭ ‬الكلام،‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬ستصبح‭ ‬رواية‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬التى‭ ‬منحتنى‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الشخصى‭ ‬فرصة‭ ‬أن‭ ‬أرى‭ ‬العالم‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬أره‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬والرواية‭ ‬على‭ ‬حجمها‭ ‬الصغير‭ ‬هذا‭ ‬أتاحت‭ ‬لى‭ ‬أن‭ ‬أتكلم‭ ‬عن‭ ‬الشجر‭ ‬وملامح‭ ‬الثمانينيات‭ ‬والتسعينيات‭ ‬وأن‭ ‬أستعرض‭ ‬بعض‭ ‬أفكارى‭ ‬عن‭ ‬الترجمة،‭ ‬وعن‭ ‬مؤسسة‭ ‬الزواج،‭ ‬حتى‭ ‬أنك‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تقرأ‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كليشيه‭ ‬االرواية‭ ‬ديوان‭ ‬العربب‭ ‬سيئ‭ ‬السمعة‭ ‬عن‭ ‬حق،‭ ‬أو‭ ‬كليشيه‭ ‬"الأدب‭ ‬مرآة‭ ‬المجتمعب‭ ‬الأسوأ‭ ‬سمعة،‭ ‬والأحق‭ ‬بسوء‭ ‬السمعة،‭ ‬فترى‭ ‬فيها‭ ‬تأريخاً‭ ‬ما‭ ‬لأسرة‭ ‬مصرية‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬العقود‭ ‬الأربعة‭ ‬الماضية"‭.‬

تبدو‭ ‬الرواية‭ ‬وكأنها‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬جميع‭ ‬البشر‭ ‬يتحولون‭ ‬إلى‭ ‬طغاة‭ ‬لو‭ ‬أتيحت‭ ‬لهم‭ ‬الفرصة،‭ ‬بدليل‭ ‬أن‭ ‬اكاملب‭ ‬نفسه‭ ‬تحرش‭ ‬فى‭ ‬صباه‭ ‬بفتاة‭ ‬معاقة،‭ ‬فهل‭ ‬هذا‭ ‬صحيح؟‭ ‬يجيب‭ ‬شافعى‭: ‬"لعل‭ ‬الإجابة‭ ‬الآمنة‭ ‬لهذا‭ ‬السؤال‭ ‬هى‭: ‬نعم،‭ ‬كلنا‭ ‬جناة،‭ ‬وكلنا‭ ‬أبرياء‭. ‬كلنا‭ ‬طغاة‭ ‬فى‭ ‬انتظار‭ ‬الفرصة‭. ‬لكن‭ ‬صدقنى،‭ ‬صرت‭ ‬فى‭ ‬السنين‭ ‬الأخيرة‭ ‬جداً‭ ‬أكثر‭ ‬ثقة‭ ‬فى‭ ‬البشر،‭ ‬برغم‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحيط‭ ‬بى‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يدفع‭ ‬إلى‭ ‬العكس‭. ‬صرت‭ ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬أطمئن‭ ‬نفسى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬أخياراً،‭ ‬لكن‭ ‬مشكلتى‭ ‬أننى‭ ‬لا‭ ‬أقابل‭ ‬غير‭ ‬أصحابى"‭.‬

يضحك‭ ‬شافعى‭ ‬وأضحك‭. ‬شافعى‭ ‬لا‭ ‬يفوّت‭ ‬فرصة‭ ‬للسخرية،‭ ‬ولو‭ ‬من‭ ‬نفسه‭ ‬ومن‭ ‬أصدقائه،‭ ‬لكن‭ ‬الفرصة‭ ‬هذا‭ ‬المرة‭ ‬سنحت‭ ‬لى‭ ‬أنا‭ ‬كى‭ ‬أسأله‭ ‬عن‭ ‬أصدقائه‭ ‬الذين‭ ‬قد‭ ‬يكتب‭ ‬عنهم‭ ‬أحياناً‭ ‬جملاً‭ ‬غامضة،‭ ‬أو‭ ‬واضحة،‭ ‬على‭ ‬فيسبوك،‭ ‬يبدو‭ ‬فيها‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬يوبِّخهم،‭ ‬يضايقهم،‭ ‬أو‭ ‬ليقول‭ ‬لهم‭ ‬جميعاً‭ ‬إنهم‭ ‬لم‭ ‬يعودوا‭ ‬أصدقاءه‭.‬

يقول‭: ‬اتعلم‭ ‬أننى‭ ‬توقفت‭ ‬عن‭ ‬هذا،‭ ‬لأننى‭ ‬لم‭ ‬أحتمل‭ ‬أن‭ ‬يسىء‭ ‬أصدقائى‭ ‬فهمى‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أفكر‭ ‬أمامك‭ ‬الآن‭: ‬هل‭ ‬فعلاً‭ ‬فقدت‭ ‬إيمانى‭ ‬بالصداقة؟‭ ‬الحقيقة‭ ‬أنه‭ ‬بدا‭ ‬لى‭ ‬فى‭ ‬السنوات‭ ‬القليلة‭ ‬الأخيرة‭ ‬أنى‭ ‬فقدت‭ ‬الثقة‭ ‬فى‭ ‬الكثير‭. ‬والثمين‭. ‬فى‭ ‬أعمدة‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬قامت‭ ‬عليها‭ ‬حياتى‭ ‬فعلياً‭. ‬الحب‭ ‬يا‭ ‬رجل‭ ‬نفسه‭ ‬أصبحت‭ ‬أنظر‭ ‬إليه‭ ‬فى‭ ‬شك‭. ‬أظن‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أقوله‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الخطابات‭ ‬الشائعة‭ ‬حول‭ ‬الحب‭ ‬والصداقة‭ ‬والأمومة‭ ‬والأبوة،‭ ‬وكذلك‭ ‬حول‭ ‬الوطن،‭ ‬فقدت‭ ‬صلاحيتها‭ ‬لدىَّ‭. ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬أكتبه‭ ‬طعناً‭ ‬فى‭ ‬الصداقة‭ ‬أو‭ ‬الحب،‭ ‬هو‭ ‬فى‭ ‬الحقيقة‭ ‬طعن‭ ‬فى‭ ‬الخطاب‭ ‬المؤسس‭ ‬لها‭ ‬أو‭ ‬له‭. ‬ما‭ ‬أفعله‭ ‬فى‭ ‬ما‭ ‬آمل‭ ‬هو‭ ‬أننى‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الإنسانى‭ ‬الشخصى‭ ‬بت‭ ‬أتأمل‭ ‬كل‭ ‬علاقة‭ ‬وحدها،‭ ‬وأقدِّرها‭ ‬وحدها،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أثقلها‭ ‬بلافتة‭ ‬تضيِّقها‭ ‬أو‭ ‬تفرض‭ ‬عليها‭ ‬غاية‭ ‬أو‭ ‬غرضاً،‭ ‬دون‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬أسميها‭. ‬لكن‭ ‬الحقيقة‭ ‬أننى‭ ‬شخص‭ ‬محظوظ‭ ‬بأصدقائه‭ ‬أو‭ ‬هكذا‭ ‬ظننت‭ ‬لأغلب‭ ‬عمرى‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لى‭ ‬أبداً‭ ‬أصدقاء‭ ‬كثيرون‭ ‬فى‭ ‬أى‭ ‬مرحلة،‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬العدد‭ ‬أبداً‭ ‬أصابع‭ ‬اليد‭ ‬الواحدة‭ ‬لكنهم‭ ‬كانوا‭ ‬دائماً‭ ‬يغنوننى‭. ‬وطبعاً،‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬السنين،‭ ‬هناك‭ ‬خسارات،‭ ‬لكن‭ ‬بلا‭ ‬حسرات"‭.‬

يعيش‭ ‬شافعى‭ ‬غالباً‭ ‬خلف‭ ‬قناع‭ ‬المترجم،‭ ‬وربما‭ ‬يضطر‭ ‬إلى‭ ‬تقديمه‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الوجوه‭ ‬الأخرى،‭ ‬لأنه‭ ‬يمثل‭ ‬مصدر‭ ‬الرزق،‭ ‬ونادراً‭ ‬ما‭ ‬ستجد‭ ‬له‭ ‬حواراً‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭ ‬أو‭ ‬الرواية،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬شاعر‭ ‬وروائى‭ ‬مهم،‭ ‬كأن‭ ‬ظهوره‭ ‬للنور‭ ‬بوجه‭ ‬الكاتب‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يسبب‭ ‬له‭ ‬ضرراً‭ ‬نفسياً،‭ ‬أو‭ ‬كأنه‭ ‬اعتاد‭ ‬على‭ ‬قناع‭ ‬المترجم‭ - ‬وهو‭ ‬مترجم‭ ‬مرموق‭ ‬بالمناسبة‭ - ‬ونسى‭ ‬بسببه‭ ‬كل‭ ‬شىء،‭ ‬وهو‭ ‬يصدر‭ ‬الديوان‭ ‬أو‭ ‬الرواية‭ ‬ويمنح‭ ‬نسخاً‭ ‬لأصدقائه‭ ‬المعدودين‭ ‬ثم‭ ‬يختفى،‭ ‬فلا‭ ‬حوار،‭ ‬ولا‭ ‬ندوة،‭ ‬ولا‭ ‬حفل‭ ‬توقيع،‭ ‬وإن‭ ‬حدث‭ ‬وظهر‭ ‬فى‭ ‬مناسبة‭ ‬فإنه‭ ‬يظهر‭ ‬تحت‭ ‬إلحاح‭ ‬ناشره‭ ‬وأصدقائه،‭ ‬ويجلس‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬مكفهراً‭ ‬كأنه‭ ‬طفل‭ ‬أجبر‭ ‬على‭ ‬الذهاب‭ ‬مع‭ ‬أسرته‭ ‬إلى‭ ‬حفلة‭ ‬أو‭ ‬مكان‭ ‬لا‭ ‬يحبه‭. ‬يقول‭: ‬ا‭ ‬يزعجنى‭ ‬كثيراً‭ ‬فى‭ ‬الندوات‭ ‬أنى‭ ‬أرى‭ ‬الكتَّاب‭ ‬يتنافسون،‭ ‬أيهم‭ ‬الأذكى،‭ ‬أو‭ ‬الأعمق‭. ‬وفى‭ ‬رأيى‭ ‬أن‭ ‬المناقشة‭ ‬الطبيعية‭ ‬الصحية‭ ‬لكِتاب‭ ‬مكانها‭ ‬المقالة‭. ‬فأمام‭ ‬الصفحة‭ ‬البيضاء‭ ‬تكون‭ ‬الفرصة‭ ‬أكبر‭ ‬لمحاورة‭ ‬أفكار‭ ‬الكِتاب‭ ‬وتحليلها،‭ ‬والاحتكام‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يُعرف‭ ‬يوماً‭ ‬بالضمير‭. ‬أما‭ ‬حفلات‭ ‬التوقيع‭ ‬أو‭ ‬أى‭ ‬أنشطة‭ ‬اجتماعية‭ ‬أخرى‭ ‬تتعلق‭ ‬بالكتب،‭ ‬فأشبه‭ ‬بحفلات‭ ‬الطهور‭ ‬والسبوع،‭ ‬أقبل‭ ‬وجودها،‭ ‬لكننى‭ ‬منذ‭ ‬طفولتى‭ ‬أتحاشاها‭. ‬وقد‭ ‬حدث‭ ‬أن‭ ‬أقيمت‭ ‬حفلة‭ ‬توقيع‭ ‬لكتاب‭ ‬لى‭ ‬قبل‭ ‬سنوات،‭ ‬لكننى‭ ‬لم‭ ‬ولن‭ ‬أكرر‭ ‬التجربةب‭..‬

ولا‭ ‬يجد‭ ‬شافعى‭ ‬أى‭ ‬ضرر‭ ‬نفسى‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬يظهر‭ ‬كشاعر‭ ‬وروائى‭. ‬فكثير‭ ‬من‭ ‬نجاحه‭ ‬كمترجم‭ ‬أصلاً‭ ‬سببه،‭ ‬كما‭ ‬يقول،‭ ‬أنه‭ ‬كاتب،‭ ‬وينظر‭ ‬إلى‭ ‬الأمر‭ ‬بهذه‭ ‬البساطة‭: ‬اأنا‭ ‬لم‭ ‬أبذل‭ ‬أى‭ ‬جهد‭ ‬ليثق‭ ‬البعض‭ ‬فى‭ ‬ترجماتى‭ ‬عدا‭ ‬جهد‭ ‬الترجمة‭ ‬العادى‭ ‬نفسه‭. ‬ولن‭ ‬أبذل‭ ‬جهداً‭ ‬لأنال‭ ‬شيئاً‭ ‬لنفسى‭ ‬كشاعر‭ ‬أو‭ ‬روائى‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬قصائدى‭ ‬ورواياتى‭ ‬وأعمل‭ ‬على‭ ‬إتاحتها‭ ‬للناس،‭ ‬وهى‭ ‬وحظها‭. ‬سأظل‭ ‬أطيع‭ ‬نفسى‭ ‬فأعرض‭ ‬عما‭ ‬أنفر‭ ‬منه،‭ ‬وأُقبل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬أحبه،‭ ‬ولن‭ ‬أرغم‭ ‬نفسى‭ ‬على‭ ‬شىءب‭.‬

أسأله‭ ‬عن‭ ‬كلمة‭ ‬تلخصه‭ ‬فيجيب‭: ‬االانتظار‭. ‬أنا‭ ‬فى‭ ‬حالة‭ ‬انتظار‭ ‬دائم‭. ‬أنتظر‭ ‬أن‭ ‬أرضى‭ ‬عن‭ ‬نفسى‭. ‬أنتظر‭ ‬أن‭ ‬أجد‭ ‬إيمانى‭ ‬ماثلاً‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬أعمالى‭. ‬أنتظر‭ ‬أن‭ ‬أمتلك‭ ‬من‭ ‬القوة‭ ‬ما‭ ‬يجعلنى‭ ‬أسدد‭ ‬ديونى،‭ ‬فأعتذر‭ ‬لمن‭ ‬ينبغى‭ ‬أن‭ ‬أعتذر‭ ‬لهمب‭. ‬وأسأله‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الإجابة‭ ‬تمثل‭ ‬طموحه‭ ‬فى‭ ‬الحياة‭ ‬والكتابة‭ ‬فيقول‭: ‬افى‭ ‬الحياة‭ ‬ربما‭. ‬أما‭ ‬فى‭ ‬الكتابة‭ ‬فلا‭. ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أكتب‭ ‬لأعتذر‭. ‬أكتب‭ ‬لأفهم‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬لأفهمه‭ ‬لولا‭ ‬الكتابة‭. ‬ولأجد‭ ‬جمالاً‭ ‬لا‭ ‬أعثر‭ ‬عليه‭ ‬بطريقة‭ ‬أخرى‭. ‬ولأن‭ ‬الكتابة‭ ‬هى‭ ‬الحيلة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التى‭ ‬أعرفها‭ ‬لزرع‭ ‬شجرةب‭.‬

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة