آثار
آثار


آثار بلا ثمن

بوابة أخبار اليوم

الأحد، 14 فبراير 2021 - 06:37 م

كتب: محمد المنسي قنديل

‭ ‬توقفت‭ ‬طويلا‭ ‬وأنا‭ ‬أراقب‭ ‬الطابور‭ ‬الذى‭ ‬يتحرك‭ ‬ببطء،‭ ‬صف‭ ‬طويل‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬والنساء‭ ‬ينتظرون‭ ‬لفترات‭ ‬طويلة،‭  ‬ويتحركون‭ ‬بخشوع‭ ‬عند‭ ‬اقترابهم‭ ‬من‭ ‬مدخل‭ ‬المعبد،‭ ‬يدخلون‭ ‬بين‭ ‬أعمدة‭ ‬المعبد‭ ‬الحجرية،‭ ‬يطوفون‭ ‬حول‭ ‬قدس‭ ‬الأقداس‭ ‬ببطء‭ ‬وصمت،‭ ‬يتأملون‭ ‬النقوش‭ ‬المحفورة‭ ‬كأنها‭ ‬تعاويذ‭ ‬سحرية،‭ ‬تطل‭ ‬عليهم‭ ‬شمس‭ ‬حوريس‭ ‬فى‭ ‬منتصف‭ ‬الواجهة‭ ‬الحجرية،‭ ‬يواصل‭ ‬الطابور‭ ‬سيره‭ ‬دون‭ ‬انتهاء،‭  ‬يفرض‭ ‬المعبد‭ ‬الفرعونى‭ ‬الصغير‭ ‬رهبته‭ ‬على‭ ‬الجميع،‭ ‬يحولهم‭ ‬الى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬طالبى‭ ‬الغفران،‭ ‬يتوسلون‭ ‬فى‭ ‬صمت‭ ‬للآلهة‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬وادى‭ ‬النيل،‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬قدوم‭ ‬المعبد‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬أيقونة‭ ‬متفردة‭ ‬لا‭ ‬يكف‭ ‬سكان‭ ‬مدينة‭ ‬نيويورك‭ ‬وزوارها‭ ‬عن‭ ‬التدافع‭ ‬إليه،‭ ‬ربما‭ ‬لأنه‭ ‬يضيف‭ ‬لمسة‭ ‬أسطورية‭ ‬للمدينة‭ ‬المادية‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬ناطحات‭ ‬سحاب‭ ‬ومؤسسات‭ ‬تتحكم‭ ‬فى‭ ‬مصير‭ ‬العالم،‭ ‬ومتحف‭ ‬المتروبوليتان‭ ‬الذى‭ ‬يحتل‭ ‬الجانب‭ ‬الغربى‭ ‬من‭ ‬نيويورك‭  ‬يحتوى‭ ‬على‭ ‬ملايين‭ ‬القطع،‭ ‬ثلاثة‭ ‬ملايين‭ ‬ونصف‭ ‬المليون‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد،‭  ‬ويستمد‭ ‬قيمته‭ ‬من‭ ‬القطع‭ ‬المتفردة‭ ‬التى‭ ‬يحتويها،‭ ‬قطع‭ ‬نادرة‭ ‬لايوجد‭ ‬لها‭ ‬نظير،‭ ‬أكسبها‭ ‬عبق‭ ‬التاريخ‭ ‬والفرادة‭ ‬قيمة‭ ‬لاتقدر‭ ‬بثمن،‭ ‬يكفى‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬تشاهدها‭ ‬أو‭ ‬تدور‭ ‬حولها‭  ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تجرؤ‭ ‬على‭ ‬لمسها،‭ ‬والعديد‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المقتنيات‭ ‬تم‭ ‬الحصول‭ ‬عليها‭ ‬بأثمان‭ ‬مرتفعة،‭ ‬وبعضها‭ ‬اضطرت‭ ‬إدارة‭ ‬المتاحف‭ ‬لطرحها‭ ‬للاكتتاب‭ ‬العام‭ ‬حتى‭ ‬تتمكن‭ ‬من‭ ‬جمع‭ ‬ثمنها،‭ ‬ولكن‭ ‬أفضل‭ ‬هذه‭ ‬التحف‭ ‬قيمة‭ ‬وأعرقها‭ ‬تاريخا‭ ‬هى‭ ‬الآثار‭ ‬المصرية،‭ ‬زينة‭ ‬أى‭ ‬متحف،‭ ‬جاءت‭ ‬إليه‭ ‬بلا‭ ‬ثمن‭ ‬تقريبا،‭ ‬إما‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬هدايا‭ ‬الملوك‭ ‬أو‭ ‬نهب‭ ‬اللصوص،‭ ‬ويشهد‭ ‬المتحف‭ ‬على‭ ‬براعتهم‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الأمر،‭ ‬معبد‭ ‬ادندرةب‭ ‬بالذات‭ ‬كان‭ ‬هدية‭ ‬مجانية‭ ‬من‭ ‬الرئيس‭ ‬المؤمن‭ ‬أنور‭ ‬السادات‭ ‬لصديقه‭ ‬العزيز‭ ‬نيكسون‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬السقوط‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬كرسى‭ ‬الرئاسة‭ ‬واعتقد‭ ‬السادات‭ ‬أنه‭ ‬لو‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا‭ ‬ومعه‭ ‬هذا‭ ‬المعبد‭ ‬سيكون‭ ‬سببا‭ ‬فى‭ ‬إنقاذه،‭ ‬كان‭ ‬نيكسون‭ ‬رئيسا‭ ‬مقيدا،‭ ‬خرج‭ ‬عن‭ ‬القواعد‭ ‬فاستحق‭ ‬العقاب،‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬سلطة‭ ‬السادات‭ ‬مطلقة،‭ ‬يملك‭ ‬البشر‭ ‬والحجر،‭ ‬ويفرط‭ ‬فى‭ ‬شواهد‭ ‬التاريخ‭ ‬المصرى‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يحاسبه‭ ‬أحد،‭ ‬ومثل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬حكام‭  ‬مصر‭ ‬الغابرين‭ ‬قد‭ ‬تباروا‭ ‬فى‭ ‬إهداء‭ ‬آثارنا‭ ‬للغير،‭ ‬كانو‭ ‬يتسلطون‭ ‬علينا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يأبهوا‭ ‬بنا‭ ‬أو‭ ‬بتاريخنا،‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬احترام‭ ‬زائف‭ ‬من‭ ‬الغرب‭ ‬بالتفريط‭ ‬فى‭ ‬قطع‭ ‬أثرية‭ ‬لا‭ ‬يملكونها‭ ‬ولا‭ ‬حق‭ ‬لهم‭ ‬فى‭ ‬إهدائها،‭ ‬وكلما‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬قلعة‭ ‬القاهرة‭ ‬وشاهدت‭ ‬الساعة‭ ‬المعطلة‭ ‬فى‭ ‬مسجدها‭ ‬تذكرت‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬فى‭ ‬مقابل‭ ‬المسلة‭ ‬الرائعة‭ ‬التى‭ ‬تزين‭ ‬ميدان‭ ‬االكونكوردب‭ ‬باريس،‭ ‬أهداها‭ ‬محمد‭ ‬على‭ ‬باشا‭ ‬للامبراطور‭ ‬الفرنسى‭ ‬نابليون‭ ‬الثالث،‭ ‬ورد‭ ‬عليه‭ ‬الامبراطور‭ ‬بهذه‭ ‬الساعة،‭ ‬ساعة‭ ‬هزيلة‭ ‬دائمة‭ ‬التعطل‭ ‬ولكنها‭ ‬ربما‭ ‬كانت‭ ‬المرة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التى‭ ‬تلقينا‭ ‬فيها‭ ‬مقابلا‭ ‬لواحدة‭ ‬من‭ ‬آثارنا،‭ ‬ويقال‭ ‬إن‭ ‬الزعيم‭ ‬الخالد‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬شخصيا‭ ‬قد‭ ‬فرط‭ ‬فى‭ ‬خمسة‭ ‬معابد‭ ‬كاملة،‭ ‬وقبل‭ ‬ذلك‭ ‬تبارى‭ ‬الولاة‭ ‬الاتراك‭ ‬فى‭ ‬إهدار‭ ‬المزيد‭ ‬منها‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬نهبته‭ ‬جيوش‭ ‬الاستعمار،‭ ‬ولكن‭ ‬أعدادا‭ ‬مضاعفة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الآثار‭ ‬خرجت‭ ‬على‭ ‬أيدى‭ ‬اللصوص‭ ‬والمهربين،‭ ‬خرجت‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ندرى‭ ‬بها‭ ‬وبيعت‭ ‬بلا‭ ‬مقابل،‭ ‬وهذه‭ ‬نقطة‭ ‬تماس‭ ‬يتشارك‭ ‬فيها‭ ‬الملوك‭ ‬واللصوص،‭ ‬كلاهما‭ ‬فرط‭ ‬فى‭ ‬كنوز‭ ‬تاريخية‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعرفوا‭ ‬قيمتها،‭ ‬ولم‭ ‬يكونوا‭ ‬جميعا‭ ‬لصوصا‭ ‬صغاراً،‭ ‬كان‭ ‬فيهم‭ ‬علماء‭ ‬آثار‭ ‬مشهورون،‭ ‬ولعل‭ ‬أهم‭ ‬قطعة‭ ‬أثرية‭ ‬فى‭ ‬العالم‭ ‬وهى‭ ‬رأس‭ ‬نفرتيتى،‭ ‬أخرجها‭ ‬العالم‭ ‬بورشاردت‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬غلفها‭ ‬بالطين،‭ ‬ومتحف‭ ‬المتروبوليتان‭ ‬وحده‭ ‬شاهد‭ ‬على‭ ‬النهب‭ ‬الكبير‭ ‬التى‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬هذه‭ ‬الآثار‭ ‬بطريقة‭ ‬شيه‭ ‬مجانية،‭ ‬فالمتحف‭ ‬لايعرض‭ ‬قطعا‭ ‬أثرية‭ ‬متناثرة‭ ‬ولكن‭ ‬مجموعات‭ ‬كاملة،‭  ‬وقد‭ ‬زرته‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬متقطعة،‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬أجد‭ ‬فيه‭ ‬مجموعة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬الآثار‭ ‬المصرية،‭ ‬فهناك‭ ‬قاعة‭ ‬كاملة‭ ‬تضم‭ ‬كل‭ ‬تماثيل‭ ‬الملكة‭ ‬حتشبسوت‭ ‬فى‭ ‬مختلف‭ ‬أطوارها‭ ‬حتى‭ ‬وهى‭ ‬متنكرة‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬رجل،‭  ‬وهناك‭ ‬أيضا‭ ‬بردية‭ ‬يبلغ‭ ‬طولها‭ ‬27‭ ‬مترا‭ ‬كاملة،‭ ‬إضافة‭ ‬لبوابات‭ ‬المعابد‭ ‬العملاقة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬أدرى‭ ‬كيف‭ ‬تم‭ ‬تقطيعها‭ ‬ونقلها،‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬تماثيل‭ ‬الآلهة‭ ‬التى‭ ‬وضعت‭ ‬لحماية‭ ‬مصر‭ ‬وعجزت‭ ‬عن‭ ‬حماية‭ ‬نفسها،‭ ‬وهناك‭ ‬قاعة‭ ‬كاملة‭ ‬معلق‭ ‬على‭ ‬جدرانها‭ ‬صورة‭ ‬لمقبرة‭ ‬مكتشفة‭ ‬حديثا،‭ ‬كل‭ ‬القطع‭ ‬فيها‭ ‬مكومة‭ ‬على‭ ‬بعضها‭ ‬وتراب‭ ‬الزمن‭ ‬راقد‭ ‬عليها،‭ ‬ثم‭ ‬تم‭ ‬استخلاص‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المحتويات‭ ‬وتنظيفها‭ ‬ووضعها‭ ‬فى‭ ‬واجهات‭ ‬العرض،‭ ‬توابيت‭ ‬وتماثيل‭ ‬وقطع‭ ‬من‭ ‬المجوهرات،‭  ‬بينها‭ ‬تمثال‭ ‬رهيف‭ ‬ونادر‭ ‬لفلاحة‭ ‬مصرية‭ ‬عائدة‭ ‬من‭ ‬السوق‭ ‬وهى‭ ‬تحمل‭ ‬أوزة،‭ ‬صورة‭ ‬هذا‭ ‬التمثال‭ ‬يضعها‭ ‬المتحف‭ ‬فى‭ ‬فخر‭ ‬فى‭ ‬صدر‭ ‬ملصقاته‭ ‬الجديدة،‭ ‬وهناك‭ ‬أيضا‭ ‬مجموعة‭ ‬نادرة‭ ‬من‭ ‬المجوهرات‭ ‬والحلى‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تتزين‭ ‬بها‭ ‬ملكات‭ ‬مصر،‭ ‬ذهب‭ ‬وعقيق‭ ‬وأحجار‭ ‬كريمة‭ ‬وتصميم‭ ‬أصيل،‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أننى‭ ‬لم‭ ‬أرها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ومن‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬اللصوص‭ ‬الذين‭ ‬أوصلوها‭ ‬للمتحف‭ ‬أخذوا‭ ‬ثمنا‭ ‬بخس‭ ‬لا‭ ‬يوازى‭ ‬قيمتها‭ ‬ماديا‭ ‬ولا‭ ‬تاريخيا،‭ ‬تاريخ‭ ‬كامل‭ ‬تم‭ ‬سرقته‭ ‬و‭ ‬نقله‭ ‬عبر‭ ‬المحيط،‭ ‬إن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬مقبرة‭ ‬توت‭ ‬عنخ‭ ‬آمون‭ ‬كانت‭ ‬هى‭ ‬الوحيدة‭ ‬التى‭ ‬اكتشفت‭ ‬كاملة‭ ‬يبدو‭ ‬خاطئا،‭ ‬فهناك‭ ‬عشرات‭ ‬المقابر‭ ‬التى‭  ‬تحتوى‭ ‬على‭  ‬قطع‭ ‬فنية‭ ‬لايجود‭ ‬الزمان‭ ‬بمثلها‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬اكتشافها‭ ‬سرا‭ ‬وتسربت‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أيدينا،‭ ‬وقد‭ ‬توالت‭ ‬علينا‭ ‬التحذيرات‭ ‬من‭ ‬هيئة‭ ‬اليونسكو‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬نوقف‭ ‬هذا‭ ‬السيل‭ ‬من‭ ‬القطع‭ ‬المهربة‭ ‬دون‭ ‬جدوى،‭ ‬أنا‭ ‬حزين‭ ‬بالطبع‭ ‬لأننا‭ ‬فقدنا‭ ‬هذه‭ ‬الثروة‭ ‬التى‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تضاف‭ ‬لرصيدنا‭ ‬القومى،‭ ‬لكن‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أعترف‭ ‬المتروبوليتان‭ ‬وغيره‭ ‬من‭ ‬المتاحف‭ ‬قد‭ ‬أكرمت‭ ‬وفادة‭ ‬هذه‭ ‬الآثار‭ ‬ووضعتها‭ ‬فى‭ ‬أهم‭ ‬مكان‭ ‬عندها‭ ‬وحسنت‭ ‬صورة‭ ‬عرضها‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬فعلنا،‭ ‬لم‭ ‬يكدسوها‭ ‬فى‭ ‬المخازن‭ ‬أو‭ ‬يتركوها‭ ‬نهبا‭ ‬للسرقة،‭ ‬وكلنا‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬يحافظ‭ ‬المتحف‭ ‬الكبير‭ ‬الذى‭ ‬يستعد‭ ‬للافتتاح‭ ‬على‭ ‬بقايا‭ ‬هذه‭ ‬الثروة‭ ‬وأن‭ ‬يصلح‭ ‬كل‭ ‬الأخطاء‭ ‬الماضية‭.‬

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة