محمود الوردانى
محمود الوردانى


كتابة

اختطاف

أخبار الأدب

الأحد، 28 فبراير 2021 - 05:17 م

  يحدث أن تكون فى سيارتك تستعد لقيادتها، فيتقدم منك أحدهم ويقوم بتغميتك وخطفك إلى مكان مجهول، حيث تمضى وقتا غير معلوم مسجونا، وتحاكم لأنك لم تزرع شجرة على مدى أربعين عاما عشتها. ليس شرطا أن يتم اختطافك من سيارة، ومن الممكن أن يتم اختطافك على أى نحو، لكن هذا ماجرى مع» كامل» راوى رواية أحمد شافعى» أن تزرع شجرة» الصادرة أخيرا عن دار الكتب خان.
  أود أن أشير أولا إلى أن الرواية تنتمى لتيار عريض وقديم قبل كافكا فى أغلب أعماله، أو صنع الله ابراهيم فى « اللجنة».. هناك عشرات الروائيين والكتاب قبل وبعد كافكا كتبوا أعمالا تنتمى لذلك التيار. وأشير أيضا إلى أنه تيار واقعى فيما أعتقد، فطوال الوقت كان الناس يتعرضون للقمع والخطف والتعذيب والإهانة لأسباب غامضة وغير مقنعة، بل لفرض السيطرة وممارسة القوة.
  لذلك ليس ضروريا أن يُختطف الواحد من سيارته، إلا أن هذا ماجرى لواحد من عوام الناس لم يرتكب جريمة أو إثما، بل تجاوز الأربعين دون أن يحقق شيئا ولم يكن يرغب فى أن يحقق شيئا. هو مثل الكثيرين يعمل مترجما وزوجته، التى تزوجها لأنه كان يجب أن يتزوج وينجب، تعمل مترجمة.
  صاحبنا تم تغمية عينيه واصطحابه لمكان مجهول وتقييده فى كرسى لايغادره، ويقوم الخاطف بإطعامه، وإجباره على ممارسة وظائف الجسد الحيوية بنفسه، بل وقص أظافره مع ترك شعره ولحيته. ويتكررالسؤال/ الاتهام/ الجريمة على لسان الخاطف للمخطوف:
  «عشت أربعين سنة ياكامل، أربعين سنة على الأرض، أكلت وشربت وتزوجت، صاحبت وأحببت وكرهت، مرّ عليك أربعون صيفا وأربعون شتاء، جلست على البحر وسهرت على النهر، ولم تزرع شجرة قط. كامل لماذا لم تزرع شجرة»
يتكرر الاتهام عدة مرات، ويورده شافعى بنصه، ليؤكد فداحة الجريمة التى ارتكبها كامل، وعبثيتها وجنونها ولامعقوليتها، وهى ليست مجرد كلام مرسل، بل هى فى معرض محاكمة وإجراءات تعذيب وإهانة متواصلة.
  كامل لايجد إجابة بالطبع . أنا مثلا، كاتب هذه السطور، لم أزرع شجرة، ولاأعرف إجابة للسؤال لو تعرضت للقبض عليّ. ولكن مادام كامل لم يجد إجابة للسؤال، فسوف يظل رهن الاعتقال ، يُعذّب معصوب العينين ومقيد إلى مقعد لايغادره على مدى صفحات الرواية المحكمة المتقنة المكثفة. لايملك كامل الذى لايتميز بأى شئ. البرئ. غير الطموح. الذى لم يرتكب فى حياته شرا أو حتى خيرا.. لايملك إلا أن يستعرض حياته التى لم تكن تحتوى على أى شئ مثير. شأنه شأن غيره، ظُلم وأهين وتعرض لأصحاب عمل ومديرين أهانوه، والضابط الذى استأجر منه شقة مثلا طالما تلاعب به وابتزه.
مرّت شهور طويلة وربما سنوات، حتى وجد نفسه، ملقى به على الرصيف، فى القسم الثانى من الرواية. أفرج عنه الخاطف إذن، وخرج بهيئة المتسول المجذوب التقليدية . حر تماما من هموم الدنيا. يكفيه أن يقف على باب المطعم بملابسه القذرة وشعره المتدلى على كتفيه ولحيته الكثة القذرة، ويأتون له بالطعام. يفرّ منه الجميع وهو يتجول على المقاهى يمد يده إلى أكواب الماء على المناضد ويشرب ويتجشأ فى وجوه الجميع.
  تحرر كامل ولم يعد يحمل همّا للدنيا والعيال والزوجة والضابط صاحب البيت الذى يستأجر كامل إحدى شققه.
  منحنا شافعى رواية جهمة وقاسية وعبثية تماما ، وواقعية فى الوقت نفسه فأحداثها تجرى لنا ومعنا فى كل لحظة. لغة شافعى متقشفة، ويملك نبرة ساخرة سخرية سوداء. لن تجد مترادفات أو عناية زائفة بالمجاز. ستجد رواية عارية وجارحة.
  كتّر خيرك وشكرا جزيلا يا أستاذ أحمد شافعي.ا

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة