د. خالد غريب
د. خالد غريب


منف.. من هنا مرّ الإسكندر الأكبر

أخبار الأدب

الأحد، 28 فبراير 2021 - 05:31 م

ظلت جبانة سقارة مقدسة خلال فترات طويلة من التاريخ، ولا يمكن أن نجد منطقة فى مصر تحمل تراث  سقارة الذى بدأ منذ عصر الأسرات وحتى العصر المسيحي، وقد تميزت سقارة بأنها كانت مركز الوسط فى جبانة منف والتى امتدت شمالًا من أبو رواش وحتى ميدوم فى الجنوب، لذلك كان أغلب الملوك يلجأون إليها باعتبارها أهم جبانة للدفن ولقدسيتها، كما كانت مركز لتتويج الملوك، واستطاعت أن تبقى مكانًا له قدسية خاصة، والدليل على ذلك أن الإسكندر المقدونى حينما جاء إلى مصر لم يذهب إلى أى مكان سوى هناك، واختار مدينة منف وجبانتها سقارة لتكون مقرًا لهُ حين استقر فى مصر عام ٣٣٢ قبل الميلاد، وقد تعرضت مصر لبعض المشكلات الكبيرة، منها ما حدث فى عصر الأسرة ٢٥، والتى كانت بدايتها مع الحكم الكوشى للبلاد، فقد جاءوا من أقصى الجنوب ليحكموا مصر، وفى نهاية هذا الحكم سيطر على مصر الآشوريون واحتلوها ودمروا أكثر من ٥٥٠ تمثالا بل إن آشوربانيبال دك مدينة طيبة، ودمرها بالكامل وهذا ما ذكر فى التوراة عندما قيل: «لُعِنتِ يا نِينوى، فأنتِ لستِ أعزُ عند الربِ من نُو آمون».  ونو آمون هى مدينة طيبة، لكن حين جاءت الأسرة الـ٢٦ والتى أعتبرها مرحلة هامة من المراحل التى حافظت مصر خلالها على هويتها القومية واستردت عافيتها، هذا العصر يعرف بالعصر الصاوى، والذى حرص ملوكه على الاهتمام بسقارة ومنف لأنهم كما ذكرت سعوا لإحياء القومية المصرية بعد احتلال الآشوريين للبلاد، وتدميرهم لآثار طيبة، لذلك حرصوا على الاهتمام بسقارة، ولكن بكل أسف حدث اضطراب سياسى فى نهاية حكم الأسرة الـ٢٦ وذلك حين جاءت الأسرة الهخامنشية التى أتت من بلاد الفرس واحتلت مصر والعالم بزعامة قورش وقمبيز وأبنائه من ٥٢٥ ق.م إلى ٤٠٤ ق.م، وخلال هذه الفترة حرص الفرس على أن يستغلوا كل شئ فى مصر لخدمة حضارتهم.
وقد استمرت أهمية سقارة فى العصر المتأخر ولم تقل أهميتها، ويبدو أن ملوك كوش اهتموا بالبعد الدينى فى منف وذلك لأن المذهب الدينى لخلق الكون عُثر على نسخته الكاملة فى منف، والذى يرجع لعهد الملك شاباكا من الأسرة الخامسة والعشرين، وهو يتناول فكر المدينة الدينى والتى كانت عقيدتها أقرب للأديان السماوية، ومن خلالها يعلن المعبود بتاح أنه قد تدبر أمر الكون فى قلبه ثم نطق بلسانه فكان الخلق.
>>>
خلال العصر الصاوى استمر الاهتمام بالمدينة وهناك لوحة فى المتحف المفتوح بميت رهينة تنتمى لعهد الملك واح إيب رع أبريس والتى يعلن فيها تمجيد المعبود سوكر «رب جبانة منف»، ومع نهاية العصر الفرعونى يبدو أن منف وجبانتها كانت مقرًا هامًا للحكام الوطنيين المصريين ضد الفرس ومن بينهم الملك خباش أو خباباش، والذى يعد من أكثر الملوك الذين دارت بشأنهم آراء سواء حول أصل موطنه أو مدة حكمه، أو مركز حكمه أو حتى زمن مجيئه، وقد حمل هذا الملك لقبين من الألقاب الملكية الخمسة التقليدية، لكن لم يذكر هذا الملك فى أى من قوائم الملوك، كما لم يعثر على الكثير من الآثار التى تحمل اسمه، ولم يتبق منها إلا القليل ومنها؛ لوحة الساتراب التى كتبها بطلميوس بن لاجوس وقت أن كان واليًا على مصر قبل إعلان ملكه، ويترجم النص: (حين كان الوالى ينشد التبرع لآلهة الشمال والجنوب، قال لمن معه ولعظماء الدلتا، إن الأرض المجاورة واسمها أرض واجة أعطاها ملك الصعيد والدلتا سنن تنن، ستب ان بتاح، ابن الشمس خبابش لأرواح به ودب ليوهب الحياة للأبد).
كما نقش على أحد توابيت السرابيوم من سقارة (السنة الثانية، الشهر الثالث للفيضان من حكم ملك مصر العليا والسفلى خباش ليحيا للأبد، ابن أوزير حابى محبوب حور من كم)، كما أن بردية ليبي، وهى المصدر الثانى المؤرخ لهذا الملك، ومسجل عليها نفس الشهر الذى سجل عليه نقش لوحة السرابيوم، وكان مصدر هذه البردية طيبة وهى المصدر الوحيد المعلوم -حتى الان- من صعيد مصر لهذا الملك، وكان من المفترض أن يوضع اسم هذا الملك كأحد الحكام الوطنيين الذين قاوموا الاحتلال فى قائمة مانيثون، ولكن يبدو أن هذا الأخير تناسى خباش لعدة أسباب منها:
أولًا: كان مانيثون أصلا من سمنود وهى موطن ملوك الأسرة الثلاثين، فربما يكون آثر وتعمد إهمال ذكر هذا الملك حتى يجعل نهاية الحكم الوطنى مع نهاية الاسرة السمنودية.
الأمر الثاني: هو أن بطلميوس الثانى كانت له إضافات فى بعض المعابد التى كان بها آثار لخباش، فأراد مانيثون إرضاء ملكه وتجاهل خباش.
ومن الملاحظات أن أهم آثاره جاءت من منف مما يعنى أنه كان من المدينة، أو أنه كان من حكام الدلتا ولكنه كان يعلم أهمية منف كمركز للمقاومة ضد أعداء مصر.
>>>
وصل الإسكندر الأكبر إلى مصر عام ٣٣٢ ق.م ودخل من بوابتها الشرقية، ولم يتجه الى أى من المدن المصرية كطيبة أو أونو، بل اختار منف لعلمه بأهميتها، ونظرًا لأنها كانت مركزا لتتويج الملوك، ولذا دخل إليها وتقرب من معبودها بتاح، وهناك أقام احتفالات رياضية مشتركة بين المصريين واليونانيين، وجعل من هذه المدينة عاصمته فى مصر حيث لم يشهد الإسكندر من الإسكندرية إلا حجر الأساس الذى وضعه فى ٢٥ طوبة سنة ٣٣١ قبل الميلاد، وبعد أن أتم الإسكندر رحلته إلى معبد الوحى فى سيوة عاد إلى منف، وهناك أقر التقسيمات الإدارية والسياسية والدينية فى البلاد، وجعل من منف مركزًا قويًا للحكم من بعده، وبعد موت الإسكندر عام ٣٢٣ قبل الميلاد انقسم قادته على أنفسهم، واتجهوا فى النهاية نحو تقسيم ملكه بينهم وكانت مصر من نصيب بطلميوس بن لاجوس الذى جاء إلى مصر واستقر فى منف التى كانت أهم مدينة مصرية، ولذا كان حريصًا على نقل جثمان الإسكندر إلى مصر ليدفن فى منف، وفى عام ١٨٥٠ اكتشف عالم الآثار ماريت فى المنطقة المجاورة للسيرابيوم دائرة بها عدة تماثيل لفلاسفة ومؤرخين يونانيين وهى ماتعرف الآن بدائرة الفلاسفة، وقد أقام البطالمة فى الغالب هذه التماثيل تكريمًا لهؤلاء العلماء الذين أثروا الحياة الفكرية والدينية فى مصر، ولكن يبقى السؤال لماذا لم تقام هذه التماثيل فى الإسكندرية عاصمة البطالمة؟.
والإجابة على ذلك هى أن بطلميوس الأول حين استقل بمصر وأعلن تأسيس أسرة البطالمة اختار من جبانة منف بسقارة جبانة له ويبدو أن جثمان الإسكندر قد دفن هناك حين نقل إلى مصر، وكذا ملوك البطالمة التالين وذلك حتى عهد بطلميوس الرابع الذى أوجد الجبانة الملكية فى الإسكندرية ونقل إليها فيما يبدو رفات الإسكندر وأجداده.
استمرت منطقة سقارة تحمل أهمية كبرى فى العصر البطلمى حتى أن كثيرا من ملوك هذه المرحلة ربطوا ألقابهم بالمعبود بتاح، رغبة منهم فى التقرب من هذه المنطقة الدينية الفلسفية الكبرى.
وظلت سقارة من أهم المناطق التى اهتم بها الأباطرة الرومان، واستمرت الأهمية حتى العصر البيزنطي، وقد كشف فى سقارة عن أحد أهم الأديرة المسيحية وهو دير الأنبا أرميا والذى يؤرخ بالقرن السادس الميلادي، ويحتفظ المتحف القبطى بالقاهرة بالكثير من آثار الدير ولوحاته.

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة