للفنان: محمد قاسمى
ابداعات عربيه
وجع الرمال
الثلاثاء، 27 أبريل 2021 - 12:02 م
كتب :عبد العزيز الراشدي
رحلة البدويّ
أعرف رجلا تدرّب قلبه على البداوة.لم يُعاند الصحراء فهو يعرف طبعها.حدث ذلك في البداية فقط.أعرفُهُ يمشي طوال الوقت، لا يتوقف.يُدرِّب قدميه وقلبه على السبل، وئيدا تختلج المسارات تحته، على غير هدى يخب في رمل الأرض، لا يركن لمكان لأن وجوده الأول علّمه أن البدوي الحق لا يستقر إلا حين يموت.هذا الرجل قد يتوقف.لكن إذا حصل الأمر ستفاجئه الحياة بسُمّها. في كل توقف وجع .والمسألة ليست أن نتغلب على مشاكل الحياة .المسألة ببساطة، أن ندرك قوانينها.
أعرفه يسير كما قُدِّر له، تُظلله الغيوم حينا، والشمس كثيرا، ثم يتوقف فجأة، حين تعبر فوقه غيمة وحيدة وتسير .وقتها سيتساءل عما يفعل، عن الجدوى، ويدرك أن الحياة، هي المسافة بين مانريد وما نستطيع.هذا الرجل قد يموت بعد مدة قصيرة إذا ساد الالتباس.
الرجل أسمر.كما قُدّر لكل معاشري الشمس.يلبس أزرقا حائلا من الوجه حتى القدمين.اسمه لا يهم.ولايهم الزمن الذي ينتمي إليه.قد يكون من الحاضر أو الماضي.من بداية القرن أو وسطه.وقد ينتمي للمستقبل!.من قال أن للزمن معنى في الصحراء؟. أعرفه وأعرف وجهته ومبتغاه لكنني لن أقول كي لا يفتضح الأمر.
لن أقول أنه يخب في الرمل بحثا عن امرأة.المسألة أجدى بكثير. سوف أكذب إذا قلت أن الرجل يبحث عن مال أو تبر، وسأكون مُفتَعَلا إذا قلت أنه يبحث عن فكرة. إنه يبحث وكفى.عن شيء غامض.بودي لو أحدد صفاته، لكن مهمتي الدفاع عن الالتباس. رجل تدّربتُ على كتابته طوال الليل لكنني لا أنتهي منه إلا لأبدأ من جديد.و لقد تدرّب بدوره على النيل مني. هل أقول إن حكايتي عن المشي وكفى؟إنها تسير وتُرهقني.
هذا الرجل قوّسَتِ الشمس والزمان حبال ظهره، غير مطمئن بالمرة لأن سم الحياة زعاف.قال له شيخ الزاوية التي مر بها في رحلته واستطعَمَ أهلها أن التيه ليس في الرمال والحر والريح.البدوي تائه على الدوام.التيه هنا في الداخل. وأشار إلى صدره.نحن التيه، وإذا لم تجد ضالتك في صدرك فلن.
هذا الرجل يسير محني الظهر، تدفعه الريح حين تكون إلى صفه، تعانده حين يتواجهان، فيخرق صلابتها برأسه.الرمل يملأ عينيه، والزوابع موسيقى.تسكنه فكرة واحدة: الصحراء لم تعد صحراء.بتأفف تسكنه.رجل يخب في الصحراء باحثا.في الزوابع والحر .عن المعنى يبحث أم عن المبنى أم عن سراج يضيء القلب؟
سوف يسير، ثم يأنس نارا ويقصدها، يسلم على أهل الخيمة هذه المرة، يقودونه بعد الأكل إلى مضجعه، فيختلي مع الهواجس في الظلام.كان الليل طويلا والنجوم سهارى وجفونه لا تذوق ما تريد...
مستسلما لنشوة الظلمة، ولنشوة الراحة بعد التعب،كانوا يتكلمون. ما همه إن تحدث أصحاب الخيمة عن غيره، في خلوتهم، الهامُّ ركونه للراحة، لايهتم لهؤلاء الغرباء الذين توقف عندهم، طالبا حمايته من تعب البحث، فأذعنوا. لم يهتم لكلامهم ولا لحوارهم الذي بدأ الآن يصخب فلا تعود الأمور كما كانت، ستطفو المشاكل كالأوساخ على سطح ليلتهم هاته، يشاركون الطبيعة عنفها وهم ينحدرون جهة اصطخابهم، ينبشون حياة الآخرين فيعرون على جروح لم تندمل.تصل أصواتهم مضجعه فيحس ألم ما يحصل.ساخنا،في إحساس الراحة، غير متواطئ مع تفاصيل حكاياتهم، لا يشكو تعبا في ثباته، ذاته عميقة جدا كما بحيرة، لايسقط .لا حاجة له للكلام.البدوي صاف لكنه لايبوح:قال قبل أن ينام ويحلم.
يمكن لليل أن يرخي السدول، يمكن لظلامه أن يسيل، فقد تعب الرجل.وحده في الليل الضارب .السماء قبة بعيدة والأرض أسود سرمدي.يمكن للصحراء أن تتخفى.المسافة تذوب ويظل الفراغ .اللاوجود. يمكن للضربان أن تفتح فمها في العراء لتأكل البرد.يمكن للريح الرملية الساخنة أن تهب حتى بالليل فهي لا تعرف موعدا.يُمكن لعيشة قنديشة أن تصل وقتما تشاء .عيشة الحاذقة في المكر. الطالعة من ليل كل الحكايات.المرأة التي تتلون في وجوه وملامح كثيرة لكنها لا تستطيع تغيير شكل رجليها.يا حُزنها.وصلت.كان تقف أمامه. أسنانها تكاد تبلغ الأرض، أذناها أذنا حمار.قالت : هل ترى أسناني؟ لكنه ظل واقفا كالعود الصلب، لايرشح قلبه خوفا ولا قلقا ولافوضى. لايذوب أمامها كالثلج في الصهد، لايرتّل الرجفة، ممتلئا رغم تعبه، ممتلئا بحسه البدوي القادر على تخطي العقبات، وقدرته على عيش أي احتمال.
ولم يرتجف الرجل، لكنه كان يبحث عن سيفه فلم يجد .وتذكر ما كانت أمه تحكيه عن جد قديم أظهر لعيشة الغمد وقال: وأنت ألا ترين سيفي؟ ثم يفيق على صفير الريح .كان الفجر قد هلّ فواصل المسير مودعا أهل الدار بعد أن تمعن بأسف في الخيمة وأهلها باحثا عن المعنى.سار بعد أن أكد له حالهم جدوى بحثه. سار ينتابه الأمل، قد يجد ضالته.لكنه لم يجد في المدى المفتوح سوى غربانا طالما راودته، فاجأته والتفّت حول جيفة غزال. الغربان حوله تنعق ثم تستحيل مناجلا تعمل فيه .يُفيق ويدرك أنه نام ماشيا وأن كل ما حدث كان صدى لأحلامه.
المدى سراب، والجبل أمامه ينفتح على اتساعٍ مهول للفراغ ثم جبل .مُنحنيا ارتفع الرجل. امتدت أرض صهباء أمامه، خيام وأبنية، كان قد وصل، كما لا ينبغي ربما، إلى مكان ما.
وأعرف هذه القرية، أعرف أهلها.فاجأت الرجل ليلة فآنس نارا أخرى اتبع سبيلها ثم سلم على أهل القرية، فلم يستنبحهُ كلب بل رحبت عبر خباء الموارب عجوز طاعنة في كل شيء وقادته إلى فراش من الشعر الأسود واستفسرته عن نوع المرأة الراغب فيها، فهدّه السؤال:
-هكذا أصبحتم أيها البدو بعد استقراركم؟ لكنه أذعن. ليجرب على كل حال فقد يكون الباطن أجدى من الظاهر وقد يكون للكلام معنى غير المألوف.
جاءته القينة تتهادى يغطيها خمار، خلف سريرهما نضج الصمت لوقت طويل.ثم فتحت النافدة المغلقة ليمر القليل من الهواء النقي.
وتراقصت البدوية الغانية بغنج أمامه و كشفت عن الزين المسرار فتحطم قلبه، كانت أنثاه التي طالما حلم بها عذراءً.
كان قد أحس ذلا كبيرا.صداع الرأس يكاد يفنيه.غادر المكان ثم امتطى أعلى ثلة.أحس للمرة الأولى نقاء الهواء، وتوقفت هواجسه عن الجريان، كانت ذماغه الناشفة قد لانت وهدأت بفعل برودة مفاجئة، وتساءل لأول مرة بحزم:عم تبحث أيها المبحر في الصحراء؟ ولماذا قال الشيخ أن التيه في الداخل؟ هل ابن الماضي أنت أم ابن الحاضر؟من أي ثقب في الزمان وقعت؟ هل تحلم أم أنت في صحوك؟ ولم هذا الترتيب:البحث عن الحقيقة يواجهها سوط النميمة ثم المرأة التي تحطم القلب؟ كانت الأسئلة قد عذبته فقرفص أعلى الثلة.
وأعرف رجالا كُثُرا .خضر العيون شقر الوجوه.على وجوههم أثار النعمة رغم غلالة الغبار التي تغطيها.جاؤوا من شيكاغو أو نيوجيرسي يكسرون الرتابة و كانوا يسيرون . يصطادون الأرانب والغزال.كانوا قد غسلوا الأجساد بالبيرة، طبخوا لحم الغزال ،ثم أخمدوا النار بماءٍ غالٍ.تعاركوا حتى أدمت وجوههم، حدقوا في ملامح بعضهم بغضب في العتمة التي تسبق الفجر،عيونهم غائمة من سهرة البارحة.ضحكوا كثيرا وسبوا بعضهم بلكنة الروم ثم انصرفوا للصيد من جديد.كانوا قد ساروا عندما رأوا شبحا يتحرك و يقرفص أعلى الثلة .ولأنهم فقدوا المرايا فقد تراهنوا حول جنس الغنيمة فقال بعضهم أنها غزال ورجح البعض أن يكون ظبيا.ولم يكونوا قد وصلوا إلى نتيجة عندما جهز أحدهم البندقية وصوّب.
اللسعة
نوم ثقيل، وظلمة كثيفة تُسوّر المكان، تُغلّف وجوم المساحة. ثمة السماء أيضا:متهللة، مُشرَعة ضاحكة.
من يحس كثافة الظلمة؟المرأة الصحراوية الغارقة في نومها؟المتوّجة بعرقها المالح الغليظ ؟أم الطفل المترسب بين أحضانها ؟من يحس على الخصوص تلك الحركة عند قدم الطفل؟ حركة محايدة، تُلامس قدمه ولا تلامسها، تخلقُ مسافة ما،تُنتِجُ أحساسين:إحساس اللذة وإحساس الفزع.
اللذة الناجمة عن دغدغة جسم غريب للقدم:إحساس خفيف جميل يتسرب إلى أعماق الروح.والفزع الفطري، النابع من مجهول، المولود مع الطفل، ربما قبله، إحساس الخوف العميق.
يتوحد الإحساسان، يتوالفان، ينبعان من مكان واحد، من روح الطفل النائم في عراء الصيف،تحت سماء الليل المتلألئة..
حركة غامضة عند قدم الطفل.ثم يسحب القدم هاربا من تلك الحركة، من خوفها و لذتها..يسحبها بسرعة، لكن الجسم يظل ممسكا بقدمه، لثوان معدودة، يحلم الطفل خلالها، كأنما يطول الحلم أياما.يرى نفسه في صحراء، هاربا من مجهول ما، يحثه الأطفال على الهرب، لكنه يتلكأ، ثم هاهو الشيء المجهول يقترب، يحاصره، لا يترك له منفذا، وسيكون عليه أن يقفز لكي يهرب.يقفز، ثم يسقط فتُغرز شوكة في قدمه..يصرخ الطفل على إثر الحلم، بعد اللسعة، في الحلم والواقع.
عند الصرخة يتحد الكونان:كون الحلم، وكون الواقع.تنهض الأم ذات الربيع السادس عشر، منزعجة من صياح ابنها، وترى عقربا مبتعدة في خفة.
ترتدي الملابس على عجل، الطفل في حضنها، كالتائهة تركض حتى منزل أمها.
-هل قتلتِها؟ قالت العجوز.
ولم تنتظر جوابا، تفحصت مكان الضرر، ثم بدأت في تجريب وصفاتها:البصل والبادنجان والبيض...
كانت قد جربت كل شيء، قبل أن تقبل عن مضض زيارة الطبيب في مستوصف القرية، آن لاحظت تورّم جسد الطفل.متذمرا حقنه، ثم عاد إلى نومه.
قبل الفجر، كان المنزل قد امتلأ، تحلقت النساء حول الطفل النائم، ثم انتهى بهن المطاف إلى نسيانه والاهتمام بثرثرتهن.
وأمه، كانت تراقبه.تراقب تنفسه المنتظم، وتقيس حرارة جبهته بأصابعها المرتجفة، ثم يفتح عينيه ببطء، فيتهلل وجهها، وتشرع في بكاء غزير هاديء.
مُسوّرة بصمتها، وبثرثرة النساء اللائي جئن للكلام فقط،ترمق عينيه، كأنما تراه للمرة الأولى.
-هل قتلتِها؟ قالت العجوز مرة أخرى، كأنما للتو سألت، كأنما لا فارق بين السؤال والسؤال، كأنما تذكرته فجأة..
-لا.أجابت المرأة الصغيرة.
لبرهة، توقفت النساء عن الكلام، بتعجب واضح رمقنها، وسادت فترة وجوم.سَرَت المهمهمات:كيف تجرؤ على هذا الخطأ ...وقتها ستُصدر العجوز الأوامر.
سيتبخر الأطفال وقتذاك.وتنتظر الأم صامتة.تفكر في خطئها.ثم يغلب الاطمئنان عليها فتنام وتحلم حلمها....
تحلم بالفرس، راكضا في الرمل، فرس أخضر، فارسه مدثر بالبياض، وتسأل الفارس، حين يمر قربها، إن كان «سيدي عبد القادر الجيلاني»؟ أم زوجها؟لكن الفارس يُسرع كالزوبعة.كان بودها أن تسأله أشياء كثيرة لكنه غاب.ربما كان الفارس شخصا آخر، أبوها مثلا، وربما لم يكن راكبا فرسه بل حمارا أشهب، وتراه، قادما نحوها، منكس الرأس، ولا تعرف هل بسبب التواضع أم الخجل.وتود لو تسأله، لماذا تزوجَت صغيرة؟ لكنها استرسلت في الحلم قبل أن توقظها شمس الصباح الساخنة.
سيتبخر الأطفال للبحث عن العقرب...
-كلما تحركتِ العقرب بطلاقة يسري السم في دمه .قالت لهم العجوز.
سينبشون في كل غرف الدار، وفي زريبة البهائم، ثم ينتهي المطاف بهم إلى مكان جمع الحطب.مُتقدمةً، ترفع الحزمة الأولى، ثم يتبعها الأطفال،
-لا تستعملوا أياديكم.
كلما صادفهم سواد تراجعوا.في النهاية، توقفوا عند آخر حزمة، أعواد متشابكة من جريد النخل معقودة بالسعف. ترفع الجدة الحزمة بمشقة، وتجربة، غير مكترثة بما قد يحصل فينز السواد..
عشرات العقاب الصغيرة، بعضها غير مُكتمل، يمينا ويسارا، وتحت الحزمة، مباشرة، منكمشة على نفسها، تنام العقرب، مطمئنة ربما إلى أن لا مفر من النهاية، على ظهرها الكثير من العقارب الصغيرة.
يتوقف الأطفال متأملين المشهد، متأملين على الخصوص تلك الحركة الشعواء للصغار. حركة فريدة، نزقة، هنا وهناك، متخبطة، تفتقد النضج الضروري، تشي بالتيه، تنز منها حلاوة الرغبة في الحياة، ممتلئة بالطبيعة والأسئلة...
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة