إريش فْرِيد
مئة عام على مولد الشاعر النمساوى اليهودى
إريش فْرِيد وحرية «فتح الفم» فى «المسألة الإسرائيلية»
الثلاثاء، 25 مايو 2021 - 02:51 م
سمير جريس
«منذ أن مارست فاشية هتلر جرائم القتل بحق اليهود، تولد فى أوروبا الغربية شعور جماعى بالذنب له أسبابه المفهومة – وكثيراً ما أدى هذا الشعور إلى امتناع المرء عن توجيه أى نقد لليهود، وفى الوقت ذاته ساوى الناس بلا أدنى تفكير بين اليهود والصهاينة»"
قائل أو كاتب هذه الكلمات هو الشاعر النمساوى، اليهودى، إريش فريد Erich Fried، الذى يضيف فى هذا السياق: «إننى لا أشعر بالتضامن مع كل المشردين والمضطهدين الأبرياء فحسب، وإنما أيضا بشىء من الاشتراك فى المسئولية تجاه ما يرتكبه يهود إسرائيل ضد الفلسطينيين وباقى العرب».
هكذا كان إريش فريد، واضحا، حادا، لا يخشى توجيه النقد إلى الآخرين، ولا يخشى أن توجه التهم إليه. كان فريد من القلائل فى المنطقة الألمانية الذين تجرأوا على انتقاد إسرائيل بكل وضوح، بل وتبدو بعض قصائده وكأنها تعليق على ما يحدث الآن فى فلسطين، رغم أنه كتبها قبل نحو خمسين عاما.
فى السادس من مايو احتفت الأوساط الأدبية فى المنطقة الألمانية بذكرى ميلاده قبل مئة عام، وهو الذى كان أحد أبرز الأصوات الشعرية فى سنوات الحركة الطلابية فى ألمانيا. ومثلما كان الطلبة فى مصر يرددون أشعار أمل دنقل المتمردة فى السبعينيات، لم تكن تخلو مظاهرة طلابية ألمانية فى ستينيات القرن الماضى من أبيات لإريش فريد يرددها الطلبة أو يكتبونها على المنشورات السياسية، لاسيما من ديوانه الشهير "وفيتنام و..." المنتقد للسياسة الأمريكية فى فيتنام.
أثارت أشعار إريش فْرِيد السياسية جدل النقاد والقراء فى ألمانيا، لخروجه عن البلاغيات المألوفة للشعر من ناحية، ولانتهاكه المحرمات السياسية من ناحية أخرى، وخاصة عندما تحول إلى انتقاد إسرائيل انتقادا مباشرا، لاذعا وحاد اللهجة بعد حرب 1967، متهما الحكومة الإسرائيلية بأنها تحولت تدريجيا من "حكومة قمع" إلى "حكومة مجرمين"، كما قال فى إحدى قصائده. كتب إريش فْرِيد آنذاك قصيدة طويلة عنوانها: "اسمعى يا إسرائيل"، حذر فيها الإسرائيليين من الأيديولوجية الصهيونية التى بدّلت الأدوار، وحولت ضحايا النازية بالأمس إلى قتلة اليوم. وفى عام 1974 أصدر كتاباً يحمل العنوان ذاته، ضمنه إلى جانب "اسمعى يا إسرائيل" قصائد أخرى تتابع جرائم دولة إسرائيل منذ إنشائها، بالإضافة إلى قصيدة مترجمة للشاعر العبرى موردخاى آفى شاول. يضم الكتاب أيضاً نصوصاً لبعض الصهاينة، تركها فريد كما هى، مثل نصوص هرتزل؛ كل ما فعله - كى يبرز ما بها من عنصرية - أن قطّع سطورها لتبدو كأبيات قصائد، وذلك حتى يقف القارئ أمام الكلمات متأملاً.
يقول الشاعر فى مقطع من قصيدة «اسمعى يا إسرائيل»:
"راقبتم جلاديكم وتعلمتم منهم
الحرب الخاطفة والجرائم الوحشية الفعالة / (....)
عندما كنتم مُضَطهَدين كنتُ واحداً منكم
كيف أظل جزءاً منكم عندما تضطهدون الآخرين؟"
أما فى قصيدة "الخلفاء" فيقول:
لأن قتلة فاشيين طردوا يهوداً
ينبغى الآن على قتلة فاشيين أن يَغتالوا فلسطينيين أبرياء
من مقتل يهود أوروبا بالطريقة نفسها
التى اُغتيل بها اليهود آنذاك. (...)
ولأن يهوداً ويساريين يسمون ما يحدث جنوناً
ولا يريدون أن يعاونوا القتلة يُطلِق الصهاينةُ
على هؤلاء اليساريين "نازيين" وعلى اليهود المعادين للفاشية
وصف "اليهود المعادين للسامية" و"خونة ذويهم".
«يهودى كاره لليهود»
أثار نشر هذه القصائد – مثلما يمكن أن نتوقع - ردود فعل عنيفة داخل ألمانيا وخارجها، كما توالت على الشاعر أبشع الاتهامات؛ فبالإضافة إلى التهمة المعتادة فى تلك الحالات، تهمة "معاداة السامية"، اتُهم بأنه "يهودى كاره لليهود"، وقد بدت كلتا التهمتين مضحكتين عندما توجهان إلى شاعر يهودى لم ينج عدد من أفراد عائلته من الهولوكوست، ولم ينج هو إلا بالهرب من النمسا. أُتهم فريد أيضا بالتجديف وتحريف الكتاب المقدس، وبأنه "مُدافع عن هتلر"، إلى آخر تلك القائمة. لذا لم يكن سهلاً على إريش فْرِيد - كما يذكر فى مقدمة ديوانه "اسمعى يا إسرائيل" - نشر تلك القصائد. ولم يواجه فريد هذا الهجوم من تيار اليمين أو من اللوبى الإسرائيلى فحسب، بل أيضا من بعض كتاب اليسار الذين اعتبروا نظرته "قاصرة" و"أحادية" واتهموا قصائده السياسية بالمباشرة وغياب جماليات الشعر؛ ومن هؤلاء مثلاً الروائى اليسارى جونتر جراس الذى هاجم فريد فى أحد اجتماعات "جماعة 47" الأدبية. من ناحية أخرى انحاز بعض الشعراء المهمين لصوت إريش فريد ورسالته السياسية، ومنهم هانز ماجنوس إنتسنسبرجر.
إقصاء ديوان "اسمعى يا إسرائيل" من مسيرة الشاعر أمر تكرر كثيرا فى حياة الشاعر وبعد وفاته. وإذا تصفحنا سيرة إريش فريد على موقع "ويكيبيديا" الألمانى مثلا لما وجدنا حرفا عن هذا الديوان. وكذلك عندما نطالع كتاب الناقد المشهور فولكر فايدرمان "سنوات ضوئية" عن تاريخ الأدب الألمانى، نجد أنه فى كلامه عن إريش فريد لا يذكر ديوان "اسمعى يا إسرائيل" بكلمة.
كان إريش فريد معتادا منذ شبابه على انتهاك المحرمات السياسية بشجاعة، إذ نكأ الجرح النازى فى ألمانيا قبل أن يندمل، ثم هاجم السياسة الألمانية فى الستينيات لأنها غضت الطرف عن الجرائم العسكرية التى تمارسها الحليفة أمريكا (آنذاك فى فيتنام ونيكاراجوا)، ولأنها مارست إرهاب الدولة فى السبعينيات فى مواجهة إرهاب مجموعات اليسار المتطرف. ومَن يقرأ سيرته، أو ذكرياته عن السنوات التى قضاها طفلا فى فيينا والتى صدرت تحت عنوان "وكنا نضحك أحيانا"، يعرف أنه تعلم مبكرا ضرورة "فتح الفم" مثلما يقول فى عنوان أحد دواوينه، لكى يعترض على الظلم الذى يمتلئ به العالم. ويحكى فريد فى سيرته حكاية شديدة الدلالة حدثت فى أحد أيام صيف عام 1927، أى عندما كان فى السادسة من عمره: كان فريد بصحبة أمه فى جولة للتسوق فى شوارع فيينا، ورأى الجموع تتظاهر احتجاجاً على حكم أصدرته المحكمة العليا بتبرئة مجموعة من الإرهابيين اليمينيين الذين قتلوا شخصين. لتفرقة المتظاهرين قامت قوات الشرطة بإطلاق الرصاص، مما تسبب فى مقتل وإصابة عدد كبير من المواطنين العزل. كان الطفل إريش شاهد عيان على ذلك اليوم - 15/7/1927 - الذى أُطلق عليه فيما بعد "يوم الجمعة الدامي". فى العام ذاته، ومع احتفالات عيد ميلاد المسيح، نظمت المدرسة احتفالاً كبيراً كُلِفَ فيه إريش بإلقاء بعض القصائد. قبل أن يصعد الطفل على خشبة المسرح تناهى إلى سمعه أن رئيس شرطة فيينا يجلس بين الحاضرين، فانتهز الفرصة ووقف أمام الناس قائلا بكل ثقة إنه يعتذر عن عدم تلاوة قصيدة عيد الميلاد، وذلك لوجود رئيس الشرطة، الدكتور شوبر، بين الحاضرين. واسترسل فريد وحكى عما شاهده فى شوارع فيينا يوم الجمعة الدامى. عندئذ انتفض رئيس الشرطة غاضباً وغادر القاعة، فعاد الطفل إلى المسرح وقال: "الآن يمكننى أن أتلو قصيدتي".
"الإرهاب هو ما يفعله الفلسطينيون"؟
بعد الحرب العالمية الثانية حاول إريش فْرِيد الرد على السؤال الملح: كيف يمكن إبداع شعر بلغة النازيين القتلة؟ فى محاولة للرد على السؤال اتجه فْرِيد إلى الشعر السياسى المباشر الذى يهتم بالمضمون ويتخلى عمداً عن التزويق والمحسنات البديعية والاستعارات البلاغية. فى قصائده يتساءل فريد عن المعنى الحقيقى للكلمات، وعما إذا كانت اللغة تزيد من وعى الإنسان بواقعه، أم تزيف الوعى وتؤدى أحيانا إلى فقدانه؛ لذا نجده يكرر فى عديد من قصائده الكلمة الواحدة لكشف الاستخدام الشائع لها الذى يبتعد كثيراً – فى أحيان عديدة - عن معناها الحقيقى. لنتمعن مثلاً فى استخدامه لمفردة "السلام" فى قصيدته: "بعد اتفاقية بين السادات والصهاينة":
"السلام الذى ليس سلاماً توسط فيه صانع سلام
ليس بصانع سلام بين خليفةٍ ناصر
وهو ليس بخليفة ناصر وبين ديمقراطية
ليست ديمقراطية (....) يأتى بصلحٍ
ما هو بصلح ويعد بمستقبل
ما هو بمستقبل ويريد أن يوقظ أملاً
ما هو بالأمل فى فلسطين
ما هى بفلسطين. الظلم يظل ظلماً
عنصرية الصهاينة تظل عنصرية
المشردون يظلون مشردين
وقراهم المدمرة تظل مدمرة
وقضيتهم العادلة تظل عادلة
وأملهم يظل هو الأمل.
وفى قصيدة أخرى بعنوان «بعض منها» يتوقف الشاعر أمام كلمة «حوادث» و«إرهاب»، ويقول متهكماً بعد أن يعدد الجرائم التى ارتكبتها القوات الإسرائيلية فى دير ياسين وكفر قاسم وبحر البقر:
حوادث كلها مجرد حوادث
الإرهاب هو ما يفعله الفلسطينيون.
ونشير فى الختام إلى تحول الشاعر فى الثمانينيات إلى أشعار الحب التى حققت شعبية كبيرة فى المنطقة الألمانية (يمكن مقارنتها بشعبية أشعار نزار قبانى وسهولتها)، وفى غضون سنوات خمس سجلت مبيعات أشعاره العاطفية أرقاماً قياسياً لم يشهدها سوق الشعر الألمانى من قبل. ومن دواوينه العاطفية: «قصائد حب» و«البحث عن قريب» و«الكائن هو ما يكون». كما لمع اسمه مترجما، وتعتبر ترجماته لشكسبير من أفضل المقاربات للغة الشاعر الإنجليزى. وربما بسبب هذا النجاح المدوى عرف الشاعر التكريم فى آخر سنوات حياته، بعد أن تجاهلته الجوائز الأدبية طويلاً، فنال جوائر عديدة، من أهمها جائزة غيورغ بوشنر، أرفع الأوسمة الأدبية فى المنطقة الألمانية.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة