إريش فْرِيد
إريش فْرِيد


مئة عام على مولد الشاعر النمساوى اليهودى

إريش فْرِيد وحرية «فتح الفم» فى «المسألة الإسرائيلية»

أخبار الأدب

الثلاثاء، 25 مايو 2021 - 02:51 م

سمير‭ ‬جريس

‮«‬منذ‭ ‬أن‭ ‬مارست‭ ‬فاشية‭ ‬هتلر‭ ‬جرائم‭ ‬القتل‭ ‬بحق‭ ‬اليهود،‭ ‬تولد‭ ‬فى‭ ‬أوروبا‭ ‬الغربية‭ ‬شعور‭ ‬جماعى‭ ‬بالذنب‭ ‬له‭ ‬أسبابه‭ ‬المفهومة‭ ‬–‭ ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬إلى‭ ‬امتناع‭ ‬المرء‭ ‬عن‭ ‬توجيه‭ ‬أى‭ ‬نقد‭ ‬لليهود،‭ ‬وفى‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬ساوى‭ ‬الناس‭ ‬بلا‭ ‬أدنى‭ ‬تفكير‭ ‬بين‭ ‬اليهود‭ ‬والصهاينة‮»‬‭"‬

قائل‭ ‬أو‭ ‬كاتب‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬هو‭ ‬الشاعر‭ ‬النمساوى،‭ ‬اليهودى،‭ ‬إريش‭ ‬فريد‭ ‬Erich Fried،‭ ‬الذى‭ ‬يضيف‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭: ‬‮«‬إننى‭ ‬لا‭ ‬أشعر‭ ‬بالتضامن‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬المشردين‭ ‬والمضطهدين‭ ‬الأبرياء‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضا‭ ‬بشىء‭ ‬من‭ ‬الاشتراك‭ ‬فى‭ ‬المسئولية‭ ‬تجاه‭ ‬ما‭ ‬يرتكبه‭ ‬يهود‭ ‬إسرائيل‭ ‬ضد‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬وباقى‭ ‬العرب‮»‬‭.‬

هكذا‭ ‬كان‭ ‬إريش‭ ‬فريد،‭ ‬واضحا،‭ ‬حادا،‭ ‬لا‭ ‬يخشى‭ ‬توجيه‭ ‬النقد‭ ‬إلى‭ ‬الآخرين،‭ ‬ولا‭ ‬يخشى‭ ‬أن‭ ‬توجه‭ ‬التهم‭ ‬إليه‭. ‬كان‭ ‬فريد‭ ‬من‭ ‬القلائل‭ ‬فى‭ ‬المنطقة‭ ‬الألمانية‭ ‬الذين‭ ‬تجرأوا‭ ‬على‭ ‬انتقاد‭ ‬إسرائيل‭ ‬بكل‭ ‬وضوح،‭ ‬بل‭ ‬وتبدو‭ ‬بعض‭ ‬قصائده‭ ‬وكأنها‭ ‬تعليق‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬الآن‭ ‬فى‭ ‬فلسطين،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬كتبها‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬خمسين‭ ‬عاما‭. ‬

فى‭ ‬السادس‭ ‬من‭ ‬مايو‭ ‬احتفت‭ ‬الأوساط‭ ‬الأدبية‭ ‬فى‭ ‬المنطقة‭ ‬الألمانية‭ ‬بذكرى‭ ‬ميلاده‭ ‬قبل‭ ‬مئة‭ ‬عام،‭ ‬وهو‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬الأصوات‭ ‬الشعرية‭ ‬فى‭ ‬سنوات‭ ‬الحركة‭ ‬الطلابية‭ ‬فى‭ ‬ألمانيا‭. ‬ومثلما‭ ‬كان‭ ‬الطلبة‭ ‬فى‭ ‬مصر‭ ‬يرددون‭ ‬أشعار‭ ‬أمل‭ ‬دنقل‭ ‬المتمردة‭ ‬فى‭ ‬السبعينيات،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تخلو‭ ‬مظاهرة‭ ‬طلابية‭ ‬ألمانية‭ ‬فى‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضى‭ ‬من‭ ‬أبيات‭ ‬لإريش‭ ‬فريد‭ ‬يرددها‭ ‬الطلبة‭ ‬أو‭ ‬يكتبونها‭ ‬على‭ ‬المنشورات‭ ‬السياسية،‭ ‬لاسيما‭ ‬من‭ ‬ديوانه‭ ‬الشهير‭ "‬وفيتنام‭ ‬و‭..." ‬المنتقد‭ ‬للسياسة‭ ‬الأمريكية‭ ‬فى‭ ‬فيتنام‭. ‬

أثارت‭ ‬أشعار‭ ‬إريش‭ ‬فْرِيد‭ ‬السياسية‭ ‬جدل‭ ‬النقاد‭ ‬والقراء‭ ‬فى‭ ‬ألمانيا،‭ ‬لخروجه‭ ‬عن‭ ‬البلاغيات‭ ‬المألوفة‭ ‬للشعر‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬ولانتهاكه‭ ‬المحرمات‭ ‬السياسية‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬وخاصة‭ ‬عندما‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬انتقاد‭ ‬إسرائيل‭ ‬انتقادا‭ ‬مباشرا،‭ ‬لاذعا‭ ‬وحاد‭ ‬اللهجة‭ ‬بعد‭ ‬حرب‭ ‬1967،‭ ‬متهما‭ ‬الحكومة‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬بأنها‭ ‬تحولت‭ ‬تدريجيا‭ ‬من‭ "‬حكومة‭ ‬قمع‭" ‬إلى‭ "‬حكومة‭ ‬مجرمين‭"‬،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬فى‭ ‬إحدى‭ ‬قصائده‭. ‬كتب‭ ‬إريش‭ ‬فْرِيد‭ ‬آنذاك‭ ‬قصيدة‭ ‬طويلة‭ ‬عنوانها‭: "‬اسمعى‭ ‬يا‭ ‬إسرائيل‭"‬،‭ ‬حذر‭ ‬فيها‭ ‬الإسرائيليين‭ ‬من‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬الصهيونية‭ ‬التى‭ ‬بدّلت‭ ‬الأدوار،‭ ‬وحولت‭ ‬ضحايا‭ ‬النازية‭ ‬بالأمس‭ ‬إلى‭ ‬قتلة‭ ‬اليوم‭. ‬وفى‭ ‬عام‭ ‬1974‭ ‬أصدر‭ ‬كتاباً‭ ‬يحمل‭ ‬العنوان‭ ‬ذاته،‭ ‬ضمنه‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ "‬اسمعى‭ ‬يا‭ ‬إسرائيل‭" ‬قصائد‭ ‬أخرى‭ ‬تتابع‭ ‬جرائم‭ ‬دولة‭ ‬إسرائيل‭ ‬منذ‭ ‬إنشائها،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬قصيدة‭ ‬مترجمة‭ ‬للشاعر‭ ‬العبرى‭ ‬موردخاى‭ ‬آفى‭ ‬شاول‭. ‬يضم‭ ‬الكتاب‭ ‬أيضاً‭ ‬نصوصاً‭ ‬لبعض‭ ‬الصهاينة،‭ ‬تركها‭ ‬فريد‭ ‬كما‭ ‬هى،‭ ‬مثل‭ ‬نصوص‭ ‬هرتزل؛‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ - ‬كى‭ ‬يبرز‭ ‬ما‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬عنصرية‭ - ‬أن‭ ‬قطّع‭ ‬سطورها‭ ‬لتبدو‭ ‬كأبيات‭ ‬قصائد،‭ ‬وذلك‭ ‬حتى‭ ‬يقف‭ ‬القارئ‭ ‬أمام‭ ‬الكلمات‭ ‬متأملاً‭. ‬

يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬فى‭ ‬مقطع‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬اسمعى‭ ‬يا‭ ‬إسرائيل‮»‬‭: ‬

‭"‬راقبتم‭ ‬جلاديكم‭ ‬وتعلمتم‭ ‬منهم‭ ‬

الحرب‭ ‬الخاطفة‭   ‬والجرائم‭ ‬الوحشية‭ ‬الفعالة‭ / (....)‬

عندما‭ ‬كنتم‭ ‬مُضَطهَدين‭   ‬كنتُ‭ ‬واحداً‭ ‬منكم‭ ‬

كيف‭ ‬أظل‭ ‬جزءاً‭ ‬منكم‭   ‬عندما‭ ‬تضطهدون‭ ‬الآخرين؟‭"‬

أما‭ ‬فى‭ ‬قصيدة‭ "‬الخلفاء‭" ‬فيقول‭:‬

لأن‭ ‬قتلة‭ ‬فاشيين‭  ‬طردوا‭ ‬يهوداً‭ ‬

ينبغى‭ ‬الآن‭ ‬على‭ ‬قتلة‭ ‬فاشيين‭  ‬أن‭ ‬يَغتالوا‭ ‬فلسطينيين‭ ‬أبرياء‭ ‬

من‭ ‬مقتل‭ ‬يهود‭ ‬أوروبا‭  ‬بالطريقة‭ ‬نفسها‭ ‬

التى‭ ‬اُغتيل‭ ‬بها‭ ‬اليهود‭ ‬آنذاك‭. (...)‬

ولأن‭ ‬يهوداً‭ ‬ويساريين‭   ‬يسمون‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬جنوناً‭ ‬

ولا‭ ‬يريدون‭ ‬أن‭ ‬يعاونوا‭ ‬القتلة‭  ‬يُطلِق‭ ‬الصهاينةُ‭ ‬

على‭ ‬هؤلاء‭ ‬اليساريين‭ "‬نازيين‭" ‬وعلى‭ ‬اليهود‭ ‬المعادين‭ ‬للفاشية‭ ‬

وصف‭ "‬اليهود‭ ‬المعادين‭ ‬للسامية‭" ‬و‭"‬خونة‭ ‬ذويهم‭".‬

‮«‬يهودى‭ ‬كاره‭ ‬لليهود‮»‬

أثار‭ ‬نشر‭ ‬هذه‭ ‬القصائد‭ ‬–‭ ‬مثلما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتوقع‭ - ‬ردود‭ ‬فعل‭ ‬عنيفة‭ ‬داخل‭ ‬ألمانيا‭ ‬وخارجها،‭ ‬كما‭ ‬توالت‭ ‬على‭ ‬الشاعر‭ ‬أبشع‭ ‬الاتهامات؛‭ ‬فبالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬التهمة‭ ‬المعتادة‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الحالات،‭ ‬تهمة‭ "‬معاداة‭ ‬السامية‭"‬،‭ ‬اتُهم‭ ‬بأنه‭ "‬يهودى‭ ‬كاره‭ ‬لليهود‭"‬،‭ ‬وقد‭ ‬بدت‭ ‬كلتا‭ ‬التهمتين‭ ‬مضحكتين‭ ‬عندما‭ ‬توجهان‭ ‬إلى‭ ‬شاعر‭ ‬يهودى‭ ‬لم‭ ‬ينج‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬عائلته‭ ‬من‭ ‬الهولوكوست،‭ ‬ولم‭ ‬ينج‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬بالهرب‭ ‬من‭ ‬النمسا‭. ‬أُتهم‭ ‬فريد‭ ‬أيضا‭ ‬بالتجديف‭ ‬وتحريف‭ ‬الكتاب‭ ‬المقدس،‭ ‬وبأنه‭ "‬مُدافع‭ ‬عن‭ ‬هتلر‭"‬،‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬تلك‭ ‬القائمة‭. ‬لذا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سهلاً‭ ‬على‭ ‬إريش‭ ‬فْرِيد‭ - ‬كما‭ ‬يذكر‭ ‬فى‭ ‬مقدمة‭ ‬ديوانه‭ "‬اسمعى‭ ‬يا‭ ‬إسرائيل‭" - ‬نشر‭ ‬تلك‭ ‬القصائد‭. ‬ولم‭ ‬يواجه‭ ‬فريد‭ ‬هذا‭ ‬الهجوم‭ ‬من‭ ‬تيار‭ ‬اليمين‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬اللوبى‭ ‬الإسرائيلى‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬كتاب‭ ‬اليسار‭ ‬الذين‭ ‬اعتبروا‭ ‬نظرته‭ "‬قاصرة‭" ‬و‭"‬أحادية‭" ‬واتهموا‭ ‬قصائده‭ ‬السياسية‭ ‬بالمباشرة‭ ‬وغياب‭ ‬جماليات‭ ‬الشعر؛‭ ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬مثلاً‭ ‬الروائى‭ ‬اليسارى‭ ‬جونتر‭ ‬جراس‭ ‬الذى‭ ‬هاجم‭ ‬فريد‭ ‬فى‭ ‬أحد‭ ‬اجتماعات‭ "‬جماعة‭ ‬47‭" ‬الأدبية‭. ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬انحاز‭ ‬بعض‭ ‬الشعراء‭ ‬المهمين‭ ‬لصوت‭ ‬إريش‭ ‬فريد‭ ‬ورسالته‭ ‬السياسية،‭ ‬ومنهم‭ ‬هانز‭ ‬ماجنوس‭ ‬إنتسنسبرجر‭.‬

إقصاء‭ ‬ديوان‭ "‬اسمعى‭ ‬يا‭ ‬إسرائيل‭" ‬من‭ ‬مسيرة‭ ‬الشاعر‭ ‬أمر‭ ‬تكرر‭ ‬كثيرا‭ ‬فى‭ ‬حياة‭ ‬الشاعر‭ ‬وبعد‭ ‬وفاته‭. ‬وإذا‭ ‬تصفحنا‭ ‬سيرة‭ ‬إريش‭ ‬فريد‭ ‬على‭ ‬موقع‭ "‬ويكيبيديا‭" ‬الألمانى‭ ‬مثلا‭ ‬لما‭ ‬وجدنا‭ ‬حرفا‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الديوان‭. ‬وكذلك‭ ‬عندما‭ ‬نطالع‭ ‬كتاب‭ ‬الناقد‭ ‬المشهور‭ ‬فولكر‭ ‬فايدرمان‭ "‬سنوات‭ ‬ضوئية‭" ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬الألمانى،‭ ‬نجد‭ ‬أنه‭ ‬فى‭ ‬كلامه‭ ‬عن‭ ‬إريش‭ ‬فريد‭ ‬لا‭ ‬يذكر‭ ‬ديوان‭ "‬اسمعى‭ ‬يا‭ ‬إسرائيل‭" ‬بكلمة‭.‬

كان‭ ‬إريش‭ ‬فريد‭ ‬معتادا‭ ‬منذ‭ ‬شبابه‭ ‬على‭ ‬انتهاك‭ ‬المحرمات‭ ‬السياسية‭ ‬بشجاعة،‭ ‬إذ‭ ‬نكأ‭ ‬الجرح‭ ‬النازى‭ ‬فى‭ ‬ألمانيا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يندمل،‭ ‬ثم‭ ‬هاجم‭ ‬السياسة‭ ‬الألمانية‭ ‬فى‭ ‬الستينيات‭ ‬لأنها‭ ‬غضت‭ ‬الطرف‭ ‬عن‭ ‬الجرائم‭ ‬العسكرية‭ ‬التى‭ ‬تمارسها‭ ‬الحليفة‭ ‬أمريكا‭ (‬آنذاك‭ ‬فى‭ ‬فيتنام‭ ‬ونيكاراجوا‭)‬،‭ ‬ولأنها‭ ‬مارست‭ ‬إرهاب‭ ‬الدولة‭ ‬فى‭ ‬السبعينيات‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬إرهاب‭ ‬مجموعات‭ ‬اليسار‭ ‬المتطرف‭. ‬ومَن‭ ‬يقرأ‭ ‬سيرته،‭ ‬أو‭ ‬ذكرياته‭ ‬عن‭ ‬السنوات‭ ‬التى‭ ‬قضاها‭ ‬طفلا‭ ‬فى‭ ‬فيينا‭ ‬والتى‭ ‬صدرت‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ "‬وكنا‭ ‬نضحك‭ ‬أحيانا‭"‬،‭ ‬يعرف‭ ‬أنه‭ ‬تعلم‭ ‬مبكرا‭ ‬ضرورة‭ "‬فتح‭ ‬الفم‭" ‬مثلما‭ ‬يقول‭ ‬فى‭ ‬عنوان‭ ‬أحد‭ ‬دواوينه،‭ ‬لكى‭ ‬يعترض‭ ‬على‭ ‬الظلم‭ ‬الذى‭ ‬يمتلئ‭ ‬به‭ ‬العالم‭. ‬ويحكى‭ ‬فريد‭ ‬فى‭ ‬سيرته‭ ‬حكاية‭ ‬شديدة‭ ‬الدلالة‭ ‬حدثت‭ ‬فى‭ ‬أحد‭ ‬أيام‭ ‬صيف‭ ‬عام‭ ‬1927،‭ ‬أى‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬فى‭ ‬السادسة‭ ‬من‭ ‬عمره‭: ‬كان‭ ‬فريد‭ ‬بصحبة‭ ‬أمه‭ ‬فى‭ ‬جولة‭ ‬للتسوق‭ ‬فى‭ ‬شوارع‭ ‬فيينا،‭ ‬ورأى‭ ‬الجموع‭ ‬تتظاهر‭ ‬احتجاجاً‭ ‬على‭ ‬حكم‭ ‬أصدرته‭ ‬المحكمة‭ ‬العليا‭ ‬بتبرئة‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الإرهابيين‭ ‬اليمينيين‭ ‬الذين‭ ‬قتلوا‭ ‬شخصين‭. ‬لتفرقة‭ ‬المتظاهرين‭ ‬قامت‭ ‬قوات‭ ‬الشرطة‭ ‬بإطلاق‭ ‬الرصاص،‭ ‬مما‭ ‬تسبب‭ ‬فى‭ ‬مقتل‭ ‬وإصابة‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المواطنين‭ ‬العزل‭. ‬كان‭ ‬الطفل‭ ‬إريش‭ ‬شاهد‭ ‬عيان‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ - ‬15‭/‬7‭/‬1927‭ - ‬الذى‭ ‬أُطلق‭ ‬عليه‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ "‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬الدامي‭". ‬فى‭ ‬العام‭ ‬ذاته،‭ ‬ومع‭ ‬احتفالات‭ ‬عيد‭ ‬ميلاد‭ ‬المسيح،‭ ‬نظمت‭ ‬المدرسة‭ ‬احتفالاً‭ ‬كبيراً‭ ‬كُلِفَ‭ ‬فيه‭ ‬إريش‭ ‬بإلقاء‭ ‬بعض‭ ‬القصائد‭. ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يصعد‭ ‬الطفل‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬المسرح‭ ‬تناهى‭ ‬إلى‭ ‬سمعه‭ ‬أن‭ ‬رئيس‭ ‬شرطة‭ ‬فيينا‭ ‬يجلس‭ ‬بين‭ ‬الحاضرين،‭ ‬فانتهز‭ ‬الفرصة‭ ‬ووقف‭ ‬أمام‭ ‬الناس‭ ‬قائلا‭ ‬بكل‭ ‬ثقة‭ ‬إنه‭ ‬يعتذر‭ ‬عن‭ ‬عدم‭ ‬تلاوة‭ ‬قصيدة‭ ‬عيد‭ ‬الميلاد،‭ ‬وذلك‭ ‬لوجود‭ ‬رئيس‭ ‬الشرطة،‭ ‬الدكتور‭ ‬شوبر،‭ ‬بين‭ ‬الحاضرين‭. ‬واسترسل‭ ‬فريد‭ ‬وحكى‭ ‬عما‭ ‬شاهده‭ ‬فى‭ ‬شوارع‭ ‬فيينا‭ ‬يوم‭ ‬الجمعة‭ ‬الدامى‭. ‬عندئذ‭ ‬انتفض‭ ‬رئيس‭ ‬الشرطة‭ ‬غاضباً‭ ‬وغادر‭ ‬القاعة،‭ ‬فعاد‭ ‬الطفل‭ ‬إلى‭ ‬المسرح‭ ‬وقال‭: "‬الآن‭ ‬يمكننى‭ ‬أن‭ ‬أتلو‭ ‬قصيدتي‭". ‬

‭"‬الإرهاب‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬الفلسطينيون‭"‬؟

بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬حاول‭ ‬إريش‭ ‬فْرِيد‭ ‬الرد‭ ‬على‭ ‬السؤال‭ ‬الملح‭: ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬إبداع‭ ‬شعر‭ ‬بلغة‭ ‬النازيين‭ ‬القتلة؟‭ ‬فى‭ ‬محاولة‭ ‬للرد‭ ‬على‭ ‬السؤال‭ ‬اتجه‭ ‬فْرِيد‭ ‬إلى‭ ‬الشعر‭ ‬السياسى‭ ‬المباشر‭ ‬الذى‭ ‬يهتم‭ ‬بالمضمون‭ ‬ويتخلى‭ ‬عمداً‭ ‬عن‭ ‬التزويق‭ ‬والمحسنات‭ ‬البديعية‭ ‬والاستعارات‭ ‬البلاغية‭. ‬فى‭ ‬قصائده‭ ‬يتساءل‭ ‬فريد‭ ‬عن‭ ‬المعنى‭ ‬الحقيقى‭ ‬للكلمات،‭ ‬وعما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬اللغة‭ ‬تزيد‭ ‬من‭ ‬وعى‭ ‬الإنسان‭ ‬بواقعه،‭ ‬أم‭ ‬تزيف‭ ‬الوعى‭ ‬وتؤدى‭ ‬أحيانا‭ ‬إلى‭ ‬فقدانه؛‭ ‬لذا‭ ‬نجده‭ ‬يكرر‭ ‬فى‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬قصائده‭ ‬الكلمة‭ ‬الواحدة‭ ‬لكشف‭ ‬الاستخدام‭ ‬الشائع‭ ‬لها‭ ‬الذى‭ ‬يبتعد‭ ‬كثيراً‭ ‬–‭ ‬فى‭ ‬أحيان‭ ‬عديدة‭ - ‬عن‭ ‬معناها‭ ‬الحقيقى‭. ‬لنتمعن‭ ‬مثلاً‭ ‬فى‭ ‬استخدامه‭ ‬لمفردة‭ "‬السلام‭" ‬فى‭ ‬قصيدته‭: "‬بعد‭ ‬اتفاقية‭ ‬بين‭ ‬السادات‭ ‬والصهاينة‭": ‬

‭"‬السلام‭ ‬الذى‭ ‬ليس‭ ‬سلاماً‭   ‬توسط‭ ‬فيه‭ ‬صانع‭ ‬سلام‭ ‬

ليس‭ ‬بصانع‭ ‬سلام‭   ‬بين‭ ‬خليفةٍ‭ ‬ناصر‭ ‬

وهو‭ ‬ليس‭ ‬بخليفة‭ ‬ناصر‭  ‬وبين‭ ‬ديمقراطية‭ ‬

ليست‭ ‬ديمقراطية‭ (....) ‬يأتى‭ ‬بصلحٍ‭ ‬

ما‭ ‬هو‭ ‬بصلح‭   ‬ويعد‭ ‬بمستقبل‭ ‬

ما‭ ‬هو‭ ‬بمستقبل‭   ‬ويريد‭ ‬أن‭ ‬يوقظ‭ ‬أملاً‭ ‬

ما‭ ‬هو‭ ‬بالأمل‭  ‬فى‭ ‬فلسطين‭ ‬

ما‭ ‬هى‭ ‬بفلسطين‭. ‬الظلم‭ ‬يظل‭ ‬ظلماً‭ ‬

عنصرية‭ ‬الصهاينة‭  ‬تظل‭ ‬عنصرية‭ ‬

المشردون‭  ‬يظلون‭ ‬مشردين‭ ‬

وقراهم‭ ‬المدمرة‭ ‬تظل‭ ‬مدمرة‭ ‬

وقضيتهم‭ ‬العادلة‭ ‬تظل‭ ‬عادلة‭ ‬

وأملهم‭ ‬يظل‭ ‬هو‭ ‬الأمل‭.‬

وفى‭ ‬قصيدة‭ ‬أخرى‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬بعض‭ ‬منها‮»‬‭ ‬يتوقف‭ ‬الشاعر‭ ‬أمام‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬حوادث‮»‬‭ ‬و«إرهاب‮»‬،‭ ‬ويقول‭ ‬متهكماً‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يعدد‭ ‬الجرائم‭ ‬التى‭ ‬ارتكبتها‭ ‬القوات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬فى‭ ‬دير‭ ‬ياسين‭ ‬وكفر‭ ‬قاسم‭ ‬وبحر‭ ‬البقر‭: ‬

حوادث‭  ‬كلها‭ ‬مجرد‭ ‬حوادث‭ ‬

الإرهاب‭ ‬هو‭  ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬الفلسطينيون‭.‬

ونشير‭ ‬فى‭ ‬الختام‭ ‬إلى‭ ‬تحول‭ ‬الشاعر‭ ‬فى‭ ‬الثمانينيات‭ ‬إلى‭ ‬أشعار‭ ‬الحب‭ ‬التى‭ ‬حققت‭ ‬شعبية‭ ‬كبيرة‭ ‬فى‭ ‬المنطقة‭ ‬الألمانية‭ (‬يمكن‭ ‬مقارنتها‭ ‬بشعبية‭ ‬أشعار‭ ‬نزار‭ ‬قبانى‭ ‬وسهولتها‭)‬،‭ ‬وفى‭ ‬غضون‭ ‬سنوات‭ ‬خمس‭ ‬سجلت‭ ‬مبيعات‭ ‬أشعاره‭ ‬العاطفية‭ ‬أرقاماً‭ ‬قياسياً‭ ‬لم‭ ‬يشهدها‭ ‬سوق‭ ‬الشعر‭ ‬الألمانى‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬ومن‭ ‬دواوينه‭ ‬العاطفية‭: ‬‮«‬قصائد‭ ‬حب‮»‬‭ ‬و«البحث‭ ‬عن‭ ‬قريب‮»‬‭ ‬و«الكائن‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يكون‮»‬‭. ‬كما‭ ‬لمع‭ ‬اسمه‭ ‬مترجما،‭ ‬وتعتبر‭ ‬ترجماته‭ ‬لشكسبير‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬المقاربات‭ ‬للغة‭ ‬الشاعر‭ ‬الإنجليزى‭. ‬وربما‭ ‬بسبب‭ ‬هذا‭ ‬النجاح‭ ‬المدوى‭ ‬عرف‭ ‬الشاعر‭ ‬التكريم‭ ‬فى‭ ‬آخر‭ ‬سنوات‭ ‬حياته،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تجاهلته‭ ‬الجوائز‭ ‬الأدبية‭ ‬طويلاً،‭ ‬فنال‭ ‬جوائر‭ ‬عديدة،‭ ‬من‭ ‬أهمها‭ ‬جائزة‭ ‬غيورغ‭ ‬بوشنر،‭ ‬أرفع‭ ‬الأوسمة‭ ‬الأدبية‭ ‬فى‭ ‬المنطقة‭ ‬الألمانية‭.‬

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة