محمد سماوي بعد جائزة النيل
محمد سلماوي بعد جائزة النيل
الثقافة الضامن لبقاء مشروعات التنمية ( البستان)
الأربعاء، 16 يونيو 2021 - 11:05 ص
كتب"ياسر عبدالحافظ
بعد فوزه بجائزة النيل فى الآداب، ولمناسبة إجراء هذا الحوار عدت إلى مذكرات الأديب والكاتب محمد سلماوى التى صدر الجزء الأول منها 2017 تحت عنوان «يوما أو بعض يوم» وإذا كنت قد استمتعت بقراءتها فى المرة الأولى لما تكشف عنه فى المجالات المختلفة التى تنقل بينها وقدرته على تضفير الشخصى بالعام، فإنى فى القراءة الثانية انتبهت إلى ذلك الصوت الخفى الذى تحاول المذكرات لفت الانتباه إليه، ما عاشه واتصل به ثم لم يعد موجودا، فى معرض حديثه عن أم كلثوم وتسجيل أغانيها يقول «من لم يسمع صوت أم كلثوم بأذنه من خلال حفلاتها لم يعرف صوتها الحقيقي»، ساعتها أغلقت كتابه وعدت إلى بعض أغانيها استمع إلى تلك المعجزة الربانية الخالصة واسأل نفسى بحسرة من يتخيل جمالا لا يمكن له الوصول إليه: فماذا كان صوتها الحقيقى إذا!
بهذا الإحساس التقيت سلماوى لتهنئته بالجائزة، ولأبحث عنده عن مذاق بعض ذلك الذى ضاع ولا يمكننا استرداده، عن عالم نقرأه فى الكتب ونراه فى الأفلام ونستمع له عبر التسجيلات، ومن خلال هذا أزعم أن هذا الحوار يقدم صورة أكثر شمولا لسلماوى والذى تتوزع موهبته بثراء وامتداد مدهشين فى مجالات متعددة ومتناقضة أحيانا.
ـ نبدأ من جائزة النيل التى حصلت عليها بعد منافسة مع الدكتور محمد عناني. وقد ذكرت مسألة التنافس هنا لأنها أصبحت مسألة مثارة طوال الوقت على الساحة الأدبية المصرية والعربية.. جدل حول من فاز ومن لم يفز إلى درجة أنها باتت تصرف أنظار القراء عن ضرورات الجائزة وما هى موضوعة لأجله من التشجيع على القراءة والثقافة..
أولا أنا سعيد باستخدامك لكلمة منافسة، ففوز واحد بجائزة لا يعنى أنه انتصر على المرشحين الآخرين، أو أنه أفضل منهم بالضرورة، وفى حالة د.عنانى مثلا فهو قامة ثقافية وفكرية كبير، هو فى رأيى أفضل مترجم فى مصر الآن، ومنذ فترة طويلة، من الإنجليزية إلى العربية ومثال ذلك ترجماته لشكسبير، وبسبب ولعى بشكسبير فقد قرأت الكثير من الترجمات وأعتقد أن ترجمات الدكتور عناني، التى مزج فيها بين اللغة البلاغية وما يقترب جدا من اللغة الدارجة، مثلما هو الحال فى النص الشكسبيري، تعتبر بلا جدال أفضل ترجمة عربية لشكسبير، وكم كنت أود أن يتمكن الدكتور عنانى من ترجمة كامل أعمال شكسبير. لأن أحدا لم يقترب من المستوى الذى وصل إليه فى ترجماته.
وبالطبع له ترجمات أخرى مهمة فى الأدب الإنجليزي، فهو أستاذ كبير ويستحق عن جدارة جائزة النيل لأنه ليس كمثله أحد فى مجال تخصصه الذى شرحته، ولكن الفوز فى سنة معينة لمرشح من المرشحين لا يعنى أنه وحده الذى يستحق الجائزة، فليس هناك إلا جائزة واحدة كل عام ومن لم يفز هذا العام يمكن أن يفوز فى العام التالي، وأنا نفسى مررت بهذه التجربة لأنى من أربع سنوات يجرى ترشيحى لجائزة النيل، وإيمانا بهذه القاعدة التى شرحتها لك امتنعت عن الترشح فى أحد الأعوام بعد أن حدثنى صديق عزيز، وهو قامة ثقافية كبيرة، بأنه يريد الترشح للجائزة، فما كان منى إلا أن طلبت من الجهة التى كانت قد فاتحتنى فى أمر الترشح بأن ترشحه هو بدلا منى وقد كان، وها أنا فى السنة الرابعة أفوز بها وهذه هى الترجمة لكلمة منافسة التى تفضلت بها، إنما للأسف بعض الناس لا تنظر لها على أنها منافسة طبيعية إنما تظنها تفضيل شخص على آخرين جديرين ربما بالقدر نفسه أو أكثر بالجائزة، وهذا هو حال الجوائز كلها ليس فقط جوائز الدولة فى مصر وإنما حتى الجوائز العالمية.. العالم إلى الآن يتساءل كيف لم يفز أديب وروائى إنجليزى كبير مثل جراهام جرين، الذى لم يختلف أحد على قيمته، بجائزة نوبل! وكيف لم يفز فلان بالجونكور! وكيف لم يفز علان! لكن هذه طبيعة الجوائز وعلينا رؤيتها فى هذا الإطار.
ـ مؤخرا صدر كتابك «العفريتة» سلسلة مقالات سبق نشرها فى الفترة قبل 2011 ويتضمن إشارة إلى أن بعض ما يضمه من أوضاع ما زلنا نعانى منه إلى اليوم. فى تقديرك من 2011 إلى الآن ما الذى تغير وما الذى بقى على حاله؟
لا شك فى أن مصر تمر حاليا بمرحلة انتقالية كبرى، لسنا كما كنا قبل 2011 وفى الوقت نفسه لم نصل إلى تحقيق المجتمع الذى نتطلع إليه جميعا، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، والمرحلة الانتقالية بطبيعتها يكون فيها بعض الجديد ولكن فيها أيضا الكثير من القديم الذى لم نتخطاه بعد.
فلا نستطيع أن ننكر أن ظاهرة الإرهاب التى عانينا منها طويلا تراجعت وكادت تختفى إلا فى الأطراف البعيدة، كما تم الحفاظ على البلد من التجزئة والفوضى الأمنية وغيرها مما تعانى منه الدول المجاورة، وفى رأيى أن أهم الجديد أو المتغيرات التى حدثت بعد 2011 أن الرأى العام فى مصر أصبح له وزن ولم يعد كمية مهملة، وكلمة «خليهم يتسلوا» هى مثال حى يوضح كيف كان ينظر للرأى الآخر، فأى معارض أو مجموعة من المعترضين على ما يجرى لا نعيرهم اهتماما، لكن الذى حدث هو أن هؤلاء هم من ولدوا الانفجار الشعبى فى ميدان التحرير. الوضع الآن اختلف كثيرا، وربما يصلح كمثال ما نشر أخيرا فى الصحف من أن الحكومة، التى لم تكن فى السابق تعبأ بالرأى العام، سحبت من مجلس النواب عدة مشاريع لقوانين كانت قد تقدمت بها للمجلس، وذلك على إثر رفض النواب الذين يمثلون الشعب لها، وقبل ذلك كان هناك مشروع «عين القاهرة» فى الزمالك والذى رفضه الناس وشنوا حملة واسعة ضده فتم سحبه.
هذه لم تكن تتكرر كثيرا فى السابق وتدل على أن الحكومة الآن تراعى إلى حد كبير رد فعل الناس لسياستها. لاحظت فى متابعتى مناقشة قانون التعليم داخل المجلس أن كثيرا من النواب الذين تحدثوا عنه قالوا أن أولياء الأمور لا يقبلون النقاط كذا وكذا، المرجع بالنسبة لهم هو أولياء أمور الطلبة الذين سيغير هذا القانون من طريقة تعليمهم بشكل جذري، ورغم أنى مؤمن بأن القانون كان جيدا وكنت أتمنى ان يمر لأنه كان من شأنه أن يحدث طفرة وتغيرا نوعيا فى أسلوب التعليم عندنا لكنى توقفت أكثر عند نزول الحكومة على رأى الشعب فى هذا الموضع.
لكن بجانب هذا ما زال هناك فى حياتنا النظام البيروقراطي، الجاثم على صدورنا والذى يعطل من الانطلاق الى التقدم المنشود مازال ضاغطا وحتى أنه يتسبب فى كبح جماح التقدم السريع، يعنى الانطباع الذى تأخذه حاليا أن هناك محاولات حثيثة لإعادة البناء بشكل سريع ومتلاحق إنما البيروقراطية تسحب هذا إلى الوراء. أيضا أعتقد أن الانفتاح على الرأى العام لم يواكبه انفتاح سياسى بالقدر نفسه، فمازالت الساحة السياسية تعانى من غياب الأحزاب رغم أنها قائمة ولدينا على الورق ما يزيد عن 100 حزب معارض لكنك لا تكاد تشعر بوجودها إلا من خلال بعض الصحف التى تصدر عن بعضها. الحياة السياسية تحتاج إلى تنشيط وإلى تشجيع الآراء الأخرى وهنا على السلطة السياسية فتح هذا الباب ودعوة هذه التشكيلات المعارضة كى تشارك فى الحوار العام حول ما يجرى من حولنا سواء فى الداخل أو الخارج. يضاف إلى هذا أننا نستطيع أن نحقق قدر أكبر من حرية التعبير بشكل عام.
ـ هل تتابع السوشيال ميديا؟
إلى حد كبير. أطرح على الفيس بوك أو تويتر بعض آرائى بين الحين والآخر وأتفاعل مع ما هو قائم.
لأنك تحدثت عن قانون التعليم وأن الحكومة استجابت للرأى العام بشأنه. نحن فى اللحظة الحاضرة لما بنتكلم على الرأى العام نقصد بالتحديد جمهور السوشيال ميديا، وسيلة التعبير التى تلتفت لها الحكومة المصرية أو غيرها من حكومات العالم. فهل ترى أن هذا الرأى العام قادر على صنع التوازن فى إطار عملية التغيير، مع الوضع فى الاعتبار العوامل التى تشكله من ثقافة وتعليم أو حتى مصالح شخصية؟
أتفق معك أن الرأى العام ليس ما هو موجود فقط تحت قبة البرلمان، لكن الرأى العام أيضا ليس هو ما فقط ما نجده على السوشيال ميديا. بل هو ما يعبر عنه النواب فى البرلمان، وما يعبر عنه المواطن العادى الذى قد لا يتعامل مع السوشيال ميديا. الرأى العام متنوع الجهات، ولكن الحكومة لا أرى أنها تتفاعل كثيرا مع الرأى العام الخاص بالسوشيال ميديا، هى تتعامل مع الرأى العام الرسمى من خلال البرلمان وحين سحبت مشاريع القوانين لم يكن بسبب معارضة السوشيال ميديا رغم أنها كانت أكبر من تلك التى كانت فى البرلمان، وربما على الحكومة أن تنفتح على جميع قطاعات الرأى بشكل أكبر.
هناك بعض الأمثلة التى تدل أيضا علي مراعاة الحكومة للرأى العام خارج البرلمان ولكن تلك عادة ما تكون حكرا على الشائعات التى تسارع إلى نفيها وهى تنظر لها نظرة سياسية بحتة لأنها تعتبر، وهى محقة فى هذا إلى حد كبير، أن الكثير من هذه الإشاعات تطلقه جماعات الإخوان المسلمين لتنال من أى تحرك تقوم به الحكومة لهذا تتعامل معها ليس فقط من باب حق المواطن فى معرفة الحقيقة وإنما على اعتبار أنها معركة بينها وبين الإخوان المسلمين فإذا طرحت الشائعة فواجبها التصدى لها وتفنيدها.
على أنى أعتقد أن المفتاح فى كل هذا هو قيام الأحزاب بدورها لأنها هى التى ستجمع كل هذه القطاعات من الرأى العام، هى التى ستضم النواب الذين ينتمون للحزب بآرائهم، وهى التى ستعبر عن رجل الشارع، وهى التى ستكون مدركة لما يطرح فى السوشيال ميديا من آراء وتبلور كل هذا فى موقف حزبى واضح تطرحه بشكل مؤسسى ومن ثم تتعامل الحكومة معه بهذا الشكل ومن هذا المنطلق.
ـ هل تتفق مع فرضية أن الثقافة هى الملف الوحيد الذى لم يتحرك من 2011 إلى الآن، بل ربما ازدادت جمودا وفقدت التواصل مع الناس سواء برحيل مجموعة من كبار المثقفين، وبعجز وزارة الثقافة بكل هيئاتها عن طرح مشروع يناسب المرحلة؟
دعنا نبدأ من البداية فنقول إن الحكومات المتتالية منذ ما قبل ثورة 25 يناير وما بعدها أيضا لا تزال غير مدركة لأهمية الثقافة والدور المحورى والحيوى الذى تقوم به فى عملية التنمية وفى الانفتاح السياسى وفى كل ما تعلن الحكومة أنها بصدد تحقيقه. بدون الجهد الثقافى فإن هذه الجهود كلها لا تتجذر فى الأرض ولا يصبح هناك ضامن لبقائها، أنت لم تكن تستطيع أن تنشئ السد العالى من دون أن يصاحب هذا المشروع العملاق عملية ثقافية توازى فى بنائها وأبعادها هذا المشروع العظيم بالأغنية وبالمثال وبعشرات اللوحات الفنية التى رسمها كبار فنانى العصر من عبد الهادى الجزار وحامد عويس إلى تحية حليم، وبالطرح الذكى الذى حول مشروع السد إلى رمز لتحرر الإرادة الوطنية، وهكذا يصبح الوعى الشعبى بالسد هو الحامى له والضامن لبقائه.
إذا نظرنا إلى وزارة الثقافة نجد أن هناك حوالى ٧ وزراء تقلبوا على الوزارة بعد 25 يناير وبعضهم لم يكمل العام فى منصبه، هذا يدل على نظرة الاستخفاف تجاه وزارة الثقافة. وقد راعنى حين دخلت لجنة الدستور وبدأت عملى بالاطلاع على جميع دساتير مصر السابقة، ليس فقط منذ دستور 23 وإنما منذ وثيقة الخديو إسماعيل التى كانت بمثابة الإرهاصة الأولى لما يشبه الدستور حين أنشأ البرلمان فى عهده، وعندما راجعت كل هذا لم أجد فى أى من تلك الوثائق اهتماما يذكر بالثقافة، ومصر هى دولة ثقافة فى الأساس، القوى الناعمة التى حققت لها مجدها على مدى التاريخ من أيام الفراعنة إلى الآن، ليس بالجيوش الغازية وليس بالأموال وإنما هذا المجد الذى بهر العالم كان بالمعمار وبالفكر وبالفن وبالأدب، هذه قيمة مصر وقوتها التى استمرت معها منذ أخناتون ورمسيس إلى عبد الناصر فى الستينيات عندما دخلت مصر فى عهده كل الدول العربية، بالأغنية والفيلم والقصيدة والكتاب واللوحة التشكيلية، عندما تراجع دساتير مصر لا تجد ذكرا لهذا الرصيد ولهذه القوة، لذا قد كان من دواعى فخرى ومما أعتز به أننى أدخلت لأول مرة فى الدستور المصرى بابا مستقلا عن الثقافة تحت عنوان «المقومات الثقافية» وذلك أسوة بالمقومات الاقتصادية والسياسية الموجودة فى الدستور، وينص أول بند فى هذا الباب على أن الثقافة حق للمواطن وأن على الدولة أن تكفل هذا الحق لجميع المواطنين بلا تمييز سواء بسبب البعد الجغرافى أو القدرة المالية، يعنى لم يعد اليوم دستوريا أن يظل سعر الكتاب حائلا دون وصول هذه الخدمة الثقافية للقارئ العادي، أصبح لزاما على الدولة وفق ما نص عليه الدستور فى هذا الباب ان تضمن وصول الكتاب للقارئ.. كيف؟ ربما بدعم الكتاب، أو برفع الضرائب عن مستلزمات صناعته، أو ربما بطرق أخرى لا أعرفها، على كل حكومة وفق سياستها وتوجهاتها أن تبحث عن الوسائل التى تطبق بها هذه المادة التى تضمن بها أن يكون سعر الكتاب أوثمن تذكرة الأبرا أو أى خدمة ثقافية أخرى فى متناول جميع المواطنين بلا تمييز بسبب قدرتهم المالية أو بسبب البعد الجغرافي، لم يعد دستوريا ألا تصل الخدمة الثقافية إلى المواطن المصرى لأنه يقطن فى العريش أو فى سيوة أو فى الصعيد، المادة الدستورية ملزمة للحكومة أن توفر الخدمة الثقافية الموجودة فى القاهرة لكل المواطنين بلا تمييز.
ومن بين مواد هذا الباب مادة تنص على عدم جواز إصدار أحكام سالبة للحريات فى قضايا التعبير سواء بالنشر الصحفى أو الأدبى أو غير ذلك من المواد المهمة التى دخلت فى الدستور والذى كنت أتوقع أنه بصدوره يتغير النشاط الثقافى تماما ونصل إلى تحقيق ما نسميه العدالة الثقافية لكن إلى الآن ما زال من يعيش خارج العاصمة محروما من النشاط الثقافي، مازال المواطن العادى غير قادر على شراء كتاب لارتفاع سعره إلى آخر هذه التجاوزات التى هى فى رأيى غير دستورية.
وأحد أسباب عدم تطبيق هذه المواد هو أن القوانين المنظمة لهذه لها لم يصدرها مجلس النواب، وكنت أدعو أثناء مناقشات لجنة الخمسين إلى قيام غرفتين للبرلمان، غرفة عليا تضع الاستراتيجيات، والغرفة الأخرى تعنى بالمشاكل اليومية للناس، وكنت اتصور أن تكون مهمة الغرفة العليا أن تعكف أولا على وضع القوانين المطبقة لهذا الدستور الجديد الذى به من المواد المستحدثة ما يفوق الأربعين مادة، لم ترد فى دساتير مصر من قبل والغالبية العظمى منها تتعلق بالحريات وبحقوق المواطن، وهى كفيلة بتغيير وجه الحياة فى مصر لكن ما لم تصدر القوانين المطبقة لهذه المواد تظل مواد منوصا عليها فى الدستور كمبدأ دستورى بينما القاضى يحكم فى النهاية بالقانون الذى أمامه.
ـ المقصود إذا أن وزارة الثقافة مقيدة.. هل هذا استنتاج صحيح؟
الوزارة بكل هيئاتها، قصور الثقافة قادرة على الوصول إلى المراكز والقرى، هيئة الكتب تصدر كتبا مخفضة، المكتبات العامة موجودة.. هناك حلقة مفقودة، يعنى من الأمور الإيجابية مؤخرا انحسار سطوة التيارات الدينية وتوقف لعبة الشد والجذب بين الدين والثقافة، وكان البديهى مع انحسار التيار الدينى المتشدد عودة الثقافة لدورها الطبيعى وتملأ الفراغ، لكن العكس يحدث، نشهد انحسارا للدور الثقافى المصري.. هنا أنت تكلمت فيما يخص الدولة، وما أراه أن وزارة الثقافة لديها إمكانيات غير قادرة أو لا تريد استخدامها ولا أعرف السبب.. وبجانب هذا هناك المثقفون المصريون الذين خفت صوتهم وتأثيرهم إلى حد بعيد.. هل تتفق مع هذا؟
ألاحظ هذا، لكن لا بد من إدراك أن تأثير المثقفين لا يتحقق إلا بوجود المنابر التى تطرح من خلالها إسهاماتهم، لا يكفى أن نقول مثلا أن عندنا نصوصا مسرحية ونتساءل لماذا لا تنتشر بين الناس! هى لا تنتشر لأنه لا توجد خشبة مسرحية تقدم عليها هذه النصوص، نفس الشيء بالنسبة للمثقفين.. لماذا خفت دورهم؟ لأنه ليس هناك المنبر الموازى للخشبة المسرحية والذى من خلاله يصل المنتج الثقافي. كيف تحدثنى عن دور المثقفين والتليفزيون الرسمى للدولة، ولا أتحدث عن التليفزيون التجارى الذى لا يهتم كثيرا بالثقافة، لا يقدم الحد الأدنى من الجرعة الثقافية المطلوبة لتكوين عقل ثقافى مستنير؟ ظللنا لسنوات طويلة قبل الثورة نحشو هذا العقل بالمواد الدينية، ولا أتحدث عما فعله الإخوان المسلمون إنما عن الحكومة وتليفزيونها الذى حول الشيوخ إلى نجوم البرامج التفزيونية وبالتالى أصبح ما يشغل العقل المصرى هو بأى قدم ندخل الحمام باليمين أم اليسار، هل اليد اليسرى نجسة؟ وأهمية الحجاب والنقاب فى حياتنا، وماذا عن الرداء الإسلامي.. ما هذا العبث؟ ثم بعد أن يقوم الشعب ثائرا على حكم الإخوان ويسقط حكمهم فى واقعة تاريخية عظيمة ننظر إلى التليفزيون مرة أخرى فلا نكاد نجد انعكاسا لذلك. حين تشاهد برامج التليفزيون الأجنبية تخرج من كل برنامج بجرعة ثقافية ومعرفية جديدة وكبيرة بصرف النظر إن كان البرنامج الذى تشاهده ثقافى أم سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا. من أين تريد للمثقف أن يصل للشعب والجمهور؟ من أين؟ من أى باب وعبر أى طريق؟ هل يمشى فى الشارع ينادى بما يعتقده كالمجنون؟ ما لم تكن هناك خطة مركزية لهذا الوضع الثقافى المطلوب فلن يعود للمثقفين صوت.. لا يكفى أن يقدم قصر ثقافة ما ندوة حول موضوع ما ليكون قد أوصل صوت المثقفين إلى الناس، هى رؤية ثقافية متكاملة تتغلغل فى كل الأنشطة المجتمعية.
ـ ومن المفترض أن يطرح هذه الرؤية على الدولة وعلى الحكومة ويتولى إقناعها بتنفيذها، يعنى من الواضح أن الدولة لن تقتنع بمفردها أن للثقافة دورا حيويا وخلافه. لأن هذه المطالبات متكررة وعبر سنوات ولا تصل..
صحيح، لا تصل، لكن ليس لعيب فى المثقفين، فأنا ما قلته لك الآن ليس جديدا فقد نادينا به جميعا مرارا وتكرارا، لكن كل ما نملكه كمثقفين هو أن نطرح تصوراتنا وأن نحذر من أنه إذا لم نلتفت إلى هذا الموضوع ستتفاقم الأمور بشكل لا يتمناه أحد، وقد حذرنا كثيرا من خلال أحاديث وندوات ومؤلفات وأعمال فنية، ألم أحذر فى مسرحية «الجنزير» عام 1995 من أن تفاقم الاتجاه الدينى وعدم التصدى له فكريا وليس فقط أمنيا سيوقع مصر فى النهاية رهينة فى يد الاتجاه الإسلامى، صورت فى المسرحية عائلة مصرية وقعت رهينة فى يد إحدى هؤلاء الجماعات، وحدث بالفعل فى 2012 أن وقعت مصر كلها رهينة فى يد الإخوان المسلمين. ماذا يملك المثقفون غير التبصير والدعوة والتحذير!
ـ إذا اتفقنا على تراجع دور التيارات الدينية حاليا، وأنت تكلمت عن العقل المصري، فى تقديرك ما الذى يملأ هذا العقل الآن إن لم تكن الثقافة حاضرة وقوية؟
أتفق معك أن أحد الأشياء التى تغيرت فى المجتمع بعد 2011 هو تراجع الأعمال الإرهابية وتراجع قوة الإسلام السياسى وممارساته، ولكن لا تنس أنه على مدى أربعة عقود من بداية السبعينيات وحتى قيام الثورة والعقل الجمعى المصرى يتم حشوه بالفكر الدينى الذى لا يمت للدين بصلة وإنما يعنى بقشور بعيدة تماما عن روح وقيمة وعمق العقيدة.
عندما تسألنى ما الذى يملأ العقل الجمعى المصرى اليوم أقول لك إنه الفكر الدينى المسطح. أدعوك لأن تطلع على الفتاوى التى تصدر من دار الافتاء لكى تراجع نوعية الفتاوى المطلوبة وكيف أن الناس ما زالوا يعتبرون الدين المرجع الأوحد فى كل أمور حياتهم حتى فيما لا يتعلق بالدين، تجد من ترسل إلى دار الافتاء تسأل: شقيق زوجى حضر إلينا فى المنزل ولم يكن زوجى موجودا ففتحت له الباب فهل ارتكبت بذلك إثما؟ فيرد عليها الشيخ الجليل: إذا كنتِ تركتِ باب الشقة مفتوحا أثناء وجوده فأنك لم ترتكبِي خطأ أما إذا أغلقتِ الباب.. إلخ. هذا ما يشغل العقل المصرى الآن وسيظل هكذا إلى أن توضع خطة مركزية كى تملأه بالبديل..
ـ لكن اسمح لي.. نحن فى المقابل نرى صورة فى الشارع أو على مواقع التواصل ومن خلال قنوات أخرى تظهر جرأة أكبر فى الحديث عن الدين، فى الخروج عليه أحيانا وإعلان رفضه إعمالا بمبدأ الحرية التى منحها الله للناس فى الاختيار، رفض واسع ومناقشات بحرية لم نرها من قبل ضد كلام أحد الشيوخ عن جسد المرأة وحق الزوج، ونرى دعوات لتحرير جسد المرأة من الأفكار الظلامية. هذا يشير لتغير، لا أقول بشكل واسع لأن هناك فى المقابل قطاعات لا تزال تمارس تكفير مثقفين كما حدث مع نوال السعداوى بعد موتها أو من يدعو لعدم تهنئة المسيحين بأعيادهم لكن تتصدى لها أصوات شجاعة ترفض والمساحة تتسع لها.
بالتأكيد هناك تغير لكن من أين يأتي؟ هل هو نتيجة لتغير السياسة العامة للدولة بأن تفتح المجال ليدخل النور إلى هذه الدهاليز المظلمة التى تولدت خلال الأربعين عاما الماضية أم أنها اجتهادات فردية ومبادرات شخصية من المثقفين أنفسهم؟ كل ما ذكرته لى آت من أفراد: إسلام البحيري، خالد منتصر، سعد الدين الهلالي، وغيرهم، هذا شىء جيد وتطور محمود أن نجد أن الذين كانوا نجوما فى عصر السادات فى التليفزيون استبدلوا بأسماء مستنيرة بدأت تأخذ حظها فى النجومية، لكن ما أطالب به أن يتحول هذا إلى جزء من السياسة الرسمية للدولة فى التصدى للنشاط الإرهابي، كما تستخدم الدولة الشرطة أو الجيش ككتيبة تتصدى للنشاط الإرهابي، فأيضا هناك كتيبة المثقفين المستنيرين. ولا يجب أن نعتبر أن الدولة فى حالة حياد لأنها ليست كذلك، وينبغى ألا تكون، ولا أقلل من قيمة المبادرة الفردية لكنى أطالب بمأسسة هذا الاتجاه حتى يتأصل فى المجتمع وحتى نضمن أنه ومن خلال تحديث التعليم ومن خلال سياسة التنوير العامة وليس فقط من خلال وزارة الثقافة ينشأ جيل جديد يختلف فى اهتمامه الدينى بالشكليات والتفاهات ليلتزم بحقيقة العقيدة وينظر للحياة نظرة تتماشى مع العصر الذى نعيشه وما حدث فيه من تقدم.
ـ فى إطار ما نتحدث عنه لفت انتباهى عنوان المذكرات الجزء الأول «يوما أو بعض يوم» والثانى الذى يصدر خلال الأيام المقبلة «العصف والريحان» الاستخدام للنص للقرآنى بدلالاته الواسعة.. ماذا كان فى ذهنك من وراء الاستعانة بنص روحانى عنوانا لمذكرات واقعية؟
أولا أنا لا أرى انفصالا بين التنوير وبين الدين بل على العكس الدين الإسلامي، مثل بقية الأديان السماوية حين جاء كان حركة تنويرية، وأنا كمثقف علمانى مستنير عندى مكان أثير فى نفسى لعقيدته، ثم إن القرآن الكريم هو فى الحقيقة، أبلغ الكتب الأدبية قاطبة، فى اللغة العربية، ولا أقصد أنه ليس مقدسا، لا، إنما الناحية الأدبية فى القرآن هى أعلى صور البلاغة فى اللغة العربية، ومن ثم أنا كأديب أتأثر بالقرآن ومفرداته وصياغاته ومعانيه وقد وجدت فيه بغيتى حين كنت أكتب الجزء الأول من مذكراتى والتزمت فيها ضمن ما التزمت به بالتواضع لأنه كان يستفزنى أن من يكتب مذكراته يقول إنه ليس كمثله أحد، وأنه لو كان الناس استمعوا اليه لما حدثت النكسة وأشياء من هذا القبيل التى سئمناها وينبغى ألا نأخذها مأخذ الجد، أنت فى النهاية فرد فى مجتمع به أكثر من 100 مليون بل به مئات الملايين لأن جمهورك هو الوطن العربى كله، وأنت فرد وراءك امتداد تاريخ عمره عشرات الآلاف من السنين. فقليل من التواضع.
أنا أقدم فى هذه المذكرات تجربتي، لكنها تجربة مثل كل التجارب قد يكون فيها ما يعجب الناس أو غير ذلك، فالتزمت بقيمة التواضع حتى أن أسلوبى فى كتابتها كان يميل فى كثير من الأحيان إلى السخرية من الذات، أنتقد نفسى حتى لا يبدو أننى ممتليء فخرا بما صنعت، ووجدت فى العنوان الذى يأتى فى سورة المؤمنون تعبيرا عن ذلك التواضع.. فحياتى التى أصورها فى هذا الكتاب والتى دامت أكثر من 70 سنة ما هى فى النهاية إلا يوم أو بعض يوم.
أيضا الجزء الثانى من المذكرات «العصف والريحان» العصف هو القشور التى تطير فى الهواء ويبقى الحب، والريحان هو كل ما هو ذو قيمة ورائحة زكية. فوجدت فى هذا رمزا لحياتنا وما فيها من الغث والثمين.
ـ هى تمتد كما أعرف من 1982 إلى..
مع يسرا
من فترة مبارك إلى 2015 وقت صدور الدستور، وطبعا كالعادة أمزج فيها بين الشخصى والعام، وقد قسمتها إلى عدة فترات، فترة رئاسة مبارك، ثم قيام الثورة ثم ما حدث من تقلبات أثناء الثورة إلى أن نأتى إلى السنة التى قضتها مصر تحت حكم الإخوان ثم سقوط حكمهم ثم الدستور الجديد وإقراره فى 2014. وذلك كله من خلال تفاعلى الشخصى مع هذه الأحداث قبل وبعد الثورة، سواء فى اتحاد الكتاب أو فى لجنة الخمسين وما قمت به كمتحدث رسمى لها، أو فى المجلس الاستشارى الذى كونه المجلس العسكرى بعد الثورة واستقالتى منه والتى لم أكن قد ذكرت أسبابها من قبل. كما أرصد دور المثقفين ودور اتحاد الكتاب وما قمنا به فى ميدان التحرير وما قمنا به داخل الاتحاد مثل عقدنا لجمعية عمومية طارئة شارك فيها الأدباء جميعا من مختلف الأطياف والاتجاهات أعلنا فيها أن كتاب مصر يسحبون الثقة من الرئيس الإخوانى فى واقعة غير مسبوقة وغير ملحوقة، فلم يحدث أنه أثناء حكم رئيس أن قامت نقابة من نقابات الرأى بسحب الثقة من رئيس جمهورية كما فعلنا. أيضا تضم المذكرات المعارك التى خضتها سواء من خلال مواقفى السياسية المختلفة مع الحكومة أو من خلال مسرحياتى التى دارت حولها معارك مع الرقابة فى ذلك الوقت، كنت تحدثنى الآن عن «الجنزير» التى كانت تحذر من الإرهاب وتطالب بالتصدى له وكنت أتصور أن الحكومة تدعم مثل هذه المبادرة من مثقف أو كاتب مسرحى لكن الذى حدث تتعجب حين تعرف أن مسارح الدولة ظلت لسنوات ثلاث ترفض تقديم هذه المسرحية..
ـ لماذا؟
لأن الحكومة كانت فى ذلك الوقت تعتبر أن التصدى للإرهاب حكر عليها فقط وعلى وزارة الداخلية بالتحديد، وأنها ليست معركة المثقفين أو المجتمع ككل..
ـ أنت عملت فى الجامعة والصحافة ولك اتصال قوى بالمسرح، لا بد أنك رصدت فى تلك الفترات علامات ومؤشرات الانهيار وصولا إلى ما نحن فيه الآن، كل مجال فيها كان قويا للغاية، ومذكراتك فى الجزء الأول منها تكشف عن مدى التنوع والتسامح الذى كان يسود.. أين ذهب هذا كله فى تقديرك؟
لا شك أنه حدث انهيار بشكل كبير فى مجالات الحياة المختلفة، وهذا باعتراف الجميع، حتى باعتراف القيادة السياسية ذاتها التى تؤكد على تسلمها مؤسسات الدولة منهارة. لكن علينا تذكر أن الانهيار كان فى المؤسسات وبنسبة أقل كثيرا فى الوجدان المصري، والهوية المصرية التى قاومت هذه الانهيارات والتى نجحت فى النهاية فى الثورة على الأوضاع السائدة فى 2011 ثم فى 2013..
ـ ماذا تقصد؟
أعنى أنه رغم انهيار المؤسسات السياسية والصحفية وخلافه فإن الجذوة الإنسانية داخل الإنسان المصرى بقيت، رغم كل التراجع الذى حدث بقى الإنسان المصري، ولولاه لما حدثت 25 يناير..
ـ عذرا، ألا ترى أن مسألة الجذوة داخل الإنسان المصرى تعبير بلاغى بعض الشيء مقارنة بما حدث من انهيارات؟ أى جذوة نتحدث عنها وسط كل ذلك التفكك والتداعى فى مختلف المؤسسات وعلى مستوى المجتمع؟
أنا أتحدث عن الشباب. ألم يخرج شباب مصر فى 2011 ويطالبوا بإسقاط النظام، ألم يزحف المثقفون إلى وزارة الثقافة واعتصموا بها للمطالبة بإقالة الوزير الإخواني؟ ألم ينزل الشعب المصرى كله بشيوخه ونسائه وأطفاله فقراء وأغنياء إلى ميدان التحرير يطالبون بوضع أفضل ويرفضون هذه الانهيارات التى تجرى من حولهم؟ لا شك أن هذه ظاهرة صحية وليست ظاهرة انهيار للإنسان المصرى. الثورة جاءت من الشيء الوحيد الذى لم يكن قد انهار فى مصر وهو الإنسان المصرى الذى عانى من كل هذه الانهيارات ومن ثم ثار عليها، ورغم كل المحاولات للقضاء عليه ورغم الخطط القادمة من خارج الحدود لهذا الغرض.
حين نستعيد سويا ما تم فى السبعينيات وتجد مسألة هوية الوطنية ذاتها محل تساؤل وناس تطلع تقول لك نحن لسنا عربا ونعمل اتفاقية مع إسرائيل ونقول أنهم أصدقاؤنا، وندير ظهرنا للعالم الثالث الذى كنا أحد قاداته، ونقول أن امريكا هى من عندها 99 فى المئة من أوراق اللعبة، ويخرج من يقول أننا فراعنة، ويتحدث أحد كبار المثقفين عن التزاوج بين العبقرية اليهودية المتمثلة فى إسرائيل والسوق العربية. هذا كان يجب أن يقضى على الشعب المصرى تماما وعلى هويته وعلى شخصيته ويزعزع ثقته فى نفسه وفى كل معتقداته، ولولا قوة هذه الجذوة داخل المصرى ما كان قد رفض هذا وثار عليه من خلال التراكمات التى تفجرت فى النهاية فى 2011.
ـ إذاً بداية الانهيار لو أنى فهمت جيدا هي..
بداية السبعينيات.
ـ الانفتاح؟ أم كامب ديفيد؟
كلها أعراض مختلفة لسياسة واحدة. تسألنى لماذا انهارت هذه المؤسسات؟ أجيبك بأنها تنتعش وتؤدى دورها حين تتحكم فيها منظومة مركزية محددة المعالم والأهداف والهوية. فى الخمسينيات والستينيات كانت هناك فكرة القومية العربية والعدالة الاجتماعية، والوحدة العربية والاستقلال الوطنى وعدم الانحياز، هذه كانت منظومة فكرية وسياسية متكاملة، من خلالها يحدث التقدم والتحديث والارتقاء بالتعليم والوعي، لهذا مع ريادة مصر للعالم الثالث كنت تجد انتعاشا فى المسرح، فكل الأشياء مترابطة، وهذه المنظومة السياسية هى الخيط الذى كانت تنتظم فيه كل هذه الحبات، وحين قطعت هذا الخيط انقطعت كل هذه الحبات وذهب كل منها فى اتجاه، ويبحث المواطن وقتها عن نفسه فلا يعرف أين هي، هل هى مع تلك الحبة فى اليمين أم مع تلك الحبة فى اليسار.
فى السبعينيات على سبيل المثال لويس عوض فصل من الأهرام ومكرم محمد أحمد أخذه دار الهلال.. هل هذا معقول؟ هو مثال للانهيار الذى حدث فى الصحافة التى لم تعد تدرك القيمة الثقافية التى كانت لها فى السابق. لما تقارن هذا بالمحاولات الحثيثة التى بذلها الأستاذ هيكل فى الستينيات لكى يجلب نجيب محفوظ إلى الأهرام وأرسل له على حمدى الجمال فرد عليه: أخاف أترك وزارة الثقافة وأنا فيها مستشار للوزير ثروت عكاشة وهو صديقى فأغضبه، فيرد عليه هيكل بأن: مكتبك محجوز إلى أن تحال على المعاش، ووقع معه عقدا إلى حين هذا الموعد يقضى بأن كل أعماله تنشر فى الأهرام سنويا، إلى أن ترك ثروت عكاشة الوزارة فأرسل إليه مرة أخرى يطلبه للحضور فوجد محفوظ مكتبه جاهزا حسب الوعد.
ـ إذاً فى هذا الإطار كيف ترى عودة الدور المصرى إلى غزة، إعادة الإعمار، عودة الدور إلى أفريقيا، كيف نقرأه.. هل هو مشروع جديد أم استعادة لمشروع قديم انفصلنا عنه؟
قلت إننا فى مرحلة إعادة البناء وهذه ليست حكرا على الطرق والمدن الحديثة والكباري، وإنما إعادة بناء أيضا للدور المصرى على الساحة الدولية، بعد أن عانينا طويلا من غياب هذا الدور سواء عربيا أو أفريقيا أو فى العالم الثالث أو حتى على الساحة الدولية.
مصر لم تقدم الأموال فقط من أجل إعادة الإعمار فى غزة وإنما قامت بدور سياسى أصيل بمحاولة جمع الفرقاء الفلسطينيين ثم استخدام نفوذها فى دعوتهم للحضور إلى القاهرة للخروج بموقف واحد فى مواجهة الطرف الآخر فى أى ترتيبات سيتم القيام بها. هذا دور مصر العربى الذى كان لها والذى غاب عنها طويلا. فى أفريقيا أيضا هناك تحركات أرى أنها سيتم دعمها بشكل كبير جدا لو أننا استخدمنا فيها الكتيبة الثقافية، لأن النفوذ لا يكون سياسيا فقط، نحن للأسف فى الستينيات اقتربنا من أفريقيا سياسيا فقط، ولذلك حين تغيرت السياسة لم يعد هناك شىء باق لنا هناك. خلاص خرجنا من أفريقيا بقرار منا ودخلت أطراف أخرى معادية لنا وملأت هذا الفراغ، مثل إسرائيل وغيرها. لو كان هناك رصيد ثقافى مثلما هو الحال فى العالم العربى مثلا لكان الوضع مختلفا، نحن لم نفقد العالم العربى أبدا مهما حصل من خلافات سياسية بين الحكام لأن عندنا رصيدا ثقافيا هناك، مازالوا يحبون أم كلثوم، ويعتزون بشهاداتهم الجامعية التى حصلوا عليها من الجامعات المصرية، ما زالوا يقرأون نجيب محفوظ وطه حسين وغيرهما. الثقافة هى التى تعبد الطريق للسياسة بل وللمصالح الاقتصادية أيضا، نحن نظل دائما على صلة وثيقة بمن نقرأ رواياتهم ومن نستمع لموسيقاهم ومن نشاهد أفلامهم، وليس باللقاءات السياسية وحدها. لا بد من أساس ثقافى تقوم عليه العلاقات، وفرنسا، كنموذج، من الدول النشطة فى استخدم الثقل الثقافى فى علاقاتها الدولية، يعنى لا أنسى مرة سفيرا ألمانيا سابقا كان يمثل شركة ألمانية تقدمت لعمل مشروع التليفون المحمول فى مصر وقال لى لما رسا العطاء على فرنسا: إن فرنسا تتحدث معكم عن الثقافة وتبعت لكم الكوميدى فرانسيز تمثل فى الأوبرا ثم ينتهى الأمر بأن يأخذوا عقد المحمول. هذه هى السياسة الحقة ونحن لدينا هذا السلاح الذى لا نستخدمه بالقدر الكافى فى علاقاتنا الدولية.
ـ فيما له علاقة بالتنوع والعلاقة مع الأفارقة والعرب وغيره، أنت تذكر أن أصول عائلتك تعود إلى الحجاز قبيلة سلمى.. الفاصل بيننا وبين هذا 13 قرنا ومع هذا أنت تورده كتوثيق، أمر تعتز به ضمن مكوناتك المصرية لكن حاليا نحن نتابع مناقشات تصل إلى درجة من الحدة والاستقطاب حول إن كان غزوا أم فتحا عربيا، وآراء تقول إن مصر هى الفرعونية الخالصة بلا مكونات أخرى.. كيف ترى هذا النوع من المناقشات هل تراها امتدادا لما جاء فى مذكراتك عن دعوة موسى صبرى «لا فلسطين بعد اليوم»؟
لا بد من أن نفرق بين مثل هذه المقولات الصارخة، التى تطلق لأسباب سياسية ضمن سياسة معينة تطبقها الحكومة كالمثال الذى طرحته عندما يقول موسى صبرى «لا فلسطين بعد اليوم» لأن هذا كان يخدم سياسة السادات فى ذلك الوقت، بينما عبد الناصر كلما تحدثوا معه عن الأراضى المحتلة قال القدس قبل سيناء، فى محاولة لتأكيد أهمية القدس بالنسبة لمصر وأن القضية العربية واحدة لا تتجزأ. فلا بد من التفرقة بين المقولات التى لها أهداف سياسية وقد لا تجد صدى عند الناس بالشكل المراد لأن التعاطف الموجود مع القضية الفلسطينة بعد أربعين سنة من مقولة «لا فلسطين بعد اليوم» يدل على أن هذه المقولة كانت من العصف وطارت فى الهواء، علينا أن نفرق بين هذا وبين المناقشات الحقيقية التى تعبر عن نوع من الصحوة موجودة الآن، ونوع من البحث الجاد عن الهوية بعد ما نال هذه الهوية من ضربات أفقدتها بعض الأحيان توازنها، وجعلت بعض الناس يتشككون فيها، وربما يكون هذا عرضا صحيا أن نعيد طرح الأشياء المسلم بها للنقاش ونعيد تأكيدها فتصمد بشكل أقوى مما كانت أو تسقط إن لم تعد مناسبة للعصر.
لكن علينا أيضا ألا ننساق لأشياء سقطت من الحسبان على ساحة الفكر الدولى كله كأن نتحدث عن مصر الفرعونية الخالصة، تاريخ مصر كله تداخل وامتزج مع محيطها. لقد ثبت علميا وعالميا أنه ليس هناك دولة خالصة،هذا غير موجود، وسقطت الفكرة منذ سقوط هتلر الذى آمن بالجنس الآرى وثبت أنه ليس هناك مخلوق واحد فى العالم يتكون من عنصر واحد، كلنا اختلطت دماؤنا، والنظرة القومية الحقيقية حين تتمعن فيها تدلك على أنه ليس هناك تناقض على الإطلاق بين المكون العام للوطن العربي، التى تجعل المواطن العربى فى لبنان لا يختلف كثيرا فى تصرفاته وهويته ونظرته للحياة عن المواطن فى المغرب أو فى السودان وسوريا، وهذا يحدث داخل الدولة الواحدة.
فمنطقة الصعيد فى مصرلها خصائص بالنسبة لسكانها ولهجتها وعادتها تختلف عن وجه بحرى وبدو سيناء قد يختلفون هم أيضا عن سكان وادى النيل إنما هل هذا يشكك فى انتماء الصعيد لمصر أو فى هويتها المصرية، بنفس القدر فإن كل الصفات التى تختص بها مصر فى حد ذاتها أو لبنان أو العراق أو الجزائر لا تتعارض مع الهوية العربية الشاملة التى تجمع كل هؤلاء.
ـ اتحاد الكتاب وهو سؤال مزعج لأنه كيان غير مفهوم. أنت توليت رئاسته..
10 سنوات..
ما الغامض فى هذا الاتحاد يجعله طوال الوقت نائيا إلى هذه الدرجة وغير معبر عن الكتاب المصريين أو قطاع عريض منهم، اتحادات كتاب دول العالم لها أدوار فى رعاية الكتاب وصيانة حقوقهم ومطالبهم وغيره.. ما مشكلة اتحاد الكتاب المصري؟
الاتحاد هو مثل أى نقابة من نقابات الرأى هى ما تصنعه بها، إن أردت أن تتحول النقابة إلى ساحة للدفاع عن مصالح أعضائها ستكون كذلك وإذا أردت أن تكون غير ذلك فهى غير ذلك. وحين كنت مسئولا عن الاتحاد وانتخبت بأعلى أصوات فى كل انتخابات خضتها كان لزاما علىّ أن أعبر وأبلور موقف الكتاب أعضاء الاتحاد الذين انتخبونى وأن أقوم بالدفاع عن مصالحهم، وأن أعمل مع زملائى فى الاتحاد على بلورة مواقفهم والتعبير عنها، وقد ذكرت لك مثلا حين عقدنا جمعية عمومية وسحبنا الثقة من رئيس الجمهورية الإخوانى تعبيرا عن موقف لم تقم به أى نقابة أخرى فى مصر.
من خلال اتحاد الكتاب العرب عملنا مرصدا للحريات فى العالم العربى ليصدر مع كل اجتماع يتم للمكتب الدائم تقريرا كل ستة أشهر عن حالة الحريات فى الوطن العربى نرصد فيه التجاوزات التى تحدث فى كل دولة ضد الأدباء والمثقفين، وطالبنا كل اتحاد فى كل دولة من الدول العربية أن يرسل لنا بتقرير من عنده لتضمينه داخل هذا التقرير، وكنا نصدر التقرير بثلاث لغات الفرنسية والعربية والانجليزية، وتحول هذا التقرير، وأنا ناشر بعض أجزاء منه فى الجزء الثانى من المذكرات، إلى مرجع لمن يتابعون مسألة حرية التعبير وحقوق الإنسان فى العالم العربى بعدما كان مصدرهم فقط هو المنظمات الأجنبية.
اتحاد الكتاب كان أول جهة تقدم بلاغا للنائب العام للتحقيق فى المحرقة التى حدثت فى قصر الثقافة ببنى سويف، موقف لا شك أنه معبر عن الكتاب وليس عن الحكومة.
لما توليت رئاسة اتحاد الكتاب وجدته يعتمد على معونة يأخذها من وزارة الثقافة قلت بهذا يكون الاتحاد تابعا للوزارة فأول حاجة ضاعفت المبلغ الذى نأخذه من الوزارة ليصبح نصف مليون جنيه سنويا، ثم قمت بتنويع مصادر الدخل للاتحاد وفتحت باب التبرعات فحصدت الملايين مما مكننا من ترميم مبنى القلعة الذى أخذته ليكون مقرا للمؤتمرات وتكلف 2 مليون جنيه لم يدفع فيها الاتحاد مليما من ميزانيته بل كانت تبرعات من جهات مختلفة فى البلد فأصبحت حر التحرك مما سمح لى بالتقدم بذلك البلاغ بالتحقيق فى المحرقة.
ـ لك تواجد ونشاط فاعل فى مجالات مختلفة.. الصحافة والمسرح والسياسة كيف يمكنك الفصل خاصة أن بعضها بطبيعته يمكن أن يكون ضد الإبداع فكما يقول كثيرون.. الصحافة تفسد الأديب فمال البال وقد أضفت إليها الوظيفة فى بعض الأوقات، وأضفت إلى ذلك المجال السياسي؟
شوف فيه ناس تكون بطبيعتها متعددة الأنشطة وأيضا متعددة المعارف يقول لك هذا مثقف موسوعي، وهناك ناس تكتفى بالتخصص، مثل جراح عبقرى فى عمله لكن ليس بالضرورة أن يفهم لماذا هناك كورال فى الحركة الأخيرة من السيمفوينية التاسعة لبتهوفن، وهذا مقبول لأنى أذهب إليه كجراح وحبه لبتهوفن أو عدمه لن يؤثر فى العملية التى سيجريها لي.
إنما المثقف فى رأيى يشتبك مع الحياة ككل، مع كل مناحى الحياة خصوصا عندما يكون مبدعا روائيا أو مسرحيا، الأدب يصور الحياة ككل، ومن غير المتصور ألا يفهم الأديب إلا فى البلاغة، من الضرورى أن يتصل بالموسيقى والسياسة والاقتصاد، لأنه يصور فى أعماله كل هذا، وكلما تعددت معارفه وأنشطته ازداد ثراء عمله الأدبى لأن دائرة تعبيره تصبح أوسع. وأنا بطبيعتى من صغرى يقيدنى الالتزام بنشاط واحد فقط، أحب أن أنطلق إلى شيء آخر وتعدد هذه الأنشطة يعمل لى نوعا من التوازن فى حياتي. والتعارض بالطبع قد يقع بين مختلف الأنشطة والتعارض الأكبر كان فى ناحيتين.. المواقع الرسمية التى تقلدتها وحريتى الشخصية كمثقف، مثلما كنت وكيلا لوزارة الثقافة، ومثلما اختارنى الدكتور ممدوح البلتاجى معاونا لوزير الإعلام فى الفترة القصيرة التى قضاها فى الوزارة، وفى الحالتين كنت أضيق بهذا التناقض وفى الحالتين قدمت استقالتي، بعد مرور سنة أو أكثر قليلا فى حالة وزارة الثقافة، وبعد شهور فقط فى وزارة الإعلام منتهزا فرصة نقل الدكتور البلتاجى من وزارة الإعلام فتقدمت للوزير الذى جاء بعده أنس الفقى باستقالتي.. والذى رحب بى ترحيبا كبيرا ورحب باستقالتى بشكل أكبر!
التناقض الآخر المهنى كان كما أشرت بين العمل الصحفى والإبداعى لأن العملين متناقضين الأسلوب الصحفى يعتمد على المباشرة وعلى الوصول إلى الخبر من أقصر طريق وعلى إيصال المعلومة دون التوقف كثيرا عند طرائق التعبير، بينما العمل الإبداعى هو عمل تأملى يجعلك لا تنغمس فى الواقع المعيش ولكن تنظر للحياة ككل، تنظر للموقف من عل فترى مجمل الأشياء بنظرة تأملية تجعلك لا تنحصر فى الواقع الحال مثل الصحفى وإنما ترى الماضى والمستقبل فى نظرة واحدة.
عادة الصحفى لا ينجح كأديب إنما الأديب قد ينجح كصحفى والأمثلة على هذا كثيرة جدا.. موسى صبرى ومصطفى أمين كتبا روايات لكن أين هى الآن. على النقيض تجد فتحى غانم وإحسان عبد القدوس كتبا روايات هى علامات أساسية فى تاريخ الرواية العربية. الإنسان عندما تكون تجربته الأصلية إبداعية يمكنه التعامل مع الصحافة، وبالتالى الصحافة لا يمكنها القضاء على موهبته لكن الصحافة لا تخلق الموهبة الأدبية. وقد تمكنت من حل هذا التناقض وأرى أن الصحافة أفادت عملى الإبداعى لانها قربتنى من الواقع وقضاياه بينما الأدب أفادنى فى الارتقاء بأسلوبى فى كتابة المقال الصحفي.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة